شغلت أحزاب الإخوان مكانة رئيسية فى الساحة الحزبية فى أغلب البلاد العربية خلال العقود الأخيرة. وصلت أحزاب الإخوان إلى ذروة نفوذها فى السنوات المؤدية إلى الاضطراب المعروف بالربيع العربى، الذى صنعته وركبته أحزاب الإخوان بخبث شديد، فكان بحق ربيع الإخوان أكثر منه ربيع العرب. حمل الربيع الإخوان إلى السلطة، فأعماهم وهجها، وأحرقتهم نارها؛ فتراجعت شعبيتهم بسرعة مذهلة. سقطت أحزاب الإخوان واحدا بعد الآخر، هذا ضربته تظاهرات الجماهير المنتفضة ضد العجرفة واحتكار السلطة، وذاك ضربته الأزمات التنظيمية والانشقاقات، وثالت ضربه الفشل فى إدارة بلاد حكمها منفردا. انهار حكم الإخوان فى مصر والسودان والمغرب وتونس، بينما تترنح تنظيماتهم فى ليبيا وسوريا والعراق والأردن، فدخلت السياسة فى البلاد العربية مرحلة ما بعد الإخوان؛فما هو الشكل الذى ستأخذه ساحات السياسة العربية فى هذه المرحلة، وكيف ستتطور الخرائط الحزبية العربية فى مرحلة ما بعد الإخوان؟
للأحزاب السياسية فى كل بلد عربى تاريخها الخاص، تبعا لتاريخ تكون الدولة والهوية الوطنية فى كل بلد. بالمثل فإن مرحلة ما بعد الإخوان فى العالم العربى ستأخذ شكلا خاصا فى كل بلد عربي؛ فالأسئلة التى تطرحها مرحلة ما بعد الإخوان هى هى نفسها فى كل البلاد، لكن الإجابات عن هذه الأسئلة تختلف من بلد إلى آخر، كل حسب تاريخه وظروفه الخاصة.
سؤالا الأحزاب والأيديولوجيا هما الأبرز فى مرحلة ما بعد الإخوان. ما هى الأحزاب المرشحة لملء المساحة الحزبية التى شغرت باختفاء الإخوان؟ وما هى الأيديولوجيا القادرة على شغل الفراغ الناجم عن انفضاض الناس من حول الفكرة الإخوانية؟ السؤالان مرتبطان، لكنهما أيضا متمايزان.
لنبدأ بالنظر فى خبرة بلاد مرت بظروف تشبه ما نمر به. فى ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد أن تم حظر الحزب النازى الحاكم، أتيحت الفرصة لأحزاب لها وجود راسخ سابق على ظهور الحزب النازى، فتقدم الحزب الاشتراكى ممثلا ليسار الوسط، والحزب الديمقراطى المسيحى ممثلا ليمين الوسط، وصنعا معا تيارا وسطيا تبادل طرفاه حكم البلاد والنهوض بها منذ ذلك الحين. فهل يمكن لشيء كهذا أن يحدث فى العالم العربي؟
تم حل حزب البعث الحاكم فى العراق، فظهرت مساحة استفادت منها مجموعة كبيرة من الأحزاب الطائفية والدينية والقومية، بعضها قديم، وأغلبها مستحدث. حلت هذه الأحزاب مشكلة تمثيل الطوائف والعرقيات التى طالما جرى قمعها فى العراق، لكنها بالتأكيد لم تحل مشكلة الدولة والحكم والاستقرار فى العراق. لم تنتج الأحزاب العراقية أيديولوجيا بديلة لعقيدة حزب البعث، واكتفت باعتبار المذهب والطائفة والعرق عقيدة سياسية لها. بينما تسعى الأحزاب الأيديولوجية للترويج لأفكارها من أجل توسيع نطاق مؤيديها بين الناخبين، فإن أحزاب الطوائف والمذاهب ليس لديها أفكار تروجها بين الناخبين، لكنها تعد جمهورها باستجلاب منافع الدولة وخيراتها لأبناء الطائفة وأتباع المذهب. أحزاب الطوائف والمذاهب هى أدوات لاقتسام الثروة، لا تنميتها؛ ولتمزيق المجتمع، لا تعزيز وحدته؛ وهى بالتأكيد روافع للفساد، لا النزاهة.
تبين الخبرة الألمانية أنه بإمكان البلاد ذات التقاليد الحزبية العريقة ملء الفراغ الناتج عن تصفية الأحزب المتطرفة عبر توسيع دور الأحزاب المعتدلة الموجودة بالفعل. من بين الدول العربية فإن المغرب وتونس هما الدول صاحبة التجارب الحزبية الأكثر عمقا وثراء، ولهذا الميراث مساعدة البلدين على اجتياز مرحلة ما بعد الإخوان عبر عملية إحلال وتجديد وتبادل مقاعد بين أحزاب موجودة بالفعل، لكن السؤال يظل مطروحا فى بلاد أخرى ليس لديها نفس العمق المميز للتجربة الحزبية فى تونس والمغرب.
روج الإخوان، فى زمن صعودهم، لأيديولوجيا خاصة بهم، واحتلوا رءوس نسبة كبيرة من السكان، فهل المجتمع فى حاجة إلى أيديولوجيات بديلة تملك العقول والقلوب بعد انتهاء زمن الأيديولوجيا الإخوانية؟ لأيديولوجيا الإخوان فعل الخمر والسحر، فهى تثير النشوة وتذهب بالعقول، فهل العقول التى تم تحريرها من أيديولوجيا الإخوان تتطلع إلى أوهام بديلة، أم أن ظروف الحياة فى المجتمع الحديث أصبحت أكثر تعقيدا، ولم يعد هناك أى بناء أيديولوجى قادر على احتوائها فى شمول، فيما يبحث الناس عن برامج وأفكار عملية تشخص المشكلات، وتقترح الحلول، دون ادعاءات أو أوهام. مرحلة ما بعد الإخوان تحتاج إلى هندسة سياسية، تستلهم رؤية للمستقبل، تتضمن إجابات عن أسئلة السلطة والحكم والأيديولوجيا والتمثيل والتعبير السياسي. للتنظيم السياسى مكانة مركزية فى أى رؤية من هذا النوع. لمصر تاريخ طويل مع الأحزاب، خاصة منذ تشكيل حزب الوفد المعبر عن الوطنية المصرية عقب ثورة 1919. مثل حزب الوفد وعقيدة الوطنية المصرية حائط صد فى مواجهة أيديولوجيا الإخوان حتى تم إلغاء الأحزاب بعد ثورة 1952، ومنذ ذلك الوقت ونحن نبحث عن نظام حزبى فعال، وحائط صد ضد الشمولية الدينية.أحزاب الوطنية، وأحزاب الدين، وأحزاب الدولة هى أهم ما عرفت مصر من أحزاب؛ فهل يمكن لصيغ مختلفة من أحزاب الوطنية وأحزاب الدين ملء الفراغ بما ينفى الحاجة لأحزاب الدين؟
فى المجتمع المصرى من الحداثة الاجتماعية والسياسية والثقافية ما لا يجعل نظاما سياسيا خاليا من الأحزاب أمرا مستساغا، وفيه من مشاعر الريبة والشك فى الأحزاب ما يمنع ظهور حياة حزبية ديناميكية فعالة، والمطلوب هو أحزاب تقدم إجابات عن أسئلة التقدم والتنمية والدين والعلم والتكنولوجيا والديمقراطية والعدالة، وصيغة تنظم المجال السياسى، تستجيب لما هو موجود من طلب على التحزب، وتفتح قنوات التعبير والمشاركة والتدبر.