التطوع هو أحد موارد الرأسمال الاجتماعي، ومع انطلاق خطط التنمية في مصر أصبحت الحاجة إلى نشر الوعي بأهمية التطوع ضرورية وهامة، مما يثير عددًا من التساؤلات عن حجم التطوع وقطاعاته، وإلى أي مدى ينمو؟ وكيف يساهم في دعم جهود التنمية؟ وما مستقبل سياسات تنظيم العمل التطوعي في مصر؟.
المجتمع المدني وحاضنات التطوع
ترعى مؤسسات وهيئات المجتمع المدني والمنظمات الأهلية احتضان ونمو التطوع بشكل عام، كما تساهم في خلق فرص وظيفية بما يدعم التنمية الاقتصادية. وقد رصد تقرير المجتمع المدني على الصعيد العالمي، والصادر عن الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID)، تحسنًا في كافة أبعاد مؤشر استدامة منظمات المجتمع المدني في مصر عام 2020 (شكل 1)، ويعزى ذلك إلى عدة أسباب:
- تطور تعاون منظمات المجتمع المدني مع الحكومة المصرية وخاصة في القضايا التي تخدم الأجندة الوطنية وتتوافق مع أهداف التنمية المستدامة 2030، ومنها قضايا البيئة وتغير المناخ، وحقوق ذوي الإعاقة، وبناء قدرات المرأة وتمكينها اقتصاديًا.
- التغطية الإعلامية الإيجابية لأنشطة منظمات المجتمع المدني ساهمت في تصحيح الصورة المجتمعية السلبية التي تكونت في أعقاب الثورات المصرية.
- تحسن البيئة القانونية لمنظمات المجتمع المدني أثر في سهولة إجراءات تسجيل الجمعيات، وتحول نسبة غير قليلة منها إلى مؤسسات.
ساهمت هذه الأسباب في نمو أعداد الجمعيات بشكل ملحوظ، حيث وصلت إلى أكثر من 57 ألف جمعية مسجلة لدى وزارة التضامن الاجتماعي بنهاية عام 2019، منها 65 منظمة دولية، لكن تظل البيانات الخاصة بقطاعات الخدمات والحجم الفعلي لهذه المنظمات غير متوفرة، حيث تشير بيانات وزارة التضامن الاجتماعي إلى أن حوالي 2500 جمعية مسجلة اسمًا فقط دون نشاط فعلي يذكر كما جاء في تقرير مؤشر استدامة منظمات المجتمع المدني في مصر لعام 2019.
شكل (1): مؤشر استدامة منظمات المجتمع المدني في مصر عام 2020

التطور التشريعي للعمل التطوعي
حتى وقت قريب ارتبط مفهوم التطوع في مصر بالنشاط الممتع وغير الملزم، كونه اقترن بأوقات الفراغ، وعلى الرغم من أن الترفيه يمثل أحد فئات العمل التطوعي المدرجة بالورقة الصادرة عن أمانة خطة العمل بالأمم المتحدة لإدماج العمل التطوعي في خطة التنمية المستدامة لعام 2030 بالاجتماع التقني العالمي المعني بالعمل التطوعي في عام 2020؛ إلا أن هناك أربع فئات أخرى للعمل التطوعي غير الترفيه وهي: المساعدة المتبادلة، الخدمة الخاصة والعامة، تنظيم الحملات، والمشاركة، ولكل فئة خصائص محددة كما يوضحها الشكل (2). ومن الجدير بالذكر أن هذه الفئات جاءت ضمن نتائج بحث تحديث ممارسات العمل التطوعي عالميًا من خلال توسيع نطاق تصنيف العمل التطوعي بالاستناد إلى الإطار المفاهيمي الصادر عن الأمم المتحدة في 1999، وقُبيل هذا التحول العالمي كانت مصر قد أصدرت قانون تنظيم ممارسة العمل الأهلي عام 2019، والذي تسري أحكامه على الجمعيات والمؤسسات الأهلية والمنظمات الإقليمية والأجنبية غير الحكومية والاتحادات العاملة في مجال العمل الأهلي داخل مصر.
شكل (2): فئات العمل التطوعي الصادرة عن الأمم المتحدة
المصدر: ممارسات العمل التطوعي في القرن الحادي والعشرين، الأمم للمتحدة، يونيو ٢٠٢٠.
ويمثل هذا القانون ولائحته التنفيذية وثبة نوعية لسياسات العمل الأهلي، فقد اشتملت مواده على دعم الحق في إنشاء الجمعيات الأهلية والمؤسسات الخاصة، كما نظمت مصادر التمويل للجمعيات وسبل الرقابة على أعمالها، ووضعت ضوابط للمحاسبة إذا تطلب الأمر. أما عن التطوع فقد تضمنت بعض مواد القانون دعم حرية التطوع وفق معايير لحوكمة الإجراءات، وكيفية المتابعة والمساءلة بما يدعم تحقيق التنمية المجتمعية الشاملة، والتكامل الفعال مع كل من القطاع الحكومي والخاص. واتساقًا مع هذه الإجراءات التشريعية أصدرت وزارة التضامن الاجتماعي في العام ذاته دليلًا تدريبيًا للتطوع بعنوان “الدليل الوطني للتطوع”.
تختلف الخدمة العامة عن العمل التطوعي كونها تمثل “تطوعًا مفروضًا” بالقانون على فئة محددة من المجتمع، لذا يمكن استثناء قانون الخدمة العامة الصادر في 1973 عند الحديث عن التطور التشريعي للعمل التطوعي في مصر، وان كان قانون الخدمة العامة قد ساهم في تقديم خدمات مجتمعية لدعم التنمية مثل محو الأمية، ومشروعات الأسر المنتجة، وبعض الخدمات التعليمية والصحية الأخرى فقد بلغ عدد المكلفين والمكلفات بالخدمة العامة عام 2019 نحو 135 ألف بحسب إحصاءات وزارة التضامن الاجتماعي منهم نحو 2000 من المكلفين الذكور، وتُعزى أسباب ارتفاع نسبة المكلفات من الإناث نظرًا لالتزام الذكور بأداء الخدمة العسكرية في الأصل واستثناء بعض الحالات من أداء الخدمة العامة، ولا توجد إحصاءات رسمية تفصيلية عن قطاعات الخدمات التي يعمل بها المكلفون بالخدمة العامة، ومدى تطور هذه الخدمات.
في المقابل، يُعد قانون الهيئات الأهلية لرعاية الشباب والرياضة الصادر عام 1975 والمنظم لحرکة الخدمة العامة التطوعية الأساس التشريعي للعمل التطوعي، فقد تضمن إنشاء الاتحاد العام لهيئات الخدمة العامة التطوعية للشباب، لكنه ظل قيد التنفيذ على أرض الواقع حتى صدور قانون تنظيم الهيئات الشبابية عام 2017، ثم تم إصدار القرار الوزاري بإنشاء الاتحاد وأحكام مجلس إدارته وجمعيته العمومية عام 2020.
وخلال ديسمبر 2021، أعلنت وزارة التضامن الاجتماعي عن بدء إعداد الاستراتيجية الوطنية للتطوع، والتي تستهدف تأطير سياسات العمل التطوعي من خلال إتاحة حوار مجتمعي يضم كافة المهتمين في المجتمع عبر عقد ورش عمل، وحلقات نقاشية للتوصل إلى إعداد دراسة شاملة حول مستقبل العمل التطوعي في مصر، وقد جاء ذلك على خلفية سلسلة من الأحداث الهامة في مقدمتها إطلاق الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان التي ألقت الضوء على ضعف ثقافة العمل التطوعي والمشاركة المجتمعية كأحد التحديات التي تواجه مكون الحق في تكوين الجمعيات والمؤسسات الأهلية والانضمام إليها ضمن التكفل بحرية التنظيم كأحد بنود محور الحقوق المدنية والسياسية بالاستراتيجية.
يظل نجاح الجهود التشريعية لتنظيم العمل التطوعي في مصر مرهونًا بعوامل متعددة، منها وجود هيئة أو وحدة تختص بإدارة ومتابعة العمل التطوعي تابعة لوزارة التضامن الاجتماعي، وكذلك تفعيل اتحاد الخدمة العامة التطوعية التابع لوزارة الشباب والرياضة، علاوة على توحيد جهات التطوع بسياساتها وأهدافها، خاصة الأحزاب السياسية وفي مقدمتهم تنسيقية شباب الأحزاب، لتفادي تداخل الإطار المؤسسي الرسمي لتنظيم العمل التطوعي نتيجة للتعددية، ولضمان استدامة المبادرات والمشروعات، لذا يعد إعلان القيادة السياسية عن تدشين اتحاد شباب الجمهورية الجديدة خلال المؤتمر الأول لمبادرة حياة كريمة يوليو الماضي خطوة هامة في هذا الصدد، فقد تضمنت أهداف الاتحاد دعـم وتنفـيذ الخطط التنموية المجتمعية، وإرساء قواعد الـعـمـل التطوعي، وقد ضم الاتحاد نحو 21 ألف متطوع منهم 31% إناث، و69% ذكور.
حجم التطوع وقطاعاته
رصد تقرير صادر عن برنامج الأمم المتحدة للمتطوعين عام 2018 حجم التطوع في مصر بنسبة حوالي 3% من إجمالي السكان ممن هم فوق 15 عامًا، حيث بلغ عدد المتطوعين في مصر نحو مليون و800 ألف نسمة، مثلت نسبة الإناث 55% بينما بلغت نسبة الذكور 45%، واحتلت مصر ضمن هذا التقرير المرتبة 50 بين 68 دولة أخرى. نما حجم التطوع في مصر إبان ثورة يناير، فقد رصد تقرير مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار عام 2010 تقديرات التطوع بنسبة 2.2% من إجمالي السكان في الفئة العمرية من 18-21، مما يعني تقدم حجم العمل التطوعي خلال السنوات من 2010 إلى 2018، غير أنه لا يزال أقل بكثير من المتوسطات الدولية وفق تصريحات البنك الدولي.
تتحكم عوامل متعددة في تشكيل حجم العمل التطوعي في مصر، فعلى صعيد الفئات العمرية ترتفع نسبة التطوع بين الفئة العمرية من 18-20 حيث تسجل نحو 30% من حجم العمل التطوعي، بينما تنخفض النسبة إلى أقل معدلاتها في الفئة العمرية من 10-14 عامًا وفق الإحصاءات الصادرة عن مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار عام 2009 في دراسة بعنوان خريطة الشباب في مصر (شكل 3).
على صعيد المستوى التعليمي، سجل الحاصلون على الثانوية الفنية النسبة الأكبر من حجم العمل التطوعي بنسبة تخطت 30%، وكانت النسبة الأقل من نصيب غير المتعلمين بنسبة 8% من إجمالي حجم العمل التطوعي وفق المصدر السابق ذاته (شكل 4). أما فيما يخص الجنس، فبالرغم من ارتفاع نسبة الذكور عالميًا مقابل الإناث، إلا أن العكس صحيح في مصر، وربما يعزى ذلك إلى ضم أعداد الملتحقين بالخدمة العامة ضمن إحصائيات العمل التطوعي، خاصة مع إعفاء الذكور ممن أدوت الخدمة العسكرية من أداء الخدمة العامة.
شكل (3): نسب التطوع حسب الفئات العمرية في مصر حتى 2009

شكل (4): نسب التطوع حسب المستوى التعليمي في مصر حتى 2009

تتحكم تفضيلات الشباب في تحديد قطاعات العمل التطوعي، والتي تنحصر دائمًا في الأنشطة قصيرة الأجل، ومع ندرة الأبحاث والبيانات لا توجد خريطة لتوزيع قطاعات التطوع في مصر، وبحسب استطلاع رأي أعده مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار في أكتوبر الماضي تم حصر عدد من الأنشطة التطوعية بين الشباب من الذكور وذوي المستوى التعليمي الجامعي، كانت في مقدمة هذه الأنشطة خدمة المساجد والكنائس، ثم التبرع بالدم، فجمع التبرعات، وأخيرًا زيارة دور الأيتام، والمسنين والمعاقين. في السياق ذاته، أصدر المركز المصري لبحوث الرأي العام “بصيرة” عام 2019 تقريرًا عن تفضيلات الأنشطة التطوعية لدى الشباب فكان تقديم المساعدات والأعمال الخيرية على رأس هذه الأنشطة، تلتها المشاركة في المشاريع التعليمية، ثم المشاريع الصحية، فمشاريع حماية البيئة، ومشاريع بناء قدرات المرأة جدول (1).
جدول (1): تفضيلات الأنشطة التطوعية لدى الشباب في مصر عام 2019

من جهة أخرى، تساهم المؤسسات الحكومية بشكل رئيسي في تحديد قطاعات العمل التطوعي، وتكاد تنحصر تلك المساهمات على وزارتي الشباب والرياضة، والتضامن الاجتماعي، في حين تحتاج وزارات أخرى لتعزيز خطط تطوع متنوعة كوزارة الصحة، ووزارة الأوقاف، ووزارة التعليم العالي، ووزارة التربية والتعليم، ووزارة السياحة والآثار. كذلك تكاد تتباين تصنيفات الاعمال التطوعية بحسب الوزارة، حيث تتبنى وزارة التضامن الاجتماعي المبادرات التي تحث على العمل التطوعي في إطار تقديم المساعدات الإنسانية، بينما تتولى وزارة الشباب والرياضة توظيف الأنشطة التطوعية في مجالات تنظيم الفعاليات والمؤتمرات، والمعارض، والانتخابات، والبطولات المحلية والدولية، والأحداث الهامة الأخرى.
في الختام، تُدلل الخطوات التشريعية والإجرائية لتطوير سياسات العمل التطوعي على جهود الدولة بما يحقق أهدافها التنموية، بيد أن نشر ثقافة العمل التطوعي لا تزال تحتاج إلى مزيدٍ من التوعية ليس فقط بأهمية العمل التطوعي ولكن أيضًا لتحرير الصورة الذهنية من اقتصار التطوع على المساعدات قصيرة الأجل، إلى المسئولية المجتمعية بما يخدم الخطط والمشروعات التنموية طويلة الأجل، مثل مشروع حياة كريمة، الأمر الذي يدعو إلى دراسة تدشين كيان مستقل لإدارة العمل التطوعي بما يدعم تكامل الوزارات المعنية.