بعد عدة تقلبات يبدو أن الجولة الأولى للانتخابات الفرنسية ستشهد تصدر الرئيس ماكرون ومارين لوبن ليتنافسا على الرئاسة في جولة ثانية، وترصد كل استطلاعات الرأي تقلص الفارق بينهما. ولأول مرة لم يعد ممكنًا استبعاد فوز مارين لوبين بالرئاسة، لأنها تكسب كل يوم أصواتًا جديدة، ولأن الرئيس ماكرون لم يوفق في إدارة حملته الانتخابية، وفجر مجلس الشيوخ الفرنسي قنبلة عندما تحدث في تقرير عن الصلات بين ماكرون ورجاله وشركة ماك كينسي التي استفادت من ولايته وحصلت على عدة عقود.
تقييم سلبي
يُجمع المراقبون على تقييم سلبي للحملة الانتخابية. فرنسا عرفت عدة أزمات في السنوات الماضية ومقبلة على أزمات جديدة، فالدين العام ارتفع ليبلغ ١١٥٪ من الناتج القومي الإجمالي، والأوضاع الدولية تفرض إنهاء أحلام اليقظة وعودة استحقاقات الدفاع والإنفاق الحربي، وتعاملًا جديًا مع مشكلة ارتفاع كلفة الطاقة، إلى جانب المشاكل القديمة الموروثة، والتحول إلى اقتصاد أخضر، وأزمة ارتفاع معدلات الفقر وتقلص فرص الصعود الاجتماعي، وأزمة التعليم وأزمة المنظومة الصحية والتأمينات الاجتماعية وارتفاع نسبة المسنين، وأزمة إصلاح المعاشات، وأزمة انهيار أو على الأقل التراجع الحاد للقطاع الصناعي، وأزمة ارتفاع معدلات العنف والجرائم، وأزمة الهجرة التي انتعشت مع نزوح ملايين من الأوكرانيين (أغلبهم يفضل عدم الذهاب إلى فرنسا)، وأزمة التعامل مع نشاط الإخوان المسلمين وغيرهم من الذين يحاولون فرض تعديل العقد الاجتماعي السائد المرتكز على علمانية الدولة، وأزمة التمييز العنصري ضد الأقليات ورفض عدد من أبناء هذه الأقليات سياسات الاندماج.
التقييم السلبي يتأسس على عدة عوامل وظواهر. من ناحية هناك قضايا بالغة الأهمية لم يتعرض لها المرشحون لأن الوضع الدولي فرض نفسه، كل المرشحين أسهبوا في كيفية حل بعض المشكلات وكل حلولهم المقترحة تفترض إنفاقًا ضخمًا ولم يقل أحدهم كيف سيمول هذا الإنفاق في ظل وضع مالي خانق، وعجز ميزانية، وارتفاع الدين، وارتفاع نسبة الضرائب والرسوم. أي من الصعب جدًا فرض ضرائب جديدة، والاقتراض سيزداد صعوبة، أي إن زيادة الإنفاق على ملف يقتضي تقليله في ملف آخر. وأخيرًا وليس آخرًا تسبب تأخر الرئيس ماكرون في التقدم بأوراق ترشيحه في تقصير فترة الحملة، مما أثر سلبًا على إمكانية نقاش جاد، لدرجة دفعت رئيس مجلس الشيوخ وهو محسوب على حزب الجمهوريين اليميني إلى القول بأن شرعية الرئيس الجديد ستكون هشة هشاشة تمنع أي محاولة له للإصلاح.
قراءة في حظوظ المرشحين
من الصعب قياس تأثير الوضع الدولي على حظوظ المرشحين، فمن ناحية ساهمت أزمة كوفيد وحرب أوكرانيا في تحسين صورة الاتحاد الأوروبي مما يرفع أسهم المدافعين عنه وعلى رأسهم الرئيس ماكرون، ونشير هنا إلى كون إدارة الرئيس ماكرون لأزمة الكوفيد من إيجابيات “كشف حسابه”. من ناحيةٍ أخرى تلعب أجواء الأزمة دورًا في تثمين الاحتشاد حول الرئيس مما انعكس في استطلاعات الرأي، حيث ارتفع نصيبه من التأييد من ٢٥٪ إلى ٣١٪ في أسبوع قبل أن تعود إلى الانخفاض والاستقرار حول ٢٧ أو ٢٨٪. وتلعب الحرب دورًا في تقليل فرص صاحب خطاب معاداة الهجرة أي إيريك زيمور المحسوب على غلاة اليمين المتطرف، وفي المقابل تقوى ظاهرة ارتفاع الأسعار الناتجة عن أزمة الطاقة والسلع الغذائية فرص المرشحين الذي جعلوا من الدفاع عن القدرة الشرائية للفقراء ومتوسطي الحال محور برنامجهم، وأبرزهم مارين لوبين مرشحة حزب التجمع القومي (يمين متطرف) وجان لوك ميلانشون. والمفارقة أن الرأي العام رغم حنقه الجماعي على الرئيس الروسي سامحهما على انحيازهما السابق له.
حاليًا، الأرجح أن تسفر الجولة الأولى عن صعود ماكرون ولوبن للجولة الثانية، كل استطلاعات الرأي تتنبأ بهذا، ولكن ما زال هناك متغيران لا يمكن قياسهما قد يؤثران على النتيجة من ناحية نسبة الممتنعين عن التصويت. تاريخيًا من لا يذهب إلى صناديق الاقتراع هم أبناء الطبقات الشعبية من غير الحاصلين على مؤهلات، وهم عامة ينتخبون مارين لوبن، وأبناء الطبقات الفقيرة من الحاصلين على مؤهلات، وهؤلاء ينتخبون ميلانشون ممثل اليسار الراديكالي، ومن ناحية أخرى لا يمكن استبعاد احتمال أن يؤدي خوف ناخبي القوى اليسارية من جولة إعادة بين مرشحة محسوبة على اليمين المتطرف ومرشح يمثل يمين الوسط ويسار الوسط، إلى حث هؤلاء الناخبين على عدم التصويت لمرشحهم المفضل وعلى الاحتشاد وراء المرشح اليساري صاحب الفرص الأفضل ليتخطى مارين لوبن ويصعد إلى الجولة الحاسمة.
المفارقة فيما يتعلق بالجولة الأولى أن ترشح إيريك زيمور مرشح أقصى اليمين لم يتسبب في تراجع فرص مارين لوبن بل في انهيار مرشحة الجمهوريين فاليري بيكريس، وربما في تحسين فرص ميلانشون. من ناحية ساهم تطرف زيمور في إظهار لوبن في صورة المرشحة المعتدلة على عكس الحقيقة، ومن ناحية اتضح أنه عاجز عن جذب الكتلة الرئيسية المؤيدة للوبن، وهي الطبقات الشعبية، فخطابه أثار إعجاب الفئات الميسورة المنتمية إلى اليمين، وكانت عامة تنتخب الجمهوريين مع وجود أقلية معتبرة تؤيد لوبن.
ولعبت أخطاء بيكريس دورًا هامًا في انهيارها، من ناحية هي محاورة موهوبة وشخصية كفؤة ملمة بالملفات، ولكنها لا تجيد فن الخطابة ففشلت مؤتمراتها الشعبية، ومن ناحية أخرى كانت مخيرة بين استراتيجيتين، محاولة مخاطبة جمهور ماكرون وتقديم نفسها على أنها صاحبة توجهات مشابهة مع شخصية أقل نرجسية وأقل استقطابًا، مع التلميح إلى جودة فريقها، وكان هذا التوجه متفقًا وتوجهاتها الشخصية، ولكنها فضلت خيارًا آخر، ربما تحت تأثير مستشاريها وقواعدها الحزبية، وهو محاولة جذب ناخبي لوبن وزيمور، وفشلت في هذا السعي فشلًا ذريعًا، فمن الصعب تقمص دور لا يمثل قناعاتك.
ونشير بسرعة إلى مواصلة الحزب الاشتراكي –حزب الرئيسين ميتران وهولاند- مشواره نحو الصفر المبين، كان الحزب يجمع بين أصحاب خط يسار الوسط وأنصار الاشتراكية الديمقراطية، أغلبهم انضم لحزب ماكرون، وبين أنصار خط اشتراكي أكثر تطرفًا وأغلبهم انضم لحزب ميلانشون أو بقي في الحزب، وفي وقت ما فكر الحزب في تبني سياسة “تحالف الأقليات” شبيهة بخط الحزب الديمقراطي الأمريكي، وهو خط لم يلق قبولًا لدى الناخبين، أو قل فضل نسخة أخرى لهذا التوجه وهي نسخة ميلانشون، حصاد كل هذا حصول مرشح الحزب على ٦٪ من الأصوات في انتخابات ٢٠١٧. وعلى عكس انتخابات ٢٠١٧ يتنافس على هذه الكعكة حزبان (الاشتراكي والخضر)، وأمام هذا الوضع فضّل أقطاب الحزب عدم الترشح في الانتخابات الحالية مما أفسح المجال لمرشحة لا تتمتع لا بشعبية ولا بكفاءة، وهي الآن تناضل لتكسر حاجز الـ٢٪.
مواقف المرشحين
بالنظر إلى موقف أهم المرشحين لوبان وماكرون، فإن لوبان اختارت استراتيجية بدت خطرة ولكنها نجحت. رفضت دخول سباق مع زيمور والمزايدة على من هم أكثرهم كرهًا للمهاجرين والإسلام، وفضلت التركيز على ضرورة الدفاع عن القدرة الشرائية للطبقات الفقيرة والمستورة، وتمسكت بهذا الخط قبل اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، وحاولت إلى حد ما أن تقترح سياسات تبدو للوهلة الأولى واقعية، وتركت الردح الهوياتي لزيمور، مراهنة على أن اسمها وماضيها يطمئنان الناخب المهتم بقضية الهوية، وأن سكوتها قد يطمئن من يعادي العولمة ويناصر الفقراء ولكنه يرفض الخطاب العنصري، طبعًا متصفح برنامجها يكتشف بسرعة أنها لم تتغير، ولكن المكتفي بالتصريحات الشفهية سيراها في دور الأم أو الأخت اللطيفة الحريصة على الفقراء، ومن ناحية أخرى حرصت على إظهار فروق شخصية مع الرئيس، فبدت أكثر إنسانية، فهي ليست متعجرفة، ولا تملك كمًا هائلًا من المعارف تسحق بها محاوريها، وهي قريبة من الناس، فحرصت على الانتقال إلى كل ربوع فرنسا، وعلى عقد مؤتمرات صغيرة وكبيرة، وعلى التكلم عن معاناتها كأم وامرأة، وأظهرت نفسها كمحبة للقطط، والمفارقة أنها نجحت في كل هذا رغم ثروتها الشخصية الكبيرة.
أما الرئيس ماكرون، فمقارنة بأسلافه تجد نسبة الفرنسيين الراضية عن أدائه مرتفعة، لا هولاند ولا ساركوزي حصلا على نسب مشابهة في السنة الخامسة من ولايتهما، وما زال إلمامه الفريد بالملفات مصدر إعجاب الجمهور، والكثيرون ولا سيما عند الشباب معجبون بقدرته على التفكير خارج الصندوق وعلى قلب الموائد، وبموقفه الصلب من التيارات المتطرفة، وتعتقد الفئات المؤمنة بالعولمة وبالمشروع الأوروبي والمستفيدة منها أنه المدافع الوحيد الصادق عن هذه التوجهات. وقطعًا تحسن أداء الاقتصاد أثناء ولايته، وأحسن ماكرون إدارة أزمات الكوفيد. وفي المقابل فإن القطاعات الرافضة بعنف لشخصه ونرجسيته وعجزه عن إخفاء احتقاره للناس كبيرة وكثيرة، بمن فيهم بعض المؤيدين لسياساته، ولم يستطع أن يتخلص من تهمة أنه رئيس الأغنياء وكبار الرأسماليين ولا يعرف أي شيء عن الكادحين ولا يريد أن يعرف، وهناك ناخبون من الطبقات المتوسطة والميسورة لا ينسون تبنيه لسياسات خاطئة، بل واضحة الخطأ، وإن تراجع عنها لاحقًا (النووي كمصدر للطاقة نموذجًا)، ويرون أنه موهوب في فهم الاقتصاد ولا يملك نفس المواهب في إدارة الملفات السيادية ولا سيما الأمنية والحربية.
وتثبت الدراسات المتعمقة لتفضيلات الناخبين أن الرئيس ماكرون يتمتع بتأييد لم يتغير لربع الذاهبين إلى صناديق الاقتراع، أي حوالي ١٨٪ من جمهور المسجلين على القوائم الانتخابية، ولكن ثلثي هذه الكتلة تؤيده بمنطق أنه أخف الأضرار، وتُشير هذه الأرقام إلى أهم ورقة في يد الرئيس وهو ضعف مستوى وكفاءة المنافسين.
الخلاصة، الأرجح ألا تأتي الجولة الأولى بمفاجآت ضخمة، ولكن الجديد هو تمتع مارين لوبان باحتياطي من الأصوات قد يسمح لها بخلق مفاجأة في الجولة الثانية. في فرنسا الاستطلاعات يومية، وتظهر تحسنًا يوميًا لكل من لوبان ومن ميلانشون مع فارق كبير بينهما لصالح الأولى، وتقول هذه الاستطلاعات إنها ستحصل على ٤٧/٤٧ ونصف في المائة في الجولة الثانية، وباقي أسبوع قبل الاقتراع، وعلى العموم لن تتضح الصورة كاملة مع انتخاب الرئيس، فبعد الانتخابات الرئاسية ستأتي الانتخابات التشريعية، وليس من المؤكد حصول الحزب الفائز في الانتخابات الرئاسية على الأغلبية البرلمانية.