شهد النظام الدولي في العصر الحديث تتابع عدد من الأحداث والظروف التي أدت بدورها إلى إثارة الجدل حول خصائص النظام الدولي القائم، وتحمل في طياتها سمات جديدة لنظام دولي جديد. فعلى الرغم من ارتباط النظام الاقتصادي الدولي بمفهوم العولمة والانفتاح الاقتصادي وإزالة الحواجز بين الدول، جاءت جائحة كورونا لتدفع عددًا كبيرًا من الدول إلى اتباع سياسات الانغلاق الاقتصادي، وإعلاء المصالح الاقتصادية الوطنية فوق منافع التجارة الدولية، التي تمت المناداة بها منذ الأربعينيات من القرن الماضي، وتم إقرار مبادئها مع تأسيس منظمة التجارة العالمية في الأول من يناير عام 1995، وكذلك جاء الصراع الروسي الأوكراني منذرًا بتغير النظام الدولي من الأحادية القطبية إلى التعددية القطبية.
وقد كان لتلك الأحداث، من انتشار الأوبئة والصراعات الدولية، انعكاساتها الاقتصادية غير المواتية على كافة دول العالم، وبصفة خاصة الدول النامية التي لا تطمع في الحصول على أي مكاسب عالمية من جراء تلك الأحداث، بل تصارع إما من أجل الوصول باقتصاداتها الكلية إلى مستويات آمنة، أو للحفاظ على أي مكتسبات تم تحقيقها قبل تلك الأحداث. ومع انشغال الدول الكبرى بمصالحها الخاصة وما آلت إليه تلك المصالح من نزاعات مسلحة، أصبحت هناك ضرورة ملحّة لتحقيق الاستفادة القصوى من إمكانيات الدول النامية، والتوجّه نحو تعميق أطر التعاون الإقليمي فيما بينهم.
انعكاس الأزمات الراهنة على الدول العربية
ويمكن الحديث بصفة خاصة عن المنطقة العربية التي تمتلك العديد من مقومات التعاون والتكامل، كاللغة والثقافة والتاريخ والهوية المشتركة، فضلًا عن مواجهاتها عددًا من التهديدات المشتركة نظرًا لموقعها المتميز وامتلاكها للموارد والثروات التي كانت دومًا محل أنظار الدول الغربية. وقد تأثرت الدول العربية بأزمتي جائحة كورونا والصراع الروسي الأوكراني كغيرها من الدول. فمن جهة، أدت جائحه كورونا إلى اضطراب سلاسل الإمداد العالمية، الأمر الذي انعكس على كافة عمليات الإنتاج والتصنيع وارتفاع تكلفة السلع النهائية، مما أدى إلى خلق موجات من معدلات التضخم المرتفعة انعكست على الموازنات العامة، وعلى موازين المدفوعات، وأدت إلى تدهور المستوى المعيشي للأفراد بالاقتصادات المختلفة. ومن جهةٍ أخرى، فقد أدى الصراع الروسي الأوكراني إلى تهديد إمدادات الطاقة والمنتجات الغذائية وارتفاع أسعارها بما يُهدد الأمن الغذائي في بعض الدول، كما انعكست أسعار الطاقة المرتفعة على أسعار كافة السلع والخدمات في مختلف الدول.
وعلى الرغم من امتداد تأثير تلك الأزمات على كافة النواحي الاقتصادية بالدول المختلفة؛ إلا أن تأثيرها المباشر يتمثل في اضطراب الإمدادات من مدخلات الإنتاج والطاقة والمنتجات الغذائية وكذلك وفود السياحة الخارجية. وقد عكست كلتا الأزمتين خطورة استمرار الاعتماد على الاقتصادات الكبرى لتوفير الاحتياجات من السلع الأساسية وموارد الإنتاج؛ فمع بدء تهديد أزمة كورونا تخوّفت الدول من عدم كفاية الإنتاج لاحتياجات مواطنيها، الأمر الذي دفع الدول الكبرى إلى حظر تصدير بعض السلع، والتوجه نحو الانغلاق لضمان تحقيق الاكتفاء الذاتي لأطول فترة ممكنة دون النظر إلى احتياجات الدول الأخرى، مما هدد الدول النامية بصفة خاصة. وكذلك الأمر بالنسبة لتداعيات الصراع الروسي الأوكراني؛ إذ عكس بدوره خطورة الاعتماد على دول ومصادر محددة لتوفير السلع الأساسية، ولفت الانتباه إلى ضرورة التوجه محليًا وإقليميًا لتنويع مصادر الحصول على السلع الضرورية.
ومن الملاحظ اختلاف قنوات وحدة التأثير بين الدول العربية وبعضها بعضًا؛ حيث يهدد الصراع الروسي-الأوكراني الأمن الغذائي في لبنان وسوريا وتونس واليمن، نتيجة اضطراب توريد المواد الغذائية وخاصة الحبوب؛ إذ تعد روسيا وأوكرانيا من أهم الشركاء التجاريين لسوريا وتستورد منهما نحو ثلثي احتياجاتها من النفط والغذاء، وكذلك لبنان التي تستورد من كلتا الدولتين ما يزيد على 90% من استهلاكها من الحبوب، وبالمثل تستورد اليمن نحو 40% من احتياجاتها من القمح من الدول أطراف الصراع. وفي المقابل، تتأثر دول أخرى نتيجة تراجع إيرادات السياحة مثل مصر وتونس. ومن جهة أخرى قد تحقق الدول العربية المنتجة للنفط بعض المكاسب نتيجة ارتفاع أسعار الطاقة؛ إلا أن تلك المكاسب ليست دائمة، وخير دليل على ذلك وصول أسعار الطاقة إلى قيم سالبة إبان فترة جائحة كورونا، الأمر الذي يعني تأثر الجميع، واختلاف ذلك التأثير من دولة لأخرى ومن فترة زمنية لأخرى.
مقومات التكامل العربي
وبالنظر إلى الموارد الاقتصادية المتاحة في الدول العربية يتبين توفر كافة موارد الإنتاج والسلع الأساسية التي يمكنها أن تعزز من القدرة الاقتصادية للدول العربية حال تكاملها، فضلًا عن اختلاف الميزة التنافسية بين الدول العربية، بما يؤدي إلى تعظيم المنافع على مستوى كافة الأطراف، فتتوفر المياه والأراضي الزراعية في السودان، وتتوفر مصادر الطاقة في دول الخليج العربي وليبيا والجزائر، وتتوفر المعادن في تونس والمغرب والجزائر وموريتانيا، وتتمتع مصر بالبنية التحتية المجهزة لإقامة المشروعات الاستثمارية والقدرة البشرية ذات المهارة الفنية والإدارية، فضلًا عن توفر الغاز الطبيعي بها، وتتوفر رؤوس الأموال في الإمارات، ومن ثم يتبين توفر كافة عناصر الإنتاج من عمل وأرض ورأس المال والتنظيم. ومع توجه الدول العربية لتعزيز أطر التكامل الاقتصادي يُصبح الاقتصاد العربي أكثر كفاءة ومرونة، ويتمتع بقدرة أعلى على التحوط من مخاطر اضطراب الاقتصاد العالمي.
أوضاع قطاع الطاقة
وبصفة خاصة، على صعيد سوق الطاقة العربية يمثل إنتاج الطاقة العربية نحو 30% من إنتاج الطاقة العالمي، وتتمثل أهم الدول العربية المنتجة للنفط في قطر، والسعودية، والإمارات، والكويت، وليبيا، والجزائر. وقد تأثرت تلك الدول مع توقف الطلب على الطاقة خلال فترة جائحة كورونا، ثم حققت مكاسب نفطية مع ارتفاع أسعار الطاقة منذ مرحلة التعافي من الجائحة وحتى الآن على إثر تأثير الصراع الروسي الأوكراني على رفع أسعار الطاقة. ويتبين من ذلك عدم استقرار تدفقات موارد النفط لتلك الدول، وقد يزداد الأمر خطورة مع تحول دول العالم إلى مصادر الطاقة النظيفة. ومن جهة أخرى، فقد انعكست أسعار الطاقة المرتفعة سلبيًا على الدول العربية المستوردة للنفط، الأمر الذي هدد عمليات الإنتاج والتشغيل بها. وفي هذا الإطار، يأتي أهمية تعميق التعاون في مجال الطاقة لتوفير إمدادات الطاقة من مصادرها المختلفة واستغلالها بالشكل الأمثل. وتجدر الإشارة إلى أهمية منتدى غاز شرق المتوسط، الذي يضم في عضويته من الدول العربية مصر والأردن وفلسطين، في تعزيز إمدادات الغاز الطبيعي أثناء الفترة الانتقالية من الطاقة التقليدية إلى الطاقة النظيفة، فضلًا عن دوره في تعزيز الاكتشافات المتعلقة بالغاز في المنطقة، ورفع كفاءة استغلال القدرات الاقتصادية والبنية التحتية في تلك الدول بما يؤدي إلى جذب الاستثمارات وتبادل التكنولوجيا.
السياحة العربية
ولم يقتصر التكامل العربي على سوق السلع فقط، وإنما يمتد لسوق الخدمات، وخير مثال على ذلك قطاع السياحة. ومن أبرز الدول العربية امتلاكًا لمقومات السياحة السعودية، والإمارات، ومصر، وتونس، والمغرب. وقد تأثرت، ولا يزال التأثير مستمرًا، تلك الدول بتداعيات الصراع في أوروبا نظرًا لارتفاع وفود السياح من روسيا وأوكرانيا إلى المنطقة، لا سيما مصر؛ إذ يشكل السياح من كلتا الدولتين ما يقرب من 30% من إجمالي السياحة الوافدة إليها. وبتسهيل تحركات السياحة بين الدول العربية وخفض تكلفتها ينعكس ذلك على تأمين إيرادات السياحية العربية حال حدوث اضطرابات في الأقاليم الدولية الأخرى.
ومن ذلك يتبين أهمية تحقيق التكاتف العربي أكثر من أي وقت مضى؛ إذ يؤدي هذا التكامل إلى تحقيق الاستفادة القصوى من الموارد الإنتاجية المتاحة، وخلق سلاسل إمداد عربية أكثر استقرارًا وأقل تكلفة، ويتوقع أن يصب هذا التكامل نحو تحقيق أهداف التنمية الوطنية، وتعزيز قدرة الدول العربية على تحقيق أهداف التنمية المستدامة.



