منذ نهاية العقد الأول للألفية تتعرض القارة الأوروبية لأزمات متتالية، سياسية واقتصادية ومالية وسكانية وأمنية، تكشف مواطن ضعفها المتنوعة؛ ويرجع ذلك أساسًا لهشاشة الأسس الاقتصادية والنقدية التي قام عليها الاتحاد، وضعف التمثيل الديمقراطي في مؤسساته، وتدفع القارة إلى تطوير أدواتها وابتكار غيرها في مواجهة التقلبات، وفي كل مرة نسمع ونقرأ حديثًا عن اليقظة، وعن تحولات حاسمة، وعن استرداد للوعي، وعن يقظة بعد سبات، وكلامًا مفاده أن أوروبا (المقصود الاتحاد الأوروبي أو المشروع الأوروبي) لا تتقدم ولا تتطور إلا عند انفجار أزمات، ولكن الأزمات تتفاقم، قد تخف حدتها مؤقتًا ولكنها لا تختفي، بل تعود أكثر جسامة.
وفي نهاية السنة الماضية يبدو المشهد أكثر قتامة من سابقه، وتتكاثر التحديات المختلفة ويزداد العجز وضوحًا، وتعاني أهم دولتين في الاتحاد الأوروبي من أزمات اقتصادية مقلقة تعكس فشل النموذج التي تبنته ومن شلل سياسي سيستمر على الأقل ستة أشهر، وتطفو الانقسامات بين الدول على السطح، في ظل رفض أو عجز ألماني عن تولي قيادة القارة. وتسود نبرة حيرة ويأس على خطاب المسئولين والمشرعين والخبراء، الخطط كانت طموحة –لا سيما في مجالات الاقتصاد والأمن والدفاع والتصنيع الحربي والتحول البيئي- ولكنها تعثرت.
قد يكون التعثر مؤقتًا، وتختلف أسبابه باختلاف الملفات، وقد يعود إلى مقاومة بعض الفئات التي تخشى السياسة الجديدة (الفلاحين فيما يخص سياسات البيئة)، وقد يعود إلى تعدد الأهداف التي تتطلب تحقيق أي منها تمويلًا ضخمًا، على سبيل المثال كيف يمكن في آن واحد تمويل المجهود الحربي الأوكراني ومده بالمعدات وسد عاجل لأوجه النقص في الجيوش الوطنية وتمويل تصميم وصناعة أسلحة المستقبل، وقد يعود التعثر إلى خلافات بين الدول، وإلى تفنن بعضها (لا سيما المجر) في تعطيل لقرارات ترى باقي القارة وجوب اتخاذها، الأهم هو أن التوتر المكتوم في العلاقات الفرنسية الألمانية طفا على السطح، الاختلافات الثقافية بين الدولتين وفي آليات عمل الأنظمة السياسية وفي السياسات الاقتصادية (الصناعية تحديدًا) وفي الأولويات وفي المصالح وفي الموقف من الولايات المتحدة وروسيا والصين ومن الطاقة النووية قديمة. الجديد هو صعوبة التوصل إلى حلول وسطى في عدد كبير من الملفات مثل الدفاع الأوروبي المشترك والدفاع عن أوكرانيا والطاقة (تحديدًا اللجوء إلى الطاقة النووية) واتفاقيات التجارة الحرة مع أمريكا اللاتينية ومشروعات التصنيع الحربي وتصميم منظومات تسليحية جديدة، وبصفة عامة تركز كل دولة منهما على مشكلاتها الداخلية الجسيمة، إضافة إلى هذا لم تعد ألمانيا تعتبر العلاقات مع فرنسا أولوية تستحق التضحية ببعض مصالحها من أجلها ولا تتردد في الإضرار بالمصالح الفرنسية إن رأت في هذا ضرورة أو مصلحة، وتتصرف فرنسا وكأنها لا تفهم أن الفارق الكبير في الوزن الاقتصادي (ترليون يورو فارق في الناتج القومي الإجمالي السنوي) بين الدولتين أخل بموازين القوة بينهما وأن أغلب دول القارة لا يشاركها موقفها المناوئ للولايات المتحدة ولا يثق في الردع النووي الفرنسي كضامن للأمن.
التحدي الحالي هو التهديد الروسي بصفة عامة، والحرب الروسية الأوكرانية بصفة خاصة، السنة الماضية شاهدت الجبهة الروسية الأوكرانية تقدمًا روسيًا ملموسًا وإن لم يكن حاسمًا، وإن كانت كلفته في الأرواح والمعدات وفي الحالة الاقتصادية أكثر من باهظة، ودخلت كل من إيران وكوريا الشمالية على خط الصراع، لتدعم روسيا بالعتاد والرجال، ومن ناحية أخرى بدت أوكرانيا مجهدة، بطولات جنودها وشعبها وتفكير قياداتها الخلاق لا يكفيان لتعويض العجز في الأفراد والمعدات، خسائرها في الأرواح فادحة، وهي عاجزة عن حماية سمائها التي تمطر قنابل طائرة وصواريخ روسية، أكثر من ستة ملايين من مواطنيها خارج البلاد، منظومة الطاقة مدمرة، انقطاع التيار الكهربائي هو القاعدة، اقتصادها معطل، والدعم الأمريكي معطل أحيانًا، بطيئًا أحيانًا أخرى، والدعم الأوروبي ليس أفضل حالًا، مع تلكؤ وتململ أمريكيْيَن وألمانيْيَن واضحين، على الأقل فيما يخص السنة الماضية –قد يتغير الوضع في ألمانيا مع الانتخابات المقبلة. وشاهدت الأشهر الماضية تراشقًا إعلاميًا بين كييف وحلفائها، هم يقولون إن أوكرانيا لم تجند عددًا كافيًا من الأفراد، وأوكرانيا تقول إن الدعم قليل ويأتي متأخرًا وإن القيود على استخدامها للأسلحة الغربية يحد من قدراتها. وأيًا كان تقييمنا لمحددات المواقف الغربية –خوفها من مواجهة نووية- يبقى واضحًا أن أفعالها أقل بكثير مما يوحي به خطابها.
وتشن روسيا حربًا هجينة على الدول الأوروبية، حملات تضليل إعلامية، فاعليتها مؤكدة، هجمات سيبرانية، عمليات تخريب لكابلات بحرية ولمستودعات أسلحة ولغيرها، محاولات اغتيالات، وصعدت موسكو خلال السنة الماضية من هذا النشاط المعادي، ويلاحظ في هذا الصدد أن حقيقة وجود حملات تضليل إعلامية روسية لا تعني أن المتبنين لمواقف قريبة من الموقف الروسي مخدوعون حتمًا، إذ هناك في عدد كبير من المجتمعات مكونات وفئات ليست قليلة ترى أنها أقرب وجدانيًا وثقافيًا وسياسيًا إلى موسكو، ولا تحب المنظومة الليبرالية الحالية، ولا الهيمنة الألمانية على القارة، ولا محاضرات بروكسل والإعلام الليبرالي في الأخلاق.
تسود في أوساط النخب الأوروبية وفي قطاعات تتضخم من الرأي العام قناعة بضرورة وقف القتال، وإدراك أن هذا يعني قبول أوكرانيا تقديم تنازلات لا يمكن تزيينها وتصويرها على أنها نصر، والمشكلة أنه لا يوجد ما يضمن وجود لأوروبا على طاولة المفاوضات، ولا ما يضمن أن تكون شروط الرئيس بوتين مقبولة، ولا أحد يعرف على وجه التحديد إن كانت الضربة القوية التي تلقتها روسيا في سوريا ستدفع موسكو إلي التمسك بشروط قاسية لتحقيق نصر يخفي الخسارة في الشرق الأوسط، أم ستدفعه هي وحالة الاقتصاد الروسي المزرية إلى قبول وقف إطلاق نار دون تحقيق كل المطالب الروسية، ولا أحد يعرف ما هو موقف الرئيس ترامب، وهل هو مستعد لقبول كل مطالب الرئيس الروسي، أم هل دفعه التدخل الكوري في الحرب وتعلية روسيا لسقف مطالبها إلى اتخاذ موقف أكثر حدة في مواجهة موسكو. وعلى فرض التوصل إلى اتفاق يعي الكل أن لموسكو أساسًا ولكييف بدرجة أقل بكثير تاريخًا طويلًا من عدم الالتزام بما تم الاتفاق عليه.
ولا يخفي هذا التوافق على ضرورة إيقاف الحرب الاختلافات الكبيرة في الشروط التي يمكن قبولها، كما لا يخفي الرسائل السلبية التي يرسلها الانقسام الأوروبي، وقيام المستشار الألماني ورئيسا الوزراء المجري والسلوفاكي بالتواصل مع موسكو، دون التشاور مع النظراء الأوروبيين (قد يكون الرئيس ترامب على علم سابق بنوايا المجري والسلوفاكي)
وهناك مخاوف أوروبية كبيرة عبر عنها وزير خارجية ألمانيا السابق جوشكا فيشر من توصل الرئيسين الأمريكي والروسي إلي اتفاق وقف إطلاق نار يكرس نصرًا روسيًا مقابل تخلي موسكو عن طهران، و/أو إلى اتفاق لا يتضمن النص على إنهاء الحرب الهجينة التي تشنها روسيا ضد أوروبا، أو لا يقدم ضمانات أمن كافية لأوكرانيا، أو يحمل أوروبا عبء تقديم هذه الضمانات، كما أن الدول الأوروبية تخشى إعلان الرئيس ترامب عدم التزامه بالمادة الخامسة لمعاهدة الحلف الأطلسي وبحمايتها من الاعتداءات، بذريعة عدم وفاء أوروبا بالتزامها برفع إنفاقها الدفاعي.
وهناك قراءات مختلفة للعلاقات مع تركيا، تميل أغلب الدول الأوروبية إلي الاغتباط من النصر الذي حققته تركيا على روسيا في الشرق الأوسط، لأن هذا النصر سيتسبب آجلا أم عاجلًا في توتر كبير بين موسكو وأنقرة، يقلل من قدرة الثانية على ابتزاز أوروبا بتهديدها بتقارب روسي تركي، وقد يحين وقت التوتر بسرعة إن تم وقف إطلاق النار في أوكرانيا وإن اضطرت تركيا إلى السماح للأسطول الروسي بدخول البحر الأسود مجددًا، وفي المقابل هناك مخاوف كبيرة متعلقة بمصير الإرهابيين الأوروبيين الموجودين في سوريا، ومخاوف من تزايد طموحات الرئيس أردوغان.
وبصفة عامة فإن المواقف الأوروبية تجاه تركيا شديدة التباين، يمكن اعتبار ألمانيا والنمسا وبلجيكا دول تخشى قدرة أنقرة على زعزعة استقرارها الداخلي ونفوذها على الجاليات التركية أو المسلمة هناك، ودول مثل إسبانيا وإيطاليا والبرتغال حريصة على علاقات ممتازة مع تركيا لأسباب مختلفة منها ما هو اقتصادي ومنها ما هو جيوسياسي، واليونان ترى أن تركيا تهديد مباشر، ودول جوار روسيا ترى ضرورة إبقاء تركيا في المعسكر الغربي وتثق فيها –أكثر من ثقتها في ألمانيا مثلًا، وهناك دول شديدة الاستياء من السلوك التركي ويؤثر هذا في تفاعلها مع أنقرة –فرنسا وهولاندا والدانمارك، ودول لا تحب السلوك التركي ولكنها تظل تتعامل معها وتوثق العلاقات بها –المملكة المتحدة، وهناك دول مثل المجر معجبة بنموذج الزعيم القوي وتشارك الرئيس التركي في انتقاداته للطور الحالي للنموذج الغربي.
وهناك إخفاقات أخرى على جبهات جيوسياسية أخرى، تراجعت فرنسا في أفريقيا مع إنهاء وجودها العسكري في عدد كبير من الدول، النيجر وبوركينافاسو ومالي وتشاد والسنغال، وساءت علاقاتها مع الجزائر وتونس، وفي المقابل توطدت مع المغرب ومصر، ويفاقم من هذا التراجع ارتفاع معدلات رفض الوجود الفرنسي في قطاعات مهمة من الرأي العام الأفريقي لا سيما في أوساط الشباب، وتراجع مستوى المعرفة الفرنسية لهذه الدول والقدرة على إدارة العلاقات معها. وقد يكون هذا التراجع مؤقتًا لأن فرنسا تمتلك عددًا كبيرًا من الأوراق ولكنه حاليًا واضح جدًا.
وفي القوقاز عجزت الدول الأوروبية عن دعم التيارات المؤيدة لها في جورجيا، وللإنصاف فإنها لم تكن تملك أوراقًا كثيرة.
بصفة عامة فيما يخص ملفات الدفاع والمصانع الحربية يمكن القول إن هناك خطوات تم اتخاذها وهي مهمة وإن كانت بطيئة، دربت أوروبا ٧٠ ألف عسكري أوكراني، وتخطى دعمها العسكري لأوكرانيا حاجز الـ٤٧ مليار يورو، وشهدت القارة تطويرًا في التعاون بين الدول في مجال الدفاع الجوي والدفاع ضد الصواريخ والحرب الإلكترونية والذخيرة المتجولة، وارتفعت ميزانيات دفاع أغلب الدول، ولكنه يبقى أن هذه الجهود تأخرت ولن تسعف كثيرًا أوكرانيا، كما يبقى أن التصنيع الحربي أمر، وتقوية الجيوش أمر آخر، الأول يتطلب عمالة مدربة وزيادة في القدرات الإنتاجية لا يمكن توفيرهما بين ليلة وضحاها، والثاني يتطلب زيادة أعداد الأفراد في القوات المسلحة وتدريبهم واكتساب أو استرداد مهارات عملياتية. ويتشكك أغلب المراقبين في قدرة أوروبا على النجاح في هذه المعركة، لا سيما في ظل أزمات اقتصادية قد تتفاقم إن قررت واشنطن شن حرب تجارية.
الصورة ليست قاتمة تمامًا، انضمام السويد وفنلندا للناتو إضافة قوية للقدرات الأوروبية، ونتج عنه تحويل بحر البلطيق إلى بحر يهيمن عليه الناتو، أوكرانيا نجحت في إنهاء الهيمنة الروسية على البحر الأسود وفي إرهاق المارد الروسي، القوات البرية البولندية لا تزال تواصل تطورها، القارة خرجت من سباتها الاستراتيجي، ولكن الوقت تأخر.