لطالما لعب الرأي العام دورًا مهمًا في صنع واتخاذ مختلف القرارات. وهو مؤشرٌ رئيسٌ على المزاج العام تجاه السياسات المنتهجة، وآليةٌ مهمة لتقييمها. ولكن خلال العقدين الماضيين، برز بعدٌ جديدٌ للرأي العام الذي لم يعد مقتصرًا على الأبعاد الداخلية فحسب، بل أصبح أداةً وقوةً دافعةً صوب التغيير العالمي أيضًا، وهو ما يبرز في قضية التغيرات المناخية.
أوًلا: تطور إدراك الرأي العام:
كشفت الدراسة المعنونة”The Polls-Trends Twenty Years of Public Opinion about Global Warming”، والمنشورة في دورية “الرأي العام” في خريف 2007، عن تراجع اهتمام الرأي العام الأمريكي بقضية التغيرات المناخية خلال النصف الأول من الثمانينيات، وهو ما لبث أن تغير مع ارتفاع درجات الحرارة في صيف 1988، لتحظى التغيرات المناخية باهتمام وسائل الإعلام والرأي العام الأمريكي على حدٍّ سواء؛ ليتزايد وعي الأخير بنسبة 58% بالقضية، وصولًا إلى 90% في عام 2006.
على صعيدٍ متصل، أجرت مؤسسة “جالوب” -في عامي 2006 و2007- استطلاعات للرأي العام الأمريكي، لتخلص في مجملها إلى تصدر الاهتمام بقضية “تلوث مياه الشرب” بنسبة (54% و58% على التوالي)، يليها “تلوث الأنهار والبحيرات والخزانات، ثم تلوث التربة والمياه بالنفايات السامة، يليها الحفاظ على إمدادات البلاد من المياه العذبة للاحتياجات المنزلية. وقد جاء الاهتمام بالاحتباس الحراري في المرتبة الخامسة (بنسبة 36% و41% على التوالي).
خلال عامي2007 و2008، كشفت استطلاعات “جالوب” -التي أجريت في 127 دولة- عن أن أكثر من ثلث سكان العالم لم يسمعوا من قبل بالاحتباس الحراري. وخلص الاستطلاع إلى تزايد الوعي العام بقضية التغيرات المناخية في البلدان المتقدمة بالمقارنة بالبلدان الأقل نموًا. ومع ذلك، يختلف الثقل النسبي للاهتمام بالاحتباس الحراري تبعًا لكيفية قياسه؛ ففي عامي 2006 و2007، أجرت (ABC News) استطلاعًا بطريقةٍ مفتوحةٍ، لتطلب من المبحوثين تحديد أكبر مشكلةٍ بيئيةٍ يواجها العالم آنذاك، لتحتل التغيرات المناخية المرتبة الأولى.
بشكلٍ عام، أخذ الاهتمام بقضية التغيرات المناخية شكل المعرفة العامة خلال العقد الأول من الألفية الثانية، وإن ظلت أبعادها ومسبباتها غير واضحةٍ إلى حدٍّ كبير. وهو ما أكده استطلاع “جالوب” في عام 2010. فكما هو موضح في الشكل التالي، يرى 35% من المبحوثين (من 111 دولة) أن الاحتباس الحراري ينجم عن أنشطةٍ بشرية. في حين رأى 14% من المبحوثين أن الطبيعة هي المتسببة في ارتفاع درجات الحرارة، وذلك باستثناء الولايات المتحدة التي أعزى 47% من مبحوثيها سبب ارتفاع الحرارة إلى الطبيعة ذاتها.
واتساقًا مع مسألة الوعي، وتطورات التغيرات المناخية خلال السنوات الماضية، استطلع مركز (PeW) في عام 2015 تلك القضية مرةً أخرى، للوقوف على ماهيتها وهل هي تهديد بعيد أم واقع معاش؟ ولقد أظهرت نتائج الاستطلاع أن 51٪ من المبحوثين متضررين بالفعل من التغيرات المناخية، بينما رأى 28٪ منهم أنهم سيتضررون منها في السنوات القليلة المقبلة.
ثانيًا: مظاهر التبلور:
لم تكن استطلاعات الرأي هي الأمر الوحيد الكاشف عن سمات الرأي العام العالمي؛ وبالتوازي لها، كان هناك حراكٌ مدنيٌ وسياسيٌ ترجع بدايته لعام 1970 مع إطلاق “يوم الأرض العالمي“. حين دعا 20 مليون أمريكيًا (أي ما يعادل 10٪ من سكان الولايات المتحدة أنذاك) لحماية كوكب الأرض. وهو ما مثّل دفعةً للناشطين البيئيين للتفكير في كيفية التحرك والتأثير. ومنذئذ، اتسم الرأي العام العالمي بعددٍ من المظاهر التي ساهمت في تشكيله واستمراره، وهي المظاهر التي يمكن إجمالها على النحو التالي:
- مأسسة الحراك العام: عقب تدشين “يوم الأرض العالمي”، اتجه الناشطون إلى مأسسة نشاطهم وقضيتهم. وعليه، ظهرت أحزاب الخضر، والمنظمات غير الحكومية المحلية والعالمية المعنية بقضايا البيئة والتغيرات المناخية. كما أُنشئت “شبكة يوم الأرض” Earth Day Network)) التي استهدفت تدشين أكبر حركةٍ بيئيةٍ في العالم، بهدف نشر الوعي بقضايا البيئة. وهي الشبكة التي تعمل حاليًّا مع أكثر من 75 ألف شريكًا عبر ما يزيد عن 190 دولة لحماية كوكب الأرض.
- الضغط المحلي جزء من الحراك العالمي: فعلى سبيل المثال، نجح أعضاء منظمة Avaaz)) في عام 2009 في تعبئة الحشود ضد مشروع قانونٍ يسمح لشركات الصناعات الزراعية بالتغول على جزءٍ كبيرٍ من منطقة الأمازون في البرازيل. ففي خلال يومين، أجريت ١٤ ألف مكالمة هاتفية، وأرسل ٣٠ ألف رسالة إلى مكتب “لولا دي سيلفا” الرئيس البرازيلي آنذاك، الذي استخدم في النهاية حق الفيتو ضد المواد المثيرة للجدل بذلك المشروع.
وفي عام 2011، نجحت منظمة (350.org) في وقف مشروع (Keystone XL) لمد خطوط للأنابيب في أمريكا الشمالية. وعليه، تجمع آنذاك 10 آلاف متظاهر خارج البيت الأبيض في واشنطن العاصمة لرفض هذا المشروع. كما نجحت المنظمة لاحقًا في وقف مزيدٍ من خطوط الأنابيب ومحطات الفحم في عددٍ من الدول (مثل: كينيا، وألمانيا، وتركيا، وكندا، ونيوزيلاندا) أيضًا.
- التعاون بين المنظمات الحكومية والمجتمع المدني العالمي: أدى الحراك المدني وتصاعد الرأي العام العالمي إلى إدراك المنظمات الحكومية -وبخاصةٍ الأمم المتحدة ومنظماتها التابعة المعنية بالبيئة والتنمية- أهمية التعاون مع المجتمع المدني بهدف التوصل إلى حلولٍ مثلى. وفي هذا الإطار، جاءت مشاركة كل من “بان كي مون”، و”أنطونيو جوتيريس” بالمسيرات الشعبية المنظمة من قبل مؤسسات الحراك المدني كمسيرات عامي 2014، و2018. وكذلك، برز حضور ممثلي منظمات المجتمع المدني والجهات الفاعلة غير الحكومية المعنية في اجتماعات الجمعية العامة السابقة لتوقيع اتفاق باريس للمناخ في عام 2015.
- الدور المحوري للشباب: ساهم التطور التكنولوجي، وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، والتطبيقات الإلكترونية في تشكيل رأيٍ شبابيٍ عالميٍ موحدٍ تجاه التغيرات المناخية. كما انضم طلاب المدارس الذين تتراوح أعمارهم بين الثالثة عشر والخامسة عشر إلى النشطاء المعنيين بالتغيرات المناخية. ففي ولاية سياتل الأمريكية على سبيل المثال، كونت “جايمي مارجولين” -حين كان عمرها 15 سنة- مجموعتها الاحتجاجية “ساعة الصفر” (Zero Hour) في عام 2017. وفي أغسطس 2018، أضربت “جريتا ثانبرج” السويدية أسبوعيًا أمام مبنى البرلمان السويدي، حاملةً لافتة “إضراب المدرسة من أجل المناخ”.
أطلقت “ثانبرج” شرارة الإضرابات الطلابية ليس فقط في السويد وأوروبا، وإنما امتد الأمر إلى العالم كله أيضًا، وهو ما نتج عنه بروز تنظيماتٍ بيئيةٍ جديدة. فمن خلال صفحتها على موقع تويتر، أطلقت “ثانبرج” حملة “أيام الجمعة من أجل المستقبل“(Friday For Future) . وهي الحملة التي أصبحت لاحقًا بمثابة المنظم للإضرابات المدرسية العالمية، والتي تمخض عنها عددٌ آخرٌ من الصفحات الإلكترونية (مثل: Earth Strike, Extinction Rebellion, School Strike 4 Climate) المعنية بقضية التغيرات المناخية وتنظيم إضرابات مدرسية -على نطاقٍ عالمي- لخدمة هذا الشأن.
وفي منتصف مارس 2019، احتج 1.6 مليون طفل تقريبًا في 125 دولة. وفي سبتمبر 2019، تزايد العدد بشكلٍ غير مسبوق؛ بعد أن احتج ما يقرب من 6 مليون شخص، فيما يقرب من 2600 مدينة في 160 دولة، في تظاهراتٍ احتجاجيةٍ من أجل حماية المناخ في إطار حملة “أيام الجمعة من أجل المستقبل”. وقد تبنت الاحتجاجات أهدافًا محليةً، بسبب ارتفاع مستوى سطح البحر في جزر سليمان جنوب المحيط الهادئ، والنفايات السامة في جنوب إفريقيا، وتلوث الهواء والنفايات البلاستيكية في الهند، وتوسع استخدام الفحم في استراليا، ولكن كانت الرسالة العامة موحدة، ألا وهي ضرورة العمل على خفض الانبعاثات واستقرار المناخ.