شكّلت قمة حلف الناتو في فيلنيوس (12 يوليو 2023) في لتوانيا نقلة نوعية جديدة في السياسات الجديدة للحلف تشكل تطورًا على القمة السابقة التي عُقدت في مدريد 2022 والتي ركزت على الإطار الاستراتيجي وفقًا للوثيقة الصادرة عنها آنذاك، ويمكن اعتبار هذه النقلة النوعية التي يعمل عليها الحلف هي مقدمة للقمة الماسية التي ستُعقد في واشنطن العام المقبل بمناسبة حلول الذكرى الخامسة والسبعين للحلف.
في قمة لتوانيا كانت هناك عدة خطط أوسع تنتمي إلى سياسة دفاعية هي الأكبر في تاريخ الحلف منذ انتهاء الحرب الباردة. وبحسب بعض التقارير فإن تلك السياسات وضعت في تقارير سرية وصلت إلى نحو 4 آلاف ورقة تقريبًا، ما يكشف عن جهد غير تقليدي وتفصيلي تضمن ما يتجاوز السياسات الدفاعية إلى خطط العمل الشاملة التي تم التركيز عليها، سواء على المستوى الجيوستراتيجي للحلف، والتطور الهيكلي، أو البنية الدفاعية والتهديدات كسياسة عالمية في ظل التحولات الراهنة في النظام الدولي.
ومع ذلك، يُمكن النظر إلى أنه يمكن التركيز على عدد من المشاهد الرئيسية في قمة ليتوانيا، منها على سبيل المثال عملية انضمام السويد إلى الحلف ليصل عدد الحلفاء إلى 32 عضوًا بالفعل، ومع ذلك فإن استراتيجية الحلف المعلنة هي الاستمرار في سياسة الباب المفتوح لضم المزيد من الأعضاء الجدد، كما أن جدول أعمال القمة اشتمل على محور خاص بأوكرانيا ضم الرئيس زيلينسكي والحلفاء، واحتلت عناوينه تصورًا لموقف الحلف من انضمام أوكرانيا إلى الناتو أو “استراتيجية التقريب” بتعبير البيان الختامي للقمة، ثم قمة لقاء شركاء الناتو التي ضمت أستراليا واليابان ونيوزيلندا وكوريا بالإضافة إلى الاتحاد الأوروبي.
التخطيط الاستباقي
على الرغم من أن قضية الحرب في أوكرانيا تحظى بأولوية لدى حلف الناتو، إلا أن جدول أعمال القمة لم يقتصر على تلك القضية وتطوراتها، وبصورة أوسع مما يمكن الاعتقاد فيه، تعتبر الحرب الروسية الأوكرانية حتى الآن حربًا محدودة إذا ما قورنت بالحربين العالميتين، صحيح أنه لا توجد ضمانات لإبقائها حربًا محدودة، أو أنها يمكن أن تخرج عن السيطرة، لكن في ظل المؤشرات الحالية، لا يزال هناك قرار بالإبقاء عليها كحرب محدودة، وما سيغير من هذا التصور على سبيل المثال عدة مخاوف، مثل اندلاع حرب نووية، أو محاولة دفع الحلف لهزيمة روسيا، بالإضافة إلى استمرار سياسة الباب المفتوح لضم أعضاء جدد ولا سيما من المجال الحيوي الروسي، كضم جورجيا، لكن في حالة أوكرانيا فلا شك أن تصور ضمها للحلف أصبح شبه مؤكد في حال استيفاء الشروط التي تبدأ من لحظة انتهاء الحرب، ولكن كيف ستتوقف الحرب؟
في السابق فشل “الناتو” وروسيا في القيام بترتيبات دفاعية مشتركة من خلال مجلس الناتو، لسنوات عديدة ما بعد استيلاء روسيا على القرم، ولدى كل طرف مبرراته، فروسيا كانت ترى أن ضم أوكرانيا للحلف يشكل تهديدًا استراتيجيًا لها، لكن اندلاع الحرب يعني سيناريو آخر ما بين روسيا والناتو، فالحرب ليست الأداة الحاسمة المضمونة لأي من الطرفين، وهي في الوقت ذاته ليست الإطار الذي يمكن أن يقود إلى ترتيبات أمن جديدة، فالحلف وروسيا ينتهزان الحرب للإضعاف المتبادل لحين الوصول إلى سيناريو مختلف، وهو ليس سيناريو “الانتصار” لأي طرف، وإنما سيناريو “المخرج الممكن”.
وبالعودة إلى مشاهد قمة ليتوانيا، من الأهمية بمكان الإشارة إلى مكاسب مختلفة للناتو، ومنها على سبيل المثال:
تطوير سياسات الدفاع وفرض قواعد اللعبة في النظام الدولي
هناك تباين يصل إلى حد التناقض في النقاشات المتعلقة بالنظام الدولي في قمة ليتوانيا، فبعض الإشارات تتطرق إلى القواعد التنظيمية في التعامل مع التطورات الجارية في النظام الدولي، وهنا تتم الإشارة في الوثائق إلى ما يسمى “قوة بكين” التي تمثل الخصم الاستراتيجي للحلف، وفي هذا السياق تم التوافق بين شركاء الناتو (الاتحاد الأوروبي، شركاء المحيطين الهندي والهادي) على التنسيق من أجل ضمان حرية الحركة الملاحية، وهي رسالة ضمنية للصين بطبيعة الحال بشأن معادلة الاشتباك في الساحة الآسيوية، بالإضافة إلى استمرار تسليط الضوء على تلاقي التحالفات التي تقودها الولايات المتحدة في هذا الصدد، الناتو و”إيكواس”. في المقابل لذلك، هناك إشارات غير مكتملة للحديث عن قواعد النظام الدولي، وهي شأن آخر يتعلق بالمنظور الأمريكي لقيادة النظام الدولي بالتعاون مع الحلفاء والشركاء بشكل رئيسي.
في هذا السياق، قال الأمين العام خلال القمة إن قوة بكين العالمية وحرب موسكو ضد أوكرانيا تتطلب تنسيقًا أوثق بين الناتو والاتحاد الأوروبي وشركاء المحيطين الهندي والهادئ، وأنهم سيعملون بشكل أوثق معًا، ويقفون بقوة من أجل النظام الدولي القائم على القواعد. ويعيد هذا التصور الخاص بمنظور فرض قواعد اللعبة إلى جدل تاريخي سابق حيث دور “الناتو” وما إذا كان يتعين عليه رسم استراتيجية خارج حدود الأطلسي من عدمه، فإحدى النظريات التي طرحت بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 والتي تعود لوزيرة الخارجية الأمريكية الراحلة مادلين أولبرايت، والتي حاولت فيها إقناع الحلف بتمدد دور الحلف لصد تهديدات الإرهاب الدولي، وهي تهديدات في شتى أرجاء العالم، ولا تتوقف على مسرح عمل الحلف. فيما كانت هناك نظريات معارضة لذلك، فقد عارضت قوى أوروبية -آنذاك- نظرية التمدد والخروج عن حدود مسرح عمليات الحلف. بينما طرحت رؤى أخرى تبنتها كندا على سبيل المثال وهي اقتصار عملية التمدد على الردع اللوجيستي من خلال أدوات الحلف وبالتعاون مع الأمم المتحدة والمنظمات الدولية وقوات حفظ السلام.
تحديات مفيدة
تكرر الحديث في قمة ليتوانيا عن “سياسات التكيف” مع تحديات الحرب الروسية الأوكرانية، في هذا السياق يمكن القول إنه على عكس نهج سياسات التكيف بدت هناك سياسات جديدة ومختلفة. لسنوات طويلة خاصة بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم كانت النقاشات ساخنة داخل الحلف حول الوصول إلى سقف الإنفاق الدفاعي المقدر بـ 2%، في حين يعتقد أن تقديرات الإنفاق الدفاعي تقترب من متوسط 8% في العام الثاني للحرب لأغلب دول الحلف. فضلًا عن اتساع قاعدة البنية التصنيعية للحلف. على سبيل المثال، كشفت تقديرات عسكرية أمريكية أن دولًا كانت على هامش التصنيع العسكري مثل بلغاريا باتت تلعب دورًا محوريًا في صناعة الذخائر.
كذلك فإن أحد المشاهد الرئيسية التي سلطت عليها القمة الضوء هي نتائج سياسة الباب المفتوح التي جات بكل من السويد وفنلندا إلى طاولة الحلف بعد التخلي عن سياسات الحياد، وبالإضافة إلى ما سبق ستشمل سياسات الدفاع التي تنطوي على الانتصار للنظرية الأمريكية في دور الحلف، ما كشف عنه الأمين العام ينس سلتنبيرج بأن الحلف يشهد “أكبر خطة لإعادة هيكلة المنظومة الدفاعية منذ الحرب الباردة”، وتشمل حزمة نوعية من الخطط الإقليمية التي ترسم آليات الردع والدفاع في مواجهة التهديدات الأمنية التي يمكن أن تتعرض لها الدول الأعضاء في الحلف، والتي تنقسم إلى ثلاثة محاور جغرافية لردع التهديدات الروسية والأعمال الإرهابية، والتي تشمل 5 أنواع من الاعتداءات: الجوية، والبرية، والبحرية، والفضائية، والسيبرانية، وتحدد الاستراتيجية التفصيلية التي سبقت الإشارة إليها المهام الموكلة لكل من الدول الأعضاء، والمناطق التي يفترض تأمين حمايتها وما تستلزمه هذه الحماية من موارد ومعدات حربية.
ومن الأهمية بمكان الإشارة في هذا الصدد أيضًا إلى عملية التعبئة العسكرية للحلف والتي ستصل إلى تشكيل قوة قوامها 300 ألف جندي، وهو ما يمثل قفزة تعبوية حيث كانت الخطط السابقة تقتصر على وجود قوة مشتركة قوامها 40 ألف جندي فقط، بالإضافة إلى العامل الزمني لعملية التعبئة خلال شهر، ومن المتصور أن توزيع عملية الانتشار في دول أوروبا الشرقية ينطوي على حسابات جديدة لتوازنات القوة، فروسيا تواجه تحديات تعبوية وفي أفضل التقديرات فإن عملية التعبئة لا تزيد على 300 ألف جندي.
أوكرانيا وعضوية الناتو
أكد الرئيس الأمريكي جو بايدن على صعوبة ضم أوكرانيا للحلف في حالة الحرب، ولا ينفي ذلك إمكانية الانضمام بشكل عام، وهو ما تمت الإشارة إليه وفقًا لما سلفت الإشارة إليه باستراتيجية “التقريب” في خطاب الأمين العام، في ظل عدم الحسم العسكري، كسيناريو افتراضي يمكن القول إن التفاوض قد يكون الملعب الذي يمكن أن تصاغ فيه قواعد اللعبة الجديدة لاستراتيجية الخروج من الحرب، تتبنى روسيا نظرية “المنطقة العازلة” ما بعد “المنطقة الدفاعية”، بحيث تشكل المناطق التي تضمها روسيا من أوكرانيا منطقة خط الدفاع الأمامي، ثم منطقة غرب نهر “الدينبرو” منطقة عازلة أو منطقة حظر جوي، ولا تقبل أوكرانيا وحلفاؤها حتى الآن بهذه الصيغة، ولا يعتقد أنها يمكن أن تقر على هذا النحو، بالإضافة إلى ذلك يقوي الناتو جدار أوروبا الشرقي، وروسيا هي الأخرى تمدد قوتها في بيلاروسيا، ربما بشكل أكثر فاعلية من أوكرانيا.
في المقابل، فإن استراتيجية الناتو للتقريب، والتي تعني برنامجًا مختلفًا لتأهيل أوكرانيا للانضمام للحلف، في حال إطلاق عملية تفاوض يمكن أن تتم تلك الوتيرة على التوازي مع جدول تسريع انضمام أوكرانيا للحلف، خاصة وأنها تتحول تدريجيًا في ظل الحرب إلى قوة عسكرية غربية، النقطة الأخرى هي تحييد القوة النووية الروسية، التي أصبحت على خط التماس مع الحلف بعد نشر القوة النووية التكتيكية الروسية في بيلاروسيا، فضلًا عن قاعدة جيب كليننجراد، وبالتالي فإن مسألة تحييد القوة النووية يظل من الصعوبة بمكان الوصول إليها في ظل معادلة تقوية جدار الحلف الشرقي في أوروبا. بالإضافة إلى موقف بولندا من هذه التفاعلات، حيث تعتبر بولندا أن بيلاروسيا حليف روسي مناوئ بل وخصم استراتيجي لها، وبالتالي فإن خط التماس على هذا الجدار سيبقى ملتهبًا وقابلًا لفتح لحدوث ارتدادات صعبة.
في الأخير، يمكن القول إن قمة ليتوانيا عكست تسريع استراتيجية تبني الناتو لسياسات دفاع متعددة المستويات والمراحل، قد تبدو أسرع من وتيرة السياسات الروسية التي لا تزال مستغرقة في ميدان الحرب في أوكرانيا، وتبني سياسات الدفاع لإبطاء أو تعويق الهجوم المضاد، قد تكون خطوات التحالف مع بيلاروسيا مؤشرًا، لكن كمعادل لاستراتيجية الناتو فإن الصين هي التي ستقرر في المقام الأول سياسات الدفاع المضادة وليس روسيا على الأرجح، حتى وإن شملت روسيا. ومع ذلك تبقى هذه السياسات والفرضيات مقدمة لتطورات وبرامج أوسع ستتخذ في قمة الحلف المقبلة في واشنطن في العيد الماسي للحلف، والتي يرتقب أن تجعل منها الولايات المتحدة قمة تاريخية.