دخلت دول حلف شمال الأطلسي ” الناتو ” مرحلة جديدة ” عندما أقرت دول الحلف الثلاثين في مدريد يوم 29 من شهر يونيو الماضي” وثيقة إستراتيجية جديدة ” سوف تعمل على تعزيز مبدأ ” الردع والحماية الجماعية” الذي قام عليه الناتو منذ التأسيس في 4 أبريل عام 1949 ، وذلك من خلال الانتقال لحقبة نوعية تقوم على تعزيز الوجود العسكري للحلف خاصة في الدول التي تجاور روسيا من الغرب في الجناح الشرقي للناتو ، والهدف من الإستراتيجية الجديدة هو ” تعزيز المناعة الأمنية “، و صياغة ” مقاربة جديدة ” تعمل على تقوية وترسيخ ” معنى المادة الخامسة ” من ميثاق الحلف التي تنص على ” الاستجابة السريعة ” لأي تحدي تتعرض له أي دولة من الدول الأعضاء.
وأعطت الحرب الروسية الأوكرانية ” قبلة الحياة ” للناتو الذي كان يضم 30 دولة لحين استكمال عضوية فنلندا والسويد ليصبح عدد أعضاء الحلف 32 دولة عقب موافقة برلمانات الدول الثلاثين على ضم هلسنكي وأستوكهولم ، وقبل انضمام فنلندا والسويد دخلت 15 دولة للحلف في عهد الرئيس الروسي فلاديمير بوتن ، الأمر الذي يفسر اعتراض وغضب الكرملين على أي توسعات جديدة للحلف الذي وصفه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عام 2018 بأن الناتو ” عفي عليه الزمن ” كما وصفة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون عام 2019 ” بأنه مات إكلينيكياً “.
و بمناسبة مرور 40 عاماً على انضمام اسبانيا للناتو في يونيو 1982 اختارت الدول الأعضاء مدريد لإطلاق ” الإستراتيجية الجديدة ” التي تختلف عن أخر استراتيجيه أقرها الحلف عام 2010 حيث ترسم إستراتيجية الحلف الجديدة ” خريطة طريق ” للدول الأعضاء خلال السنوات العشر القادمة بما يكفل ” صياغة مسار جديد” ليس فقط بإعادة توصيف ما تسميه البيانات الرسمية للحلف بالخطر الروسي والصيني ، بل أيضاً بإعادة ترتيب أجندة الناتو بما يتواكب مع التحديات الجديدة سواء المتوقعة أو الطارئة ، فما هي أبعاد ومعطيات الإستراتيجية الجديدة لحلف الناتو ؟ وهل يمكن أن تكون ” المعادلة الجديدة ” التي يسعى الناتو لفرضها في أوربا بداية” لتبريد الصراعات” أم لتصعيد التوتر بين روسيا والصين من جانب والغرب من جانب أخر؟.
وتقوم ” الإستراتيجية الجديدة ” على 6 مرتكزات منها ما كان قائماً بالفعل في إستراتيجية عام 2010 ومنها ما هو جديد يتعلق بالحقبة الجديدة القادمة:
أولاً : استمرار سياسة ” الباب المفتوح “
لا تتعلق دلالة المكان وانعقاد القمة في مدريد فقط لأنها تتزامن مع مرور 40 عاماً على انضمام أسبانيا للحلف، لكن أيضاً لأن قمة مدريد عام 1997 أقرت مبدأ ” التوسع شرقاً ” وسياسة ” الباب المفتوح ” و” حرية اختيار التحالفات ” عندما قبلت الدول الأعضاء ترشيح بولندا والمجر والتشيك في ذلك العام ، وهو الأمر الذي تؤكد عليه الإستراتيجية الجديدة التي تشكل دعم كامل وغير مشروط لأي دولة تنطبق عليها شروط الانضمام لحلف الناتو خاصة بالنسبة لفنلندا والسويد اللتين تقدمتا بطلب العضوية في الشهر الماضي ، لكن إصرار الحلف على مسار التوسع يصطدم بالسبب المباشر للحرب الروسية الأوكرانية حيث كانت روسيا وما تزال تطالب بعدم ضم أوكرانيا وجورجيا ومولدوفا للحلف ، كما سبق لروسيا الاعتراض على طلب انضمام فنلندا والسويد للناتو الذي يؤكد على مدار الساعة عدم التزامه باتفاقية عام 1997 مع روسيا، والتي تنص على عدم التوسع شرقا سواء في الدول التي كانت سابقاً تابعة للإتحاد السوفيتي أو حلف وارسو ، بحسب بيان نائب الأمين العام للناتو، ميرتشيا جيوانا، الذي قال ان ضم روسيا لشبة جزيرة القرم في مارس 2014 ، والحرب على أوكرانيا التي بدأت في 24 فبراير الماضي أنهت بلا رجعة ” اتفاقية عام 1997 ” والتي يطلق عليها ” القانون التأسيسي للعلاقات المشتركة والتعاون والأمن بين روسيا والناتو”
ثانيا: روسيا هي التهديد الأكبر
تصف الوثيقة الجديدة روسيا من دولة كانت ” شريك إستراتيجي ” للناتو منذ قمة عام 1999 إلى ” التهديد الأول ” للأمن الجماعي الأوربي، وهو ما يعني نهاية لإستراتيجية ورؤية ” روسيا الناتو ” التي استمرت لنحو 23 عاماً ، وساهمت في تحقيق الاستقرار الأمني في أوربا حتى تعرضت لضربة قوية عام 2014 عندما ضمت روسيا شبة جزيرة القرم ، ولهذا وصفت وثيقة الأمن الجماعي للناتو روسيا بأنها ” التهديد الأكبر ” للأمن الجماعي الأوربي” بحسب تصريح جوليا سميث المندوبة الدائمة للولايات المتحدة لدى حلف شمال الأطلسي، على الجانب الروسي تعيد روسيا من جانبها قراءة الفترة من عام 1999 حتى 2020 ، وتراها موسكو بمثابة ” خدعة” لتمرير 15 دولة كانوا في السابق ضمن الاتحاد السوفيتي الذي تفكك في 25 ديسمبر 1991 ، أو دول كانت في حلف وارسو الذي تأسس عام 1954 وجرى ضمهم للناتو ، ورغم ذلك سوف يمد الحلف يده لروسيا في مجال السيطرة على الأسلحة النووية الهجومية حيث ما زال يقترح تجديد اتفاقية الحد من الأسلحة الهجومية الإستراتيجية ” ستارت 3 ” التي ينتهي العمل بها في 2026، وكانت روسيا والولايات المتحدة اتفقتا على تمديدها لـ5 سنوات فقط بعد دخول الرئيس الأمريكي جو بايدن للبيت الأبيض في 20 يناير 2021 ، وهي الاتفاقية التي كان يجب أن يتم تمديدها 10 سنوات وفق لنص الاتفاق الذي وقعته واشنطن وموسكو في عام 2011 .
ثالثاً : الصين تحدي لمصالح وقيم الحلف
نجحت الولايا المتحدة في نقل صراعها مع الصين من المحيطين الهندي والهادئ إلى أوربا ، فالقراءة المتأنية لوثيقة الناتو تقول أن الناتو الذي كان تاريخياً يهتم بالأمن والاستقرار في أوربا بات ينظر إلى الصين كتحدي لمصالح وقيم الحلف ، وفق البيان الختامي لقمة الحلف في مدريد الذي قال ” إن طموحات الصين المعلنة وسياساتها القسرية تتحديان مصالحنا وأمننا وقيمنا، و أن بكين تستخدم مروحة واسعة من الأدوات السياسية والاقتصادية والعسكرية لزيادة نفوذها الدولي فيما تبقى غامضة بشأن إستراتيجيتها ونياتها وتعزيزها العسكري” ، ولهذا يقوم موقف الناتو الجديد من الصين على مجموعة من الشواهد أبرزها :
1-ينظر حلف الناتو بقلق شديد للتقارب الصيني الروسي خاصة بعد رفض الصين إدانة العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا ، وقيام القاذفات الإستراتيجية الروسية والأوكرانية بطلعات مشتركة فوق المحيط الهادئ أثناء انعقاد ” قمة الكواد ” الأخيرة التي شارك فيها الرئيس جو بايدن بجانب زعماء الهند واليابان وأستراليا في طوكيو في مايو الماضي
2-ينظر الحلف بقلق شديد لتجديد ” اتفاقية الصداقة الصينية الروسية ” التي تتضمن نحو 300 اتفاقية وبرتوكول وتضمن الوصول بالتجارة البينية بين البلدين لنحو 200 مليار دولار عام 2025 ، ويعتبر الناتو أن التزام الصين بهذه الاتفاقية هو بمثابة رفض للعقوبات الغربية على روسيا ، في حين تقول الصين أنها ضد أي عقوبات أحادية تفرض من خارج مجلس الأمن
3- يمتد قلق الحلف إلى الاتفاقيات التي وقعتها الصين وروسيا في 4 فبراير الماضي بين الرئيس شي جين بينج ، والرئيس الروسي فلاديمير بوتن والتي وصفت التعاون بين البلدين بأنه ” بلا سقف ” ، وأن هذا التعاون يمثل دعم لروسيا في أجندتها ” العدوانية ” ضد دول الحلف في أوربا
4- يتهم الناتو الصين بالقيام بالهجمات السيبيرانية “سيئة النية”، ونشر “المعلومات المضللة” و”أدبيات المواجهة”، ، أن بكين ” تستخدم نفوذها الاقتصادي لخلق تبعية استراتيجية، ولتعزيز نفوذها، وتسعى جاهدة لتقويض النظام العالمي القائم على قواعد، بما في ذلك في المجالات الفضائية، والسيبرانية، والبحرية ”
5- ترفض دول حلف الأطلسي الزيادة الدائمة في الميزانية العسكرية الصينية والتي وصلت لنحو 290 مليار دولار عام 2021 ، وفق بيانات معهد السلام الدولي في أستوكهولم ، والذي قال أن الصين أصبحت ثاني دولة في العالم تنفق على السلاح بعد الولايات المتحدة ، وترى أن وراء هذا الانفاق الكبير أهداف تتجاوز الدفاع عن المصالح الوطنية الصينية
6- رغم كل الاتهامات للصين أكد الحلف على أهمية التواصل مع بكين من أجل حل القضايا العالقة بين الطرفين، وقال الأمين العام للناتو، ينس ستولتنبرج، “الصين ليست خصما، لكن يجب أن نأخذ في الاعتبار العواقب على أمننا عندما نرى أنها تستثمر بكثافة في معدات عسكرية جديدة، ومحاولة السيطرة على البنى التحتية الأساسية التي لها علاقة بالأمن مثل شبكات الجيل الخامس” .
7- ربط الصين بإستراتيجية الناتو لأول مرة يؤكد أن نظرة الحلف للأمن والاستقرار في أوربا بأنها لا يمكن أن تنفصل عن الاستقرار في شرق وجنوب شرق آسيا ، لذلك تم دعوة شركاء الناتو في في أسيا وهم اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزيلندا لحضور قمة الحلف في مدريد
8- تؤكد رؤية الناتو الجديدة للصين على أنه سوف يطور ” إستراتيجية استجابة شاملة ” لما تصفه دول الناتو بالتحديات الصينية الجديدة خاصة الحديث الغربي حول التجسس الاقتصادي والتنمر السياسي على دول جوار الصين
رابعاً : التكيف والمرونة
رابع المبادئ التي أقرها الحلف هو التأكيد على ” مبدأ التكيف والمرونة ” ، فالإستراتيجية الجديدة تقول أن ” العالم بات أكثر خطورة “، وهو ما يحتاج مزيد من المرونة والقدرة على التكيف والردع ،لذلك قرر نشر مزيد من التعزيزات في الدول المجاورة لروسيا مثل دول بحر البلطيق الثلاث ليتوانيا ولاتفيا واستونيا، لتضاف تلك التعزيزات إلى نشر الحلف 4 مجموعات قتالية جديدة في 21 مارس الماضي في دول الجناح الشرقي للحلف الذي أصبح له 8 مجموعات قتالية بالقرب من الحدود الروسية بعد أن نشر 4 مجموعات قتالية سابقة في عام 2017 ، كما أن عدد القوات الأمريكية في أوربا وصل إلى 100 ألف جندي ،وزيادة عدد قوات الناتو لنحو 300 ألف جندي بالقرب من حدود دول الحلف مع روسيا.
خامساً : الاستثمار في الاستقرار
شكلت الحرب الروسية الأوكرانية دافع لزيادة الإنفاق العسكري لدول الحلف ، وهو هدف قديم للناتو منذ قمة ويلز عام 2014 والتي طالبت دول الناتو بإنفاق نحو 2 % من الناتج القومي الإجمالي على الشئون الدفاعية ، وهو أمر كانت ترفضه دول مثل ألمانيا وهولندا في السابق، لكن ألان أصبحت برلين نموذج في التحول السريع نحو تحديث الجيوش الأوربية بوضع نحو 100 مليار يورو في صندوق خاص لتحديث الجيش الألماني بالإضافة إلى ميزانية عسكرية قياسية لم تشهدها ألمانيا منذ الحرب العالمية الثانية بلغت نحو 50 مليار يورو.
سادساً : ” الجناح الجنوبي للحلف ”
أكثر المحاور التي تشكل إضافة جديدة لرؤية الناتو خلال العقد القادم كانت بالتركيز على التعاون مع ما أسماه الحلف بدول ” الجناح الجنوبي ” الخاص بالتعاون مع دول شمال وغرب إفريقيا في قضايا هامة مثل الإرهاب وعدم الاستقرار في شمال إفريقيا ومنطقة الساحل والصحراء من خلال تقديم حزمة مساعدات جديدة لموريتانيا للمساعدة في محاربة الإرهاب والسيطرة على حدودها وتعزيز دفاعها وأمنها.
خبير في العلاقات الدولية