خلال الأسبوع الجاري ستبدأ رسميًا إجراءات ضم كل من فنلندا والسويد إلى حلف شمال الاطلنطي (الناتو)، بعد إعلانات الأسبوع الماضي بهذا الخصوص، في ظل حالة تأييد شعبي غير مسبوقة، تساندها حملة تأييد غربية، فيما كشف البنتاجون عن صفقة تسلح أمريكية نوعية لسويسرا جرى النقاش حولها في لقاء جمع مؤخرًا نائبة وزير الدفاع الأمريكي كاثلين هيكس ووزيرة الدفاع السويسرية فيولا أمهيرد، بشأن بيع طائرات من طراز “F35 A” وأنظمة “PATRIOT” الأمريكية لسويسرا. ولطالما نُظر إلى هذه الدول على أنها تمثل قوى الحياد التاريخية في أوروبا، وبالتالي فإن تخليها عن تلك السياسة ينطوي على سيناريوهات جديدة لما يمكن أن تعكسه من تداعيات في ظل الحرب الروسية على أوكرانيا في ظل الموقف الروسي المعارض بطبيعة الحال لتك الخطوة، فأحد الأهداف الاستراتيجية التي أعلنتها موسكو قبيل الحرب هي جعل أوكرانيا دولة محايدة بالقوة العسكرية في ظل فشل مفاوضات لسنوات مع مجلس الأطلسي على وقف سياسة “الباب المفتوح” لتوسعة الحلف، وهو ما يطرح تساؤلًا بشأن السيناريو التالي. فهل تؤدي توسعة الحلف إلى توسعة ساحة الحرب؟.
كانت أغلب التقديرات تُشير إلى أن الناتو لن يرضخ فعليًا للضغوط الروسية بشأن سياسة الباب المفتوح، لكنه قد يُرجئ تلك العملية إلى ما بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، إذا ما كان يعتقد الحلف فعليًا أن روسيا قد تنهزم فيها أو تُستنزف إلى الدرجة التي تعيق احتمالية تفكيرها في الانتقال من أوكرانيا إلى خارجها، لكن تراجعت تلك التقديرات في ظل التصريحات المتواترة من القوى الغربية بأن تلك الحرب قد تمتد لسنوات، وبالتالي يتعين على الحلف كجزء من تدابير الردع التي يقوم عليها حاليًا استئناف سياسة الباب المفتوح، بغض النظر عن موقف روسيا الذي يفسر تلك الخطوات على أنها تهديد مباشر لروسيا، سيتطلب بدوره اتخاذ إجراءات مقابلة للرد عليها، لكن لا يشترط كما تسير معظم التوقعات أن يكون الرد عسكريًا، على غرار الحالة الأوكرانية. فوفقًا لتصريحات كل من ديميتري مدفيدف نائب رئيس مجلس الأمن القومي، وديمتري بيسكون المتحدث باسم الكرملين، فإن روسيا قد تتخذ خطوات مقابلة تتضمن عملية انتشار في خليج فنلندا، بما يعني مزيدًا من الضغوط بالتبعية على دول البلطيق، بالإضافة إلى نشر أسلحة وقوات في مواقع أخرى مختلفة.
يرتبط هذا السياق بالإشارة إلى ما تمثله القيمة المضافة لضم كل من السويد وفنلندا إلى الحلف، بما تشكلانه من ثقل نوعي، ربما جعل الحلف يرتب أولوياته في هذا السياق، خاصة وأن الكثير من الدول الأوروبية الأخرى وضعت نفسها على قائمة الانتظار للانضمام للحلف، فالمؤكد أولًا أن الثقل الجيوسياسي، لا سيما لفنلندا، الذي سيمدد حدود الناتو مع روسيا إلى ما يتجاوز الألفي كلم برًا وبحرًا (من 1215 كلم – 2600 كلم) هو عامل مهم في هذا المعادلة، ولا يقل الأمر ذاته بالنسبة للسويد، وإن كان التماس الحدودي المباشر مختلفًا عن فنلندا. وكان الحلف ينظر إلى الفجوة الاستراتيجية التي تعاني منها جبهته الشمالية، مع روسيا وليس فقط الشرقية، والتي يمكن أن تنظر إليها موسكو على أنها جبهة رخوة في خاصرة الحلف، وهو ما كشفت عنه العديد من التقارير في الأسابيع القليلة الماضية، من أن القوات الجوية الروسية انتهكت أجواء هذه الساحة بما اعتبرته يشكل تهديدًا لها. وبالتالي فالمسألة من حيث الدوافع هنا لا تتعلق فقط بقدرات التعامل مع هذه الانتهاكات أو غيرها إذا ما فكرت موسكو في التمدد، بقدر ما يتعلق الأمر بإدارة تحالف واسع وتشغيل مشترك لمواجهة تلك التهديدات.
الأمر الآخر في معادلة موازين القوى، يرتبط بأن مفهوم الحياد السابق لم يكن يعني عمليًا سوى عدم الانخراط في الحروب، خاصة بالنسبة للسويد، منذ نحو قرنين من الزمن، لكن ذلك لم يقلل من بناء القوة العسكرية بل وتنامي وتعزيز تلك القدرات بعد كل حرب شهدتها تلك المنطقة إلى درجة تحولت معها السويد إلى أحد قلاع التصنيع العسكري في العالم. بالإضافة إلى ما ستمتلكه من قدرات هائلة للمقاتلات (F35) التي قد تصل إلى 150 مقاتلة، بالإضافة إلى ما يمثل النصف أو ما يزيد على النصف من عدد المقاتلات التي ستمتلكها بقية القوى الأوروبية، وهو ما يعني أن الجناح الشمالي الأوروبي سيكون الأقوى بشكل مباشر، بالإضافة بطبيعة الحال إلى منظومات “PATRIOT” كما سلفت الإشارة. هذا بالإضافة إلى الميزة البحرية التي ليست متوفرة لدول مثل بولندا. كذلك فإن متغير الفكر الإسكندنافي من الحياد التقليدي إلى العسكرة سيضع كلًا من هلسنكي واستكهولم في اختيار غير مسبوق إذا ما تحول المشهد الراهن. تقول الدولتان إن موسكو حطمت هذه الاستراتيجية بما فعلته في كييف، وبالتالي فالناتو هو المستفيد في هذه المعادلة.
إن الدلالات المباشرة لهذه الخطوة لا تتعلق فقط بتوازنات الردع، التي قد تتجه إلى روسيا، ففي المقابل يبدو خطاب الحلف مختلفًا عن هذا السياق، كخطوة متقدمة قد ينطوي السيناريو التالي على مسار تصادمي معاكس من جانب الحلف، وهو ما سيجعل روسيا تفكر أكثر في طبيعة الانتشار القادم، من حيث شكل القوة والسلاح ومواقع الانتشار والدور الذي ستلعبه، على الأرجح ستكون بيلاروسيا هي أول ساحة ستفكر فيها روسيا الآن لهذه العملية، وربما سيزيد الأمر تعقيدًا إذا ما فكرت روسيا في نشر أسلحة نووية هناك، خاصة وأن هناك مطالبة بيلاروسية في هذا الصدد. ربما أيضًا قد يكون التفكير في سيناريو آخر مرتبط بالحرب في أوكرانيا، حيث لن يكون من مصلحة روسيا توسيع نطاق الحرب والانتقال من الشرق الأوكراني إلى الغرب، حتى وإن استمرت في التذرع بنزع السلاح الأوكراني قد تكون الدونباس منطقة حيوية للقيام بهذا الدور، بالإضافة إلى الساحل الجنوبي لكن الخطوة في التمدد على الساحل هي التمدد باتجاه الصدام مع دولة أخرى في الحلف هي مولدوفيا.
من زواية أخرى، لم يعد الحديث هناك مقتصرًا على ترتيبات الأمن الأوروبي في إطار المقاربة مع الناتو، وتعزيز قدراته الدفاعية وإنفاقه العسكري. صحيح أن السويد وفنلندا تندرجان تحت هذه المظلة، لكن من المؤكد أنهما لم تكونا ضمن تلك الترتيبات عمليًا حتى وقت قريب، رغم أن الأمر كان يثار من آن لأخر، وفي إطار هذه المقاربة ستتوارى محاولات الاحتواء التي تسعى إليها كل من ألمانيا وفرنسا مقابل سياسة الاندفاع التي تقودها الولايات المتحدة وبريطانيا بدعوى تعزيز الحلف وتأهليه للمرحلة التالية، التي يحتمل معها توسعة الحرب، لكن ذلك سيتوقف بطبيعة الحال على تقدير روسيا للموقف، ما بين الترتيبات المقابلة أو المغامرة بالصدام.
في الأخير، من المتصور أن الأزمة الروسية مع الناتو تعود إلى المربع الأول مجددًا، فالحرب صممت منذ البداية على أنها معركة تحييد، تعتبر روسيا فيها أن لديها الكثير من الدوافع والمبررات لخوض هذه الحرب، وربما تمتلك نوعًا ما الفرصة وليس القدرة الكافية على القيام بذلك طالما أن أوكرانيا لا تتمتع بميزة المادة الخامسة من ميثاق الحلف، وبالتالي قد يكون السيناريو الأسوأ بالنسبة لروسيا هو توسعة هذه الحرب بالنظر إلى عامل القدرة وموازين القوة وليس الفرص الممكنة لكسب حرب عالمية. وقد تكون كارثية إذا ما وضع في الاعتبار حدود موازين القوة في المعادلة، خاصة القوة النووية لكل تلك الأطراف.