شهدت الساعات الأولى من صباح يوم الأربعاء الخامس من مارس 2024 نشر بيان لجنة السياسة النقدية خلال اجتماعها العاجل والمتضمن إصدار قرار برفع أسعار الفائدة الأساسية بواقع 600 نقطة أساس، كما أعلن البنك المركزي السماح بتخفيض قيمة الجنيه المصري مقابل الدولار الأمريكي. فما دوافع ذلك القرار وما هي عواقبه؟
دوافع تخفيض قيمة العملة المحلية
جاء قرار البنك المركزي بالسماح بتخفيض قيمة العملة المحلية في ظل تأزم أوضاع النقد الأجنبي، واتساع الفجوة بين السعر الرسمي والسعر الموازي، وارتفاع معدل التضخم، وزيادة الحاجة لتدبير النقد الأجنبي لسداد التزامات الدولة، والإفراج عن البضائع بالموانئ. وفي ظل تعقد وتشابك التحديات الاقتصادية التي تعاني منها الدولة أولت الدولة أهمية خاصة للسيطرة على معدلات التضخم قبل التوجه لمعالجة أوضاع النقد الأجنبي.
- احتواء الضغوط التضخمية
وفي سبيل احتواء الضغوط التضخمية تبنت الدولة سياسات نقدية انكماشية منذ عام 2022 والذي شهد رفع أسعار الفائدة الأساسية لدى البنك المركزي بشكل استباقي وبواقع 800 نقطة أساس، واستمرت تلك السياسة الانكماشية خلال عام 2023 برفع أسعار الفائدة بمعدل 300 نقطة أساس، وجاء عام 2024 ليشهد استمرار رفع أسعار الفائدة بواقع 800 نقطة أساس بعد مرور أقل من ثلاثة أشهر من العام.
وعلى الرغم من استمرار السياسة النقدية الانكماشية منذ عام 2022، إلا أنها لم تفلح وحدها في السيطرة على معدل التضخم دون معالجة أوضاع سوق الصرف الأجنبي؛ نظرًا لتراجع معدلات العرض الكلي بسوق السلع في ظل عدم توفر نقد أجنبي يكفي لسد الاحتياج من مدخلات الإنتاج والبضائع المستوردة، فضلًا عن تبني سياسات مالية توسعية من خلال إطلاق الحزم الاجتماعية بما يزيد من حجم الطلب مقارنة بالعرض، وانتهى الأمر بإخفاق كلا السياستين: السياسة النقدية الهادفة إلى السيطرة على معدلات التضخم، والمالية الهادفة إلى التخفيف عن المواطنين.
- احتواء السوق الموازية للصرف الأجنبي
وقبل توجه الدولة لاحتواء السوق الموازية للصرف الأجنبي، تم العمل على محاولة التقريب بين سعر العملة الأجنبية بالسوق الرسمية والسوق الموازية للحد من الآثار العنيفة المصاحبة لقرار تخفيض قيمة العملة المحلية. فجاء الإعلان عن إتمام صفقة الشراكة الاستثمارية بين مصر والإمارات والمتمثلة في مشروع تطوير وتنمية مدينة رأس الحكمة وضخ 35 مليار دولار تمثل استثمارات أجنبية مباشرة.
وقد نجحت تلك الصفقة في إعادة الثقة للأفراد وتحسين التوقعات بشأن الأوضاع الاقتصادية. وبالفعل، شهدت السوق الموازية بدء تحسن قيمة العملة المحلية مقابل الأجنبية منذ الإعلان عن إتمام الصفقة وحتى إعلان بيان الاجتماع العاجل للجنة السياسة النقدية.
وعلى الرغم من الانعكاسات الإيجابية لصفقة رأس الحكمة على قيمة العملة المحلية وتراجع الفارق بين سعر الدولار في السوق الرسمية والسوق الموازية، إلا أنه لا يمكن توقع امتداد آثارها لاحتواء السوق الموازية، وهو الأمر الذي يتوقف على توفر عرض العملة الأجنبية بالسوق الرسمية بما يكفي لاستيعاب كامل الطلب على العملة الأجنبية.
وقد زاد من تعقد أوضاع سوق الصرف الأجنبي تأثير عامل التوقعات أو سيكولوجيا الأفراد من خارج المتعاملين بسوق النقد الأجنبي، أي بخلاف المستوردين والمستثمرين وما إلى ذلك ممن يتطلب عملهم التعامل بالنقد الأجنبي. فمع تأزم الأوضاع الاقتصادية فقد دفع ذلك جموع المواطنين إلى تحويل مدخراتهم إلى عملة أجنبية للحفاظ على قيمتها. ومع دخول الأفراد من خارج المتعاملين بالنقد الأجنبي إلى سوق النقد الأجنبي، أدى ذلك إلى زيادة الطلب على العملة الأجنبية وارتفاع سعرها بشكل متسارع، وتأزم الأوضاع بالنسبة للمتعاملين بسوق النقد الأجنبي، فانعكس ذلك على مزيد من الارتفاع في مستويات الأسعار وتراجع العملة المحلية واستمر السير في حلقة مفرغة.
ولكسر حلقات تلك الدائرة المفرغة، تشير كافة النظريات والشواهد التاريخية إلى ضرورة احتواء السوق الموازية من خلال تحرير سعر الصرف، إما مرة واحدة من خلال تحريك السعر في السوق الرسمية إلى السعر في السوق الموازية، وإما بشكل تدريجي من خلال تحريك جزئي وعلى مدة زمنية أطول حتى يتساوى السعران. ويعد ذلك القرار أحد اشتراطات صندوق النقد الدولي لإتمام الاتفاق بشأن زيادة قيمة القرض المقدم لمصر من قبل الصندوق، بما يعني قرب أجل صرف قيمة القرض وتغذية السوق الرسمية بالنقد الأجنبي، وهو الشرط الضروري لاحتواء السوق الموازية.
التداعيات المتوقّعة لتخفيض قيمة العملة المحلية
يتبين مما سبق حتمية اتخاذ قرار تخفيض قيمة الجنيه المصري لمعالجة التحديات الاقتصادية التي تواجهها الدولة منذ عام 2022 وزادت حدتها وطالت كافة قطاعات الاقتصاد المصري، وأثّرت بشكل كبير على المواطنين من كافة المستويات الاجتماعية. إلا أن ذلك القرار كان بمثابة الدواء المر الذي يلزم تجرعه لا محالة، مع تحمل ما يصاحبه من ارتفاع كبير لمعدل التضخم، فإذا كان التعويم لمرة واحدة فيتوقع أن يرتفع معدل التضخم بدرجة كبيرة ثم يستقر بعد استيعاب الصدمة الأولى لقرار التعويم، أما إذا كان التعويم تدريجيًا فتستمر الموجة التضخمية بمعدلات أقل ولمدة أطول. وربما ذلك يفسر الارتفاع الكبير في معدل أسعار الفائدة الأساسية بواقع 6% والتي تم إعلانها خلال الاجتماع الاستثنائي للجنة السياسة النقدية، والذي يهدف إلى تقليص السيولة المحلية بالأسواق ولا سيما مع حلول شهر رمضان المبارك.
وختامًا، فعلى الرغم من أنّ التحديات الاقتصادية تبدو في ظاهرها تحديات نقدية، إلا أنها في واقع الأمر ما هي إلا انعكاس للتحديات الهيكلية التي يجب العمل على مواجهتها من خلال زيادة معدل نمو ناتج القطاعات الإنتاجية المختلفة، فضلًا عن أهمية العمل الفعال على إزالة المعوقات التي تواجه البيئة الاستثمارية، حتى يتسنى لنا الاعتماد على مصادر أكثر استدامة للنقد الأجنبي متمثلة في الصادرات والاستثمار الأجنبي المباشر.