تعاني الكثير من دول العالم من وجود عجز تمويلي، وتتعدد أوجه تسمية ذلك العجز، فقد يكون لتمويل مصروفات بالموازنة العامة للدولة، أو لتمويل خدمات عامة تقدمها البلدان لمواطنيها، أو لتمويل مشروعات البنية التحتية والاستثمارات المختلفة، لكنه يبقى عجزًا يستوجب توفير تمويل للإنفاق عليه. وهنا تتعدد أوجه التمويل هي الأخرى، حيث يمكن تمويله محليًا أو خارجيًا باستخدام الدين، أو يمكن تمويله باستخدام رأس المال من خلال شراكات استثمارية في تلك المشروعات، يمكن تسميتها بالاستثمار الأجنبي المباشر إذا كان ذلك التمويل خارجيًا، ويمكن تسميتها بالاستثمار المباشر المحلي إذا تم تمويلها محليًا.
الاستثمار المباشر هو شكل من الاستثمارات التي تستهدف الدخول في شراكات مباشرة مع شركاء من جانب القطاع الخاص، أو من جانب القطاع العام لإنشاء شركات جديدة، أو الاستحواذ على حصص حالية بشركات قائمة بهدف إعادة هيكلتها، سواء من حيث العمليات أو الإدارة لتعظيم قيمتها وتعزيز قدرتها على تحقيق أرباح، ومن ثم فإن الاستثمار المباشر يمكن تصنيفه إلى عدة تصنيفات، فإذ تم تمويله محليًا يُسمى بالاستثمار المحلي، أما إذا تم تمويله خارجيًا يسمى بالاستثمار الأجنبي المباشر. عادةً ما تتم إدارة الأموال المخصصة للاستثمار المباشر محليًا أو أجنبيًا من خلال صناديق، والصندوق هو عبارة عن شركة يتم تأسيسها يتم تسميتها بالصندوق، ثم يقوم المساهمون بضخ استثمارات بها، وفي تلك الحالة يمكن تسميتهم بالمستثمرين أو المساهمين أو الشركاء المحدودين (حسب الشكل القانوني للتأسيس). ويعين لذلك الصندوق مدير استثمار، وقد تختلف تسميته بين مدير الصندوق، أو العضو المنتدب التنفيذي، أو الشريك العام (حسب الشكل القانوني)، وتنقسم أهداف تلك الصناديق حسب قطاعات بعينها، مثل صندوق يستثمر في قطاعات التعليم أو الصحة، أو باختلاف أعمار الشركات مثل صناديق استثمار في الشركات الناشئة التي تسمى بصناديق رأس المال المغامر، أو يمكن تسميتها بالصناديق الخضراء في حال أنها تستثمر في مشروعات صديقة للبيئة أو منخفضة الأثر الكربوني مع مراعاتها للاعتبارات البيئية، والاجتماعية والحوكمة.
عام قوي عالميًا
عالميًا كان عام 2021 عام الاستثمار المباشر، حيث تجاوزت قيم الصفقات التي تم إبرامها ترليون دولار، تم تنفيذها من خلال 24.5 ألف صفقة، وهو يُعتبر ضعف المبلغ الذي تم استثماره في العام السابق له (عام 2020)، أما عن عدد الصفقات فهي أعلى من الصفقات التي تم إبرامها العام السابق له بحوالي 41.6%، استفادت معظم دول العالم من تلك الاستثمارات إذ حصلت أمريكا اللاتينية وأمريكا الشمالية على أعلى زيادة في إجمالي قيم الصفقات محققة نمو بحوالي 225% ليصل إجمالي الصفقات التي تم تنفيذها في عام 2021 إلى 19.5 مليار دولار مقابل صفقات بقيمة 6 مليارات دولار في عام 2020، أما عن أمريكا الشمالية فقد سجلت زيادة بحوالي 111 % في إجمالي قيم الصفقات، وقد استحوذت الولايات المتحدة الأمريكية تقريبًا على نصف قيم الصفقات التي تم إبرامها في عام 2021، إذ تم إبرام صفقات بمبلغ 534 مليار دولار من إجمالي قيم صفقات عالمية تبلغ 1 ترليون كما سبقت الإشارة.

الشكل 1: مصدر البيانات تقرير PWC بعنوان PE Trends 2022
مصريًا
محليًا لا تزال مصر لم تتبوأ مكانتها اللائقة في حال مقارنتها بنظرائها، على الرغم من إطلاق العديد من صناديق الاستثمار المباشر في السوق المصري خلال الأعوام الخمس الأخيرة، إلا أن تلك الجهود لا تزال محدودة في حال مقارنتها باحتياجات الدولة لمصرية، وتتركز معظم تلك الاستثمارات في رأس المال المغامر كونها الصناعة الأكثر إغراء بالنسبة للمستمرين من حيث قدرتها على النمو وتعدد الشركات بها، والزيادات المتسارعة في قيم تلك الشركات وهو ما يجعلها مغرية بالنسبة لصناديق رأس المال المغامر التي تبحث عن تحقيق مكاسب سريعة، لكن حقيقة تلك الصناعة (صناديق رأس المال المباشر) أنها صناعة مهمة جدًا على المستوى الاقتصادي للعديد من الأسباب، منها أن تلك الصناديق توفر تمويلًا للمشروعات التي ترغب الحكومة مشاركة القطاع الخاص بها، إذ إن تلك الصناديق مصممه لتستحوذ على حصص الأغلبية في الشركات محل الاستحواذ بهدف إعادة هيكلة الإدارة وتحسين عمليات الشركة وتعظيم قيمتها، ومن ثم القدرة على التخارج منها من خلال بيعها لمستثمرين آخرين لتحقيق أرباح، لتنتقل مسيرة الشركة إلى مستثمر آخر يستمر في عملية التحسين والتطوير لكن بفكر جديد أو باستراتيجية جديدة. ويأتي من ضمن أهداف تلك الشركات أيضًا شراء الشركات التي تعاني من مشاكل إدارية أو في العمليات أو فجوات تمويلية في ميزانيتها (نقص السيولة) وإعادة هيكلتها ثم بيعها كشركات قوية وناجحة لتحقيق مكاسب بها.
فبالنظر -على سبيل المثال- لحصص الشركات التي نقلتها مصر إلى صندوق استثمارات أبو ظبي السيادي ADQ، فإن ذلك الصندوق هو صندوق استثمار رأس مال مباشر لكن تعود ملكيته للدولة (إذ إن الدولة هي مستثمر وحيد في ذلك الصندوق) لكن الهدف واحد هو الاستحواذ، إذ الاستحواذ على حصص ملكية بالشركات لتحسين عملياتها وإعادة بيعها لمستثمرين آخرين. PIF أيضًا هو الصندوق السيادي السعودي الذي لديه مساعٍ لضخ مليارات الدولارات بالسوق المصرية ضمن استراتيجيته لتنفيذ العديد من العمليات الاستثمارية بمصر.
وشهدت السوق المصرية إطلاق العديد من الصناديق المتخصصة خلال الفترة الأخيرة، منها في قطاع التعليم، وهو صندوق لايت هاوس بإجمالي استثمارات 1.75 مليار جنيه، ومنها المتخصص في قطاع الصحة “Nile Misr Healthcare” بإجمالي استثمارات تبلغ 380 مليون دولار. ومن المنتظر أن يشهد السوق المصري العديد من الصناديق الأخرى في مختلف المجالات الاقتصادية التي تدعم أنشطة الدولة، والتوجه العام لها تجاه تشجيعها للقطاع الخاص نحو زيادة مساهمته في توفير تمويل للفجوة التمويلية للاستثمار في مصر، خاصة وأن العالم في الوقت الحالي يعاني من آثار السياسة الانكماشية التي تتبعها البنوك المركزية عالميًا والتي تسببت في تقييد سوق الدين العالمي وزيادة تكلفة الاستدانة بالنسبة للدول والشركات، ومن ثم برز الحديث عن جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي تعتبر البديل الأكثر استدامة لتحقيق تنمية اقتصادية مستدامة أقل تأثرًا بالدورات الاقتصادية في السوق العالمية.
من المؤكد أن الوضع الذي يعيشه العالم في بيئة مرتفعة أسعار الفائدة يضع قيودًا كبيرة على توفير التمويل بالديون، وتسعى الدول إلى تأمين احتياجاتها التمويلية من خلال مصادر تمويل أخرى، وعلى رأسها تظهر صناديق رأس المال المباشر، كونها الأداة الأكثر مناسبة للقيام بذلك الدور، خاصة وأنها تقوم به بفاعليه ولديها أثر نهائي إيجابي على العجلة الاقتصادية من خلال تحسين كفاءة الاستثمارات التي تستثمر بها. لكن تلك الصناديق تحتاج إلى قوانين مرنة ويسيرة، تتماشى مع تلك التي توفرها العديد من دول العالم مثل سنغافورة وجزر كايمن، وسوق أبوظبي، ويمكن تطبيقها بشكل سريع، إذ إنه دون وجود قوانين يسيرة وسريعة التطبيق ستظل تلك الصناديق بعيدة عن السوق المصرية، وهو ما يحرم الدولة من الاستفادة من التنمية التي تتحقق بوجود ذلك النوع من الصناديق بالسوق المصرية.
نائب رئيس وحدة الاقتصاد ودراسات الطاقة