حتى منتصف القرن التاسع عشر كانت القاهرة محرومة من المرافق الحديثة، مع أنه في عام 1863 كان يسكن بمدينة القاهرة 217 ألف نسمة. بدأت القاهرة في التغير مع تولي “الخديوي إسماعيل” مقاليد الأمور، فالخديوي الشاب الذي ترعرع في مدينة باريس، أراد للقاهرة أن تكون مدينة حديثة ونابضة بالحياة كما كانت أعظم عواصم العالم الأوروبي في هذا الزمان، لذلك استقدم الخبراء الأوروبيين الذين خططوا لتطوير المدينة، ونفذوا شبكات المرافق والطرق بها، وهو ما سهّل تدشين عددٍ من الأحياء الجديدة حول القاهرة.
يربط المؤرخون بين تلك الإنجازات من جهة، ونمو السكان الذي حدث خلال العقود اللاحقة من جهة أخرى، فتعداد عام 1907 وثّق ارتفاع عدد المواطنين القاهريين إلى 650 ألف نسمة، ثم جاء تعداد عام 1960 ليسجل ازدياد عدد سكان العاصمة إلى أكثر من 3.3 ملايين نسمة، ليؤدي الازدياد السكاني الكبير خلال عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي إلى الضغط على حدود العاصمة القاهرة، مما اضطرها إلى التوسع والتشابك مع كافة الضواحي القريبة منها داخل محافظتي الجيزة والقليوبية، وهو ما أدى إلى خلق إقليم القاهرة الكبرى الذي بلغ تعداد سكانه في منتصف السبعينيات أكثر من 9 ملاين نسمة (انظر شكل 1).
وقد استمرّت الزيادة في تعدادات سكان القاهرة الكبرى منذ ذلك التاريخ، حتى وصلت في عام 2019 الماضي إلى أكثر من 24 مليون نسمة، أي ما يُمثّل 25% من مجموع سكان مصر، وبواقع كثافة سكانية قاربت 10000 نسمة لكل كيلومتر مربع. لتتفوق القاهرة الكبرى بذلك على بعض أكبر عواصم العالم في كثافتها السكانية، حيث تزيد الكثافة في القاهرة عن نظيرتها اليابانية طوكيو بأكثر من 38%، فيما تزيد عن العاصمة الصينية بيكين بنحو 40%.

هذا النمو السكاني الذي شهدته القاهرة الكبرى، أوجد حاجة لتطوير منظومة النقل التقليدية، التي لم تكن الطرقات قادرة على تحملها من شدة الاكتظاظ، وهو ما دفع الحكومة للتفكير في مشروع مترو الأنفاق في خمسينيات القرن العشرين لاستيعاب الكثافات المتزايدة من الركاب، لكن المشروع تأخر في التنفيذ قرابة ثلاثين عامًا بسبب الظروف السياسية والاقتصادية القاسية التي عانت منها مصر خلال عقدي الستينيات والسبعينيات، لتتمكن الحكومة أخيرًا من تشييد الخط الأول للمترو خلال الثمانينيات، وهو ما سهّل عملية ربط أحياء القاهرة الواقعة شرق النيل بمنطقة “وسط البلد”، فضلًا عن مساهمته الفعالة في تخفيف حدة الضغط المروري في تلك المنطقة التي اتسمت دائمًا بزحام شوارعها، لتتوالى منذ ذلك الحين وعلى مدار ثلاثة عقود توسعات شبكة مترو القاهرة.
مشروعات المترو المتعاقبة
بدأ تشييد أول خط لمترو القاهرة الكبرى في النصف الأول من ثمانينيات القرن الماضي، وذلك عن طريق ربط خطين قديمين للسكك الحديدية، أحدهما كان يُعرف بخط قطار المرج ويتوجه لشمال شرق القاهرة، أما الآخر فقد كان يُعرف بخط حلوان ويتوجه جنوبًا ناحية الضاحية الشهيرة التي كانت تحمل الاسم نفسه. وقد جرت عملية ربط الخطين من خلال حفر نفق خرساني اجتاز منطقة وسط البلد بداية من ضاحية المنيرة وحتى ميدان رمسيس، وانتهت عمليات تشييد ذلك الخط والتي قُسمت على مرحلتين في عام 1989، ليصل طول خطه الحديدي آنذاك إلى 43 كم وبواقع 33 محطة مترو.
في وقت لاحق أُجري على ذلك الخط عدد من التعديلات، حيث أضيف له في العامين 1999 و2002 محطتان جديدتان، فضلًا عن زيادة طول خطه الحديدي بـ1.3 كم، ليضم الخط حاليًّا 35 محطة، بالإضافة إلى امتلاكه أسطولًا من 58 قطارًا، تنفذ حوالي 480 رحلة يوميًّا في المتوسط، ونقل حوالي 1.38 مليون راكب يوميًّا.
وبالإضافة إلى الخط الأول، تم افتتاح وتشغيل أولى مراحل الخط الثاني لمترو القاهرة الكبرى في عام 1996. وأتاح هذا الخط توسع شبكة المترو لتربط منطقة شبرا الواقعة في جنوب محافظة القليوبية بمناطق شرق الجيزة حتى المنيب، وذلك بالتقاطع مع الخط الأول للمترو في محطتين رئيسيتين بمنطقة وسط القاهرة، هما محطة “أنور السادات” ومحطة “الشهداء”. وقد استغرق إنشاء الخط الثاني قرابة تسع سنوات قُسمت على 5 مراحل إنشائية، تم تنفيذ آخرها في عام 2005، ليبلغ إجمالي المحطات على هذا الخط 20 محطة، بأطوال سكك قدرها 21.6 كم. ويعمل على هذا الخط حاليًّا 39 قطارًا تنفذ 664 رحلة يوميًّا، وينقل أكثر من مليون راكب يوميًّا.
وبعد إتمام الخط الثاني بعامين، بدأت الدولة في تنفيذ الخط الثالث من مترو القاهرة الكبرى، وافتتحت أول مرحلة منه، وهي الممتدة بين محطتي العتبة والعباسية في عام 2012، ثم تبعتها المرحلة الثانية وهي الممتدة بين محطتي العباسة والأهرام، حيث افتتحت في عام 2014. ويعمل حاليًّا على هذا الخط 15 قطارًا، فيما أُتيح للركاب استخدام 13 محطة، وإلى جانب تشغيل جزء من هذا الخط تجري الأعمال حاليًّا على استكمال ما تبقى من محطات المرحلة الثالثة، فيما تستمر أعمال الحفر العميق لمحطات المرحلة الرابعة. وباكتمال هاتين المرحلتين سيتم تحقيق الترابط بين مدينة السلام في أقصى شرق القاهرة، ومناطق الوراق وبولاق الدكرور بمحافظة الجيزة. كما سيساهم هذا الخط في اختصار وقت الانتقال بين مدينة السلام وحي بولاق الدكرور إلى أقل من 100 دقيقة.

التكلفة والعوائد والتشغيل
فيما بين عامي 1990 و2016 تمكن مرفق مترو الأنفاق من تحقيق زيادة في إيراداته الكلية بنسبة فاقت 93.6%. لكن في مقابل تلك الزيادة في الإيرادات شهد المترو ارتفاعًا في مصروفاته التشغيلية بنسبة بلغت 96.8%، وذلك عن الفترة ذاتها 1990/2016. وتوزعت تلك المصروفات على بنود متعددة، أولها الأجور التي استحوذت على أكثر من 60% من جملة مصروفات القطاع في 2016، تليها مصروفات التشغيل والصيانة ومستلزماتها والتي بلغت 33% من إجمالي المصروفات في العام نفسه. والبند الثالث هو استهلاكات الطاقة بنسبة 6.1%. ويبين الشكل رقم (3) الارتفاعات التي شهدها المرفق في مصروفاته النقدية خلال 25 عامًا.

المقارنة بين كلٍّ من الإيرادات التي بلغت في عام 2016 أقل من 717.8 مليون جنيه، والمصروفات التي بلغت في العام نفسه 920.03 مليون جنيه؛ توضح أن المرفق قد عانى خلال السنوات الماضية من خسائر مالية ضخمة (انظر شكل رقم 4). كما توجد مؤشرات على تصاعد نزيف الخسائر الذي يعاني منه المرفق حتى يومنا هذا. فعلى الرغم من مرور أكثر من أربع سنوات على إصدار آخر تقرير مفصل عن الحالة المالية للمرفق، إلا أن تصريحات وزير النقل التي أدلى بها في أكتوبر 2019، تبين أن المترو يخسر يوميًّا ما يقدر بـ 7.5 ملايين جنيه، أي ما يمثل خسائر سنوية تفوق 2.7 مليار جنيه. هذه الخسائر تأتي في ظل تحمل المرفق منفردًا وبدون مساعدة الدولة تكاليف تنفيذ المشروعات الجديدة، والتي على رأسها تشييد المرحلتين الثالثة والرابعة من الخط الثالث، فضلًا عن تنفيذ عمليات أخرى لتطوير الخطين الأول والثاني.

لكن الحالة المالية المتعثرة للمرفق، لم تؤثر على كفاءة التشغيل المعهودة للمرفق منذ يومه الأول؛ بل إنه شهد تطورًا إيجابيًّا يتناسب مع زيادة عدد مستخدميه، والتي زادت بنسبة تفوق 73% بين العامين 1990 – 2016. ويتضح ذلك في بعض المؤشرات، ومن أبرزها ارتفاع عدد القطارات العاملة من 33 في عام 1990 إلى حوالي 100 قطار في 2016، وهو ما أدى لارتفاع الرحلات المنفذة سنويًّا لتسجل 564000 رحلة في عام 2016 بنسبة ارتفاع جاوزت 83% عن عام 1990، وهو ما أدى بدوره لانخفاض معدل تزاحم الركاب، فبعد أن كان متوسط عدد الركاب خلال الرحلة الواحدة 2400 راكب في عام 1990، هبط المتوسط ليصبح 1494 راكبًا في عام 2016. ومن المهم ملاحظة أن انخفاض معدل التزاحم يأتي على الرغم من ارتفاع أعداد الركاب المستخدمين للمرفق كما يبين الشكل رقم (5).

وقد كان لوجود البنية التحتية القادرة على صيانة وتطوير الوحدات المتحركة، دور فاعل في عملية انتظام تشغيل المرفق، فبين الخطوط الثلاثة الموجودة حاليًّا للمترو، تتوزع 7 ورش متنوعة الاستخدامات بين أعمال الصيانة العادية، والعمرات الخفيفة والعمرات الكبيرة، فضلًا عن امتلاك المرفق ثلاث وحدات لغسيل ونظافة القطارات. وفي عام 1993 تم تعزيز عمليات تشغيل المرفق من خلال استحداث وحدة تحكم مركزي، لتكون مختصة بمتابعة انتظام حركة الرحلات، ومواجهة الأزمات، والأعطال المفاجئة والحوادث، بالإضافة لتخصصها في رسم السيناريوهات المتوقعة لمعوقات عمل المرفق وكيفية التعامل معها، ويدعم عمل تلك الوحدة 3 فرق طوارئ تنتشر بين خطوط المترو القائمة.
المشروعات الجارية والمستقبلية
حرص مرفق المترو على مواكبة خطة الدولة لتطوير العاصمة والتي تم إطلاقها في عام 2014، فمع بداية تدشين عددٍ من المجتمعات العمرانية الجديدة على الطرفين الشرقي والغربي للقاهرة الكبرى والتي كان أبرزها العاصمة الإدارية الجديدة، قام المرفق بالعمل على مشروعات فاقت قيمتها الاستثمارية 65.15 مليار جنيه، لتنقسم تلك المشروعات إلى ثلاثة خطوط، هي: خط القطار المكهرب بين مدينة السلام والعاصمة الجديدة، وخط مونوريل شرق القاهرة، وأخيرًا خط مونوريل غرب الجيزة، وتبلغ أطوال الخطوط الثلاثة التي يجري إنشاؤها حاليًّا 180 كم من السكك، كما يتوقع أن تبلغ الطاقة الاستيعابية للخطوط الثلاثة بعد تشغيلها أكثر من 100000 راكب في الساعة. ومن المنتظر أن تُساهم تلك الخطوط الجديدة في اختصار زمن الرحلة بين مدينتي السادس من أكتوبر والعاصمة الإدارية الجديدة إلى أقل من 120 دقيقة.
تدشين الخطوط الجديدة لم يؤثر على استكمال مشروع مترو الخط الثالث، فالأعمال لا تزال تجري على الأرض لإتمام آخر مرحلتين منه، والتي تُقدر تكلفتهما حتى الآن بحوالي 49 مليار جنيه، حيث من المخطط أن تنتهي الأعمال في هذا الخط بحلول عام 2023، ليكون الطول الإجمالي له 45 كم. وبالإضافة للمشروعات الجارية، يسعى المرفق لمواكبة التطورات التي ستشهدها القاهرة خلال العقود القادمة، فمع وجود توقعات بزيادة أعداد سكان القاهرة إلى قرابة 40 مليون نسمة بحلول عام 2050، وضع المرفق خططًا مبدئية لإنشاء ثلاثة خطوط جديدة، أولها الخط الرابع للمترو والذي أوضحت الدراسات أن كلفته ستبلغ حوالي 45 مليار جنيه.

خلاصة القول إن المشروعات الجارية لتطوير شبكة المترو هي مشروعات مهمة وضرورية لمواكبة التطورات التي تشهدها العاصمة المصرية من ناحية التوسع الجغرافي وزيادة أعداد السكان، لكن ما يقلق المتخصصين الآن هو المصاعب المالية التي يواجهها المرفق، والتي تشتد وطأتها مع تحمله منفردًا مصاريف الإنشاءات الجديدة، فضلًا عن مصروفات التشغيل اليومي للمشروعات القائمة، لذلك يجب على الحكومة أن تعاون هذا المرفق بخطط ناجعة لمساعدته في تخطي مشكلة نقص التمويل، حتى يبقى دائمًا مرفقًا منضبطًا وكُفئًا.
مراجع
– د. سهير زكي عباس، القاهرة التوفيقية، القاهرة، 2002.
– الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، تقارير تعدادات السكان، القاهرة، سنوات مختلفة.
باحث أول ببرنامج السياسات العامة