يتساءل البعض لماذا كل هذا الاهتمام بالفكر الاقتصادي النظري؟ وهل هو محاولة للابتعاد والهروب من مناقشة الأوضاع الاقتصادية المعيشية حاليا؟ وهذا تساؤل مشروع وطبيعي في ظل افتراض أن مثل هذه المناقشات لا تخرج عن كونها مجرد دردشة فكرية وتمارين رياضية عقلية، والحقيقة غير ذلك تماما. فمن المعروف ان السياسات الاقتصادية المطبقة ما هي الا انعكاس لأفكار وفلسفة اقتصادية محددة، وكما قال المفكر الاقتصادي الشهير اللورد كينز وبحق فإن الاقتصاديين التطبيقيين يظنون انهم بعيدون عن التأثير الأكاديمي.. بينما هم ضحية نظريات اقتصادية ثبت خطؤه منذ زمن طويل.
انطلاقا من هذه الرؤية فإننا نري أهمية المراجعات الفكرية، خاصة هذه الفترة التي تعد وبحق فترة التباس واضطراب فكري شديدين، وتحتاج الي مراجعة فكرية شاملة، تتجاوز بكثير دائرة القضايا الاقتصادية الضيقة الي منظور أوسع يتجاوز اللحظة الراهنة وكلنا نعلم أن التحليل الاقتصادي لم يتمخض عنه نظرية اقتصادية وحيدة سليمة وكاملة من كافة الوجوه ولايوجد نموذج اقتصاد كلى مقبول عالميا كما هو الحال في الفيزياء أو الرياضيات بل مجرد مدارس اقتصادية متصارعة. وتدلنا القراءة التاريخية للتجارب التنموية المختلفة على أنها لم تسر على وتيرة واحدة، فعلى الرغم من أنها بدأت في القرن التاسع عشر مع سياسة الحرية الاقتصادية والمتوافقة مع أفكار آدم سميث فإنها غيرت هذا المسار عدة مرات، فلجأت مع فترة الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن العشرين الى التخلي عن هذا المبدأ لمصلحة تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي في إطار النظرية الكينزية التي ظهرت في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية في ثلاثينيات القرن الماضي، وهو النظام الذى ظل قائما بشكل أو بآخر حتى منتصف السبعينيات من القرن الماضي حين انتهى مع تصاعد موجات البطالة والتضخم مع الارتفاع الكبير ففي أسعار النفط والسلع ووقوع البلدان الصناعية في كساد لم يكن من المفترض أن يحدث وركود تضخمي مخالف لما كان عليه منحنى فيليبس الذى كان يرى بوجود علاقة تبادلية بين التضخم والبطالة، إذ شهدت البلدان معدلات تضخم مرتفعة وإرتفاعا أيضا في البطالة، الأمر الذى أدى لظهور المدرسة النقدية التي تمثلت في أفكار ميلتون فريدمان ومدرسة شيكاغو، الذى طالب بالعودة مرة أخرى للانفتاح الخارجي، والحد من تدخل الدولة والاعتماد على الرأسمالية باعتبارها الوحيدة القادرة على إحداث النمو شريطة إزالة جميع العوائق التي تحول دون حرية تدفق السلع والخدمات. إلخ، وهكذا انتهى القرن العشرون بتخلي الاقتصاد الكينزى عن عرشه لمصلحة ما اصطلح على تسميته، توافق واشنطن، والذي اعتمد أساسا على وصايا الصندوق والبنك الدوليين والتي تنطوي على السير في الاتجاه الرأسمالي المطلق. وهو المسار الذي أنتج العديد من الآثار السلبية والتي تكفل بإيضاحها العديد من الاقتصاديين المرموقين، وعلى رأسهم ستجليتز وبول كروجمان وغيرهما، وكلهم اصطدموا بالنتائج السلبية التي برزت من خلال السير ففي هذا المجال. خاصة ازدياد معدلات الفقر والبطالة، وأدت الى فقدان معنى العيش معا، ومعنى المنفعة العامة، وانعدام الأمان الوظيفي والاجتماعي وأضرت بأهداف النمو والعدالة الاجتماعية، أي أنها فشلت تماما في تحقيق الأهداف المنوطة منها.
وأجمعت الدراسات على ضرورة البحث عن نموذج تنموي جديد مبنى على الشفافية والاحتواء والمساءلة، ويقوم على التكنولوجيا ويشجع الابتكار والإبداع ويوفر المزيد من فرص العمل، عن طريق إصلاح نظم التعليم ليخرج لسوق العمل عمالة مناسبة لمرحلة الاقتصاد الرقمي والعمل على تحويل الموارد الطبيعية القابلة للنفاد الى أصول رأسمال مادية وبشرية قادرة على توليد الدخول وتدعيم التنمية الاحتوائية أي جعل النمو أكثر احتواء لكل شرائح المجتمع ، وهو ما يجعله قادرا على الاستدامة، وبالتالي تحقيق طموح الأفراد في مستوى معيشة مرتفع ويبث الأمل في المستقبل.
ونظرا لأن التنمية ليست تطورا تلقائيا، بل هي عمل إيجابي يهدف إلى النهوض بأوضاع وقدرات المجتمع، وعمل إرادي ينعكس في سياسات واضحة يتقبلها المجتمع ككل في ضوء أهداف واقعية محددة، فضلا عن أن النمو ليس هدفا في حد ذاته بل هو وسيلة لتحقيق الأهداف التنموية للبلاد.
وبالتالي فإن نموذج التنمية يتم اختياره من جانب المجتمع وتضع الخطة الصناعات التحويلية المطلوبة وأساليب الانتاج المستخدمة وتضع الآليات الاقتصادية التي تحقق هذه الأهداف عن طريق التدمير الخلاق على حد تعبير شومبيتر. كذلك ينبغى البحث عن عقد إجتماعى جديد داعم للنمو والعدالة الإجتماعية ويضمن الإستثمار فى البشر وتقديم الخدمات الصحية والتعليمية ويعيد توزيع الثروة. وهنا يشير البنك الدولى الى أن الإستثمار فى رأس المال البشرى من شأنه أن يولد فرصا للنمو، ولكن ذلك لايترجم بصورة ميكانيكية فهناك عوامل أخرى تتدخل فى هذه المسألة، فالتعليم يحقق طلبا مشروعا على المال العام لسببين أولهما أن العائد الإجتماعى يتجاوز بكثير العائد الخاص، أى أن المتعلمين يسهمون فى النمو بأكثر مما يحصلون عليه من أجر، وثانيهما أن الأسر قد لايكون لديها القدرة على تمويل التعليم، وبالتالى فالإنفاق العام على التعليم يحقق مافشلت فيه السوق وينطبق نفس القول على الصحة.
وفى هذا السياق أشارت التجارب الدولية المختلفة، إلى أهمية التلازم بين الديمقراطية والتنمية، والذى يعد شرطا أساسيا للنجاح، فمعظم التجارب التنموية التي نجحت قد إرتبطت أساسا بتدعيم آليات المشاركة الشعبية والديمقراطية والشفافية، وتطبيق مبادئ الإدارة الرشيدة عند وضع السياسات المختلفة، ولم تقتصر فقط على بعض الإجراءات والعمليات المتعلقة بالانتخابات.
ان هناك العديد من القضايا الأساسية والمنهجية التي مازالت عالقة وتحتاج الى إعمال الفكر بغية وضع التصورات الرئيسية حول الأطر المستقبلية. عبر دراسة التاريخ والتحليل المعمق لأخطاء الماضي والابتعاد عن التأكيدات الساذجة والمشحونة بالمغالطات والنماذج الرياضية غير الواقعية والبحث في سبل وآليات جديدة.