عند النظر للشكل الهندسي للمتحف المصري الكبير، على الرغم من بساطة وانسيابية التصميم، فإن الإحساس “بالعظمة” يتولد مع كل خطوة يتخذها الزائر بالمتحف، الذي لا يعتبر متحفًا بالمعنى التقليدي بل مجمعًا أو مؤسسة حضارية ثقافية لما يشمله المكان من إمكانات هائلة تؤهله ليكون قبلة للمتخصصين والمهتمين بعلم الآثار وتاريخ الحضارة، هذا الإحساس المقترن بعظمة الأجداد وثراء الحضارة المصرية، كان نتاج تضافر التقنيات الهندسية والفلسفة المعمارية لهذا الصرح.
كانت الفلسفة المعمارية وراء التصميم تشمل عنصر ” الضخامة” في البناء وهو عنصر يمنح الشعور بالهيبة و”العظمة” نجده عادةً في تصميم المتاحف العالمية والمحاكم ودور العبادة لذات الهدف، “شعور الزائر بهيبة المكان”، يضاف لهذا العنصر التصميمي عنصر التوافق مع البيئة المحيطة المتمثل في واجهة المتحف المكون من الحجر الجيري والزجاج ليماثل ألوان الصحراء المصرية مع انعكاس أشعة الشمس من الواجهات الزجاجية ذات الشكل المثلث المستوحى من الأهرامات الثلاث التي يطل عليها المتحف، ليجمع المصمم الطابع الفرعوني الكلاسيكي والهندسة الحديثة في تصميم معماري فريد يجمع بين الحداثة وعظمة الحضارة المصرية.
أما عن الفكرة الأساسية في التصميم فقد تمثلت في مد ثلاثة خطوط من رأس الأهرامات الثلاثة لتتقاطع في نقطة تبعد 4 كم عن الأهرامات، اختار المصمم أن تمثل تلك الخطوط الثلاثة محاور مبنى المتحف ليحقق منظورًا هندسيًا فريدًا باستخدام الأهرامات مازجًا بين التقنية الهندسية وأبعاد الأهرامات الثلاثة لتحقيق منظور ” البعد الرابع” في التصميم الهندسي لكتلة المبنى، كما كان اختيار المكان أمام نقطة تقاطع المحاور الوهمية الممتدة من رءوس الأهرامات الثلاثة ليكون جسم مبنى المتحف بمثابة الجسر بين التاريخ ممثلًا في أهرامات الجيزة، والحاضر ممثلًا في مدينة القاهرة خلف نقطة تقاطع المحاور ليبتكر المصمم منظورًا بصريًا عصريًا، مستغلًا مكان وقيمة المشروع الضخم الممتد على مساحة 480 الف م2.
أما عن التصميم الداخلي فقد اهتم المسئولون عن المشروع بتصميم تجربة الزائر عبر توزيع القاعات والمسارات داخل المتحف بطريقة تضمن سلاسة التجربة وسهولتها للزوار، فنجد البهو الرئيسي للمتحف واسعًا ورحب المساحة، يتوجه تمثال رمسيس الثاني العملاق بطول 12 متر ليستقبل ضيوف المتحف قبل التوجه للدرج الممتد لـ 64 متر والذي يوجد على جانبيه تماثيل ملوك مصر مثل سنوسرت ، خفرع، أخناتون وغيرهم من الملوك لتكون كل درجة من درجات السلم بمثابة خطوة في الحضارة المصرية لينتهي الدرج بشرفة زجاجية عملاقة تطل مباشرةً على الأهرامات الثلاثة في مشهد مهيب لا تصفه الكلمات.
لإثراء التجربة اختار القائمون على المشروع مع بداية الفكرة في التسعينيات ألا يكون مشروع ” المتحف المصري الكبير” مجرد متحف لعرض القطع الأثرية واستكشاف الحضارة الفرعونية، بل كانت الرؤية هي بناء متحف يليق بمكانة الحضارة المصرية ليكون قبلة للأثريين والمتخصصين والدارسين، كما ليقدم تجربة غير مسبوقة لزواره، ولتحقق ذلك فقد تم إلحاق عدد من المنشآت للمتحف والتي تحقق له الشمولية المنشودة منه كمعهد مخصص للأثريين ” الأكبر في العالم” يشمل 19 معملًا متقدمًا ومتخصصًا وقد تم بناؤه تحت الأرض لسببين؛ الأول: هو عدم المساس بالمنظور الهندسي والتخطيط العام لمشهد الكتلة الرئيسية لمبنى المتحف، والثاني: هو حماية الآثار والمعهد ومخازن الآثار من أي زلازل أو تغيرات مناخية قد تضر بها، كما يضم المتحف حديقة أثرية تستعرض أندر الأشجار المصرية، كما قاعات للعرض بأحدث التقنيات، مركز للمؤتمرات، متحف للأطفال والدارسين بالإضافة لمرافق تجارية وخدمية.

بالإضافة لكل ما سبق، وعلى الرغم من مساحته المهولة التي تماثل مساحة 70 ملعب كرة القدم، فقد تم مراعة الجوانب البيئية في المشروع عبر استخدام أساليب الاستدامة في التصميم؛ إذ نجد أن نسبة كبيرة من إضاءة المتحف والقطع الأثرية يعتمد على ضوء الشمس الذي يدخل للقاعات عبر وجهات وأسطح المتحف من خلال زوايا محسوبة ومحددة بدقة مع استخدام تقنية الزجاج المقاوم للأشعة فوق البنفسجية لينتج إضاءة طبيعية جمالية تبرز جمال القطع الأثرية دون أن تضر بها، يضاف لذلك تصميم فتحات للتهوية بزوايا محسوبة لتقلل من الحرارة داخل المتحف؛ مما يزيد من الاعتماد على الطاقة النظيفة ويقلل من استخدام الطاقة في إدارة المتحف، وقد تم المزج بين هذه التقنيات المعمارية التقليدية والتقنيات الحديثة المتمثلة في أجهزة استشعار وضبط الحرارة والرطوبة والإضاءة داخل المتحف لضمان أجواء وتجربة نموذجية للزوار.
التحدي الهندسي
لم يكن الوصول لهذا “الإنجاز الهندسي” سهل المنال، فمع كل جزء من المشروع وجدت تحديات تنوعت في طبيعتها، إلا أن التصميم على الرؤية والهدف البعيد كما حجم وقيمة المشروع، الذي يصفه مصمموه بأنه أعظم وأعمق تجاربهم الهندسية، شكلت حافزًا كبيرًا لدى مصر وكل المشاركين في المشروع من أبنائها لإتمام الإنجاز الذي استغرق أكثر من 30 عامًا منذ طرح الفكرة لأول مرة، واستغرق تنفيذها أكثر من 22 عامًا منذ بدء الخطوات التنفيذية.
- وقد واجه القائمون على هذا المشروع بمختلف درجاتهم تحديات تفاوتت في طبيعتها وشدتها، فمنها ما كان متعلقًا بالبعد الهندسي كحجم المشروع والحاجة لتطوير المنطقة المحيطة به، وهو ما تم بفضل جهود الدولة المصرية، بالإضافة لمكان أرض المشروع؛ حيث لم تكن التربة جاهزة؛ مما استدعى تجهيزها قبل صب الأساس الخرساني للمشروع بعد عمل الاختبارات الفنية للتربة؛ الأمر الذي احتاج لبعض الوقت لما للدقة من أهمية في التعامل مع مثل هذه المشروعات الهندسية العملاقة، ذلك بالإضافة لوجود “وادي” بمنطقة أرض المشروع؛ مما استدعى تمهيد الأرض وتدريجها عبر مهندسي المساحة المتخصصين، كان ذلك في المراحل الأولى للمشروع، وقد برز ذات التحدي المتعلق بالتربة مرة أخرى مع بداية تنفيذ معهد الأثريين تحت الأرض، كما حائط “منكورع” الذي شكل أبرز التحديات الإنشائية؛ حيث جرى بناؤه بعمق يصل إلى 35 مترًا باستخدام أسلوب الحفر التدريجي وصب الخرسانة، ثم إعادة التربة مرة أخرى مع تثبيتها لضمان الصلابة ومقاومة عوامل المناخ الجاف.
- كما كان موقع المشروع ذاته تحديًا للمهندسين المعماريين والإنشائيين بالنظر لوجوده على مقربة من الأهرامات وفي بيئة جيولوجية معقدة تتألف من طبقات متعددة من الرمال ووادي يمتد لعشرات الكيلومترات.
- لا يمكننا أيضًا أن ننسى التحديات المتعلقة بالشئون السياسية والاقتصادية للمنطقة، فقد أدت الاضطرابات في مصر والمنطقة بعد 2011 لتعطيل المشروع عدت مرات بسبب الأحداث السياسية، بالإضافة لأحداث أخرى أثرت على المدى الزمني للمشروع كجائحة 2019، إلا أن فهم مؤسسات الدولة المصرية لأهمية المشروع وأهمية الارتقاء بالصورة الذهنية العالمية لمصر عبر استعراض حضارتها الفريدة من نوعها كان سببًا في إتمام المشروع على الرغم من تعاقب عديد من الحكومات منذ بداية الفكرة وأثناء تنفيذها وصولًا لإتمامها بقدر عالٍ من الإجادة يبرر مدة الـ”30 عامًا” لمشروع وصفه المعماريون حول العالم بأنه ” تصميم مبتكر وعصري يتمتع بالمزج بين أصالة الحضارة وتقدم العلم” في إنجاز هندسي فريد يبقى لمئات السنين يستعرض بفخر حضارة المصريين القدماء وشاهدًا على عزيمة أحفادهم.































