شهدت السنوات الأخيرة تسارع تنفيذ عددٍ من مشروعات بناء الموانئ الجديدة، أبرزها ثلاثة مشروعات، هي: مشروع ميناء جوادر الباكستاني، وتشابهار الإيراني، وصحار العماني. وتأتي أهمية دراسة هذه المشروعات الثلاثة، وتأثيراتها المحتملة، ليس فقط بالنظر إلى مواقعها الجغرافية، ولكن بالنظر أيضًا إلى وجود قوى دولية وإقليمية مهمة تقف وراءها، الأمر الذي قد يجعل هذه الموانئ ساحات للصراعات الدولية والإقليمية. ويذهب البعض إلى أن هذه المشروعات سيكون لها تأثير على شكل التجارة العالمية، وعلى مكانة مدينة دبي الاقتصادية التي يُعتبر ميناؤها التاسع بين موانئ العالم من حيث الحجم، والأكبر خارج منطقة الشرق الأقصى.
ولم تخلُ المشروعات الثلاثة الطموحة والوليدة لميناء جوادر الباكستاني، وتشابهار الإيراني، وصحار العماني، من صراع وتوظيف المحاور المتصارعة إقليميًّا من الصين والهند، إلى إيران ودول الخليج العربي. كما يُرجّح وجود تنافس شديد بين هذه الموانئ الجديدة، غير أنه لن يلغي أيٌّ منها الآخر، أو يمثل نهاية لسابقيه، إلا أن الوعي بالتأثيرات الاستراتيجية المتبادلة والخطيرة والاستعداد لها لا شك يمثل مسألة مهمة وضرورية للجميع.
وقد سعت كثير من الكتابات الباكستانية والهندية والعربية للوقوف على تأثير ميناء جوادر على ميناء جبل علي بدبي بشكل خاص، لكنّ الإماراتيين يرفضون ذلك، رغم قلقهم من الإقرار بهذا التأثير، حيث لا تزال ميزة إدارة الموانئ في حكومة دبي محل تقدير وقبول عالمي. وتختلف الآراء ووجهات النظر في قراءة صراع الموانئ المحتمل، خاصة ما يمثله ميناء جوادر الباكستاني على وجه الخصوص، من إمكانيات وتمويل صيني ضخم بدأ عام 2014، وكمركز لطريق الحرير الصيني بمكونيه البري والبحري. لكن يرى آخرون فرصًا أكبر لميناء تشابهار الإيراني، أو صحار العماني.
وتصاعدت في الآونة الأخيرة دعاية قطرية وإيرانية، إلى جانب أصوات الأخرى، ترى أن تلك الموانئ ستمثل خطرًا كبيرًا محتملًا على مستقبل دبي، لأنها ستؤثر على مكانة المدنية ومركزيتها في مجال صناعة الموانئ والتبادل التجاري العالمي.
الموانئ والصراع المحتمل
يفصل بين ميناء جوادر وميناء تشابهار الإيراني مائة كيلومتر فقط. كما يفصل بين الميناء الباكستاني وميناء صحار العماني 200 كيلومتر. ومن الضروري أن نُشير إلى أن هناك صراعًا مبطنًا بين الموانئ الثلاثة (جوادر، تشابهار، صحار)، قبل أن يكون بينها وبين دبي. فكل منها يختلف في مصالحه وأهدافه عن الآخر. فعلى سبيل المثال، بينما يمثل الميناء الإيراني بوابة لأفغانستان والهند بعيدًا عن جوادر، تمثل الصين المؤسس والمحرك الفعلي لمشروع جوادر بعيدًا عن الهند التي تتوجس خيفة من نجاحه، وإمكانيات تأثيره على مسألة كشمير المقلقة لها دائمًا.
ورغم ما طرحته إيران من إمكانية ربط الميناءين، على لسان سفيرها في باكستان، بعد توقيع الاتفاقية، الذي أكد أن بلاده ترحب بشراكة مع إسلام أباد والصين في المشروع، إلا أن الحماس الباكستاني أقل من ذلك، خاصة أن جوادر أكثر أهمية في الموقع والمستقبل. ومن المعروف أن الهند وإيران وقعتا معاهدة دفاع مشترك عام 2003، ولم يكن دعم الهند لميناء تشابهار الإيراني إلا ردًّا على دخول الصين للمحيط الهندي عبر جوادر، وللدخول المستتر لأفغانستان، وتوثيق كلٍّ منهما الروابط بعيدًا عن الجارة المجاورة باكستان. ورغم أن إيران لا تؤكد المنافسة بين تشابهار وجوادر، لكنها في الحقيقة كذلك.
1- ميناء جوادر:
لم تُعرف جوادر إلا في عام 1954 كمنطقة في بلوشتان (شبه جزيرة مكران) خاضعة للسلطنة العمانية، وقد باعتها الأخيرة لدولة باكستان الناشئة حينها. وسعى الرئيس الباكستاني الأسبق “برويز مشرف” إلى إعادة إعمارها وفق خطة انتهت عام 2007 بتكلفة بلغت 248 مليون دولار. وهو ما اعتُبر جزءًا من استراتيجية لإرضاء سكانها البلوش، وإسكات حركات التمرد البلوشي بها التي ما زالت مستمرة حتى الآن.
وقد تم الإعلان عن المشروع الجديد أواخر عام 2015، وتم استئجاره بواسطة الصين لمدة 43 عامًا، تنتهي في عام 2059، بعمل ميناء عملاق في المدينة الساحلية، يتجاوز الأنشطة التقليدية له عام 2015، حيث أعلنت اللجنة الاقتصادية الصينية الباكستانية المشتركة عن هدف ربط شمال باكستان بغرب الصين. وتم إعلان أنه سيكون مركزًا صناعيًّا ومرفقًا للغاز الطبيعي بتكلفة 2,5 مليار دولار في المنطقة الحدودية بين إيران وباكستان (جوادر- نواب شاه) ومنطقة اقتصادية حرة على مساحة 2992 فدانًا.
وتم افتتاح وتشغيل ميناء جوادر رسميًّا في 14 نوفمبر عام 2016 في عهد رئيس الوزراء الباكستاني السابق -المقبوض عليه حاليًّا- “نواز شريف”، وسارت فيه مركبة تابعة للجيش الباكستاني. ويتوقع لميناء جوادر تحقيق أربعة أهداف رئيسية، حسب التصريحات الرسمية الباكستانية، تشمل:
– أن يكون منفذًا وميناء لتصدير منتجات الغرب الصيني.
– أن يكون معبرًا رئيسيًّا لدول جنوب آسيا.
– إعمار وتنمية منطقة بلوشستان الباكستانية التي تشكو الإهمال منذ عقود، والقضاء على حركة التمرد بها.
– أن يكون معبرًا بحريًّا مهمًّا يؤدي لمضيق هرمز.
وينقسم المشروع إلى حزام بري وطريق بحري، ويقع جوادر ضمن خطة الحزام البري الذي يتكون من 6 طرق رئيسية، أشهرها طريق قطار لندن إلى سور الصين العظيم الذي يقطع 18 ألف كيلومتر. ويمر بتسع دول (الصين، كازاخستان، روسيا، بيلاروسيا، بولندا، ألمانيا، بلجيكا، بريطانيا، فرنسا). وفي أغسطس عام 2015 رصدت الحكومة الصينية قرضًا، بدون فائدة، قدره 757 مليون دولار للحكومة الباكستانية، من أجل إعمار جوادر، وتأسيس البنية الأساسية المطلوبة في المدينة، تشمل مستشفيات ومتطلبات موانئ وغيرها. وأعلنت في سبتمبر عام 2015 منحة قدرها 230 مليون دولار لبناء مطار جوادر الدولي، ولا تتكلف منها الحكومة الباكستانية أي مبالغ.
2- ميناء صحار:
بدأت الحكومة العمانية، مع بداية الألفية الثانية، وبهدف تنويع مصادر الدخل القومي وتقليل الاعتماد على النفط، في إنشاء ميناء صحار كميناء متخصص للأنشطة إلى جانب تجارة البضائع العامة والحاويات في مدينة صحار. ويقع الميناء على بعد حوالي 240 كيلومترًا شمال مسقط. وبدأت الأعمال الإنشائية في الميناء في عام 1999، حيث بلغت الاستثمارات الحكومية في البنية الأساسية للميناء والمرافق التابعة حوالي 4 مليارات ونصف المليار دولار. ويشمل ذلك: كواسر الأمواج، وإنشاء الأرصفة لمحطات البضائع الجافة والسائلة والسائبة والحاويات، وكذلك مد أنابيب الغاز بين فهود وصحار، وأنابيب النفط الخام بين مسقط وصحار، بالإضافة إلى بناء محطة سحب مياه التبريد للمصانع، ومحطة توليد الطاقة وتحلية المياه، والبنية الأساسية في الممرات العامة كالطرق وقنوات تصريف مياه الأمطار والخدمات الأخرى.
وتبلغ مساحة أرض منطقة الميناء أكثر من 45 كيلومترًا مربعًا، ويحتوي على واحد وعشرين رصيفًا تتراوح أعماقها بين ستة عشر مترًا وخمسة وعشرين مترًا، ومجموع أطوالها 6270 مترًا. وقد أسندت حكومة عمان تطوير وإدارة منطقة الميناء لشركة ميناء صحار، بمساهمة كل من حكومة السلطنة وإدارة ميناء روتردام الهولندي مناصفة فيما بينهما. كذلك تم إبرام عقود تأجير الأراضي لإقامة المشاريع الصناعية والأنشطة الاقتصادية.
وترتبط بميناء صحار مناطق صناعية واقتصادية مكنته من جذب المشروعات الصناعية الضخمة المعتمدة على النفط والغاز، كصناعة البتروكيماويات والصناعات النفطية والتعدينية. كما أُلحق بالمشروع منطقة حرة تقدر مساحتها بحوالي 4500 هكتار، والتي سيتم تطويرها من قبل نفس الشركاء. كما يتضمن المشروع أيضًا مجمعات للصناعات الثانوية (البتروكيماوية والمعدنية)، بالإضافة إلى مجمعات للأنشطة اللوجستية.
واستطاعت المناطق الصناعية المرتبطة بالميناء جذب مشروعات صناعية ضخمة معتمدة على النفط والغاز؛ كصناعة البتروكيماويات، والصناعات النفطية والتعدينية. ويحتوي الميناء على 21 رصيفًا، تتراوح أعماقها بين 16 مترًا و25 مترًا، ومجموع أطوالها 6 آلاف و270 مترًا.
وخلال شهر ديسمبر 2017، أُعلن عن تدشين إيران خطين ملاحيين بحريين مع الميناء، لربط الميناء ملاحيًّا بميناء خرمشهر (جنوب غرب إيران)، بهدف زيادة التبادل التجاري بين البلدين. بالإضافة إلى تدشين خط ملاحي آخر بين صحار وتشابهار. كما أعلنت قطر عقب بدء أزمتها مع الدول العربية الأربع (مصر، السعودية، الإمارات، البحرين) عن فتح خط للشحن المباشر بين ميناء حمد القطري وميناء صحار.
3- ميناء تشابهار:
في الأول من ديسمبر 2017، تم افتتاح المرحلة الأولى من مشروع تنمية ميناء تشابهار، بمشاركة الرئيس الإيراني “حسن روحاني” ومسئولين من الهند وأفغانستان. ومن المتوقع أن يساعد الميناء في تحسين وتطوير العلاقات البينية والإقليمية بين الدول الثلاث بعيدًا عن باكستان، حسب تصريح صحيفة “إنديا تايمز”. وإن كانت إيران ووكالاتها تصرح بأنها تدرس ربطه بميناء جوادر الباكستاني. بهذا قد تكسب إيران والهند وباكستان وأفغانستان في خطوة واحدة؛ إلا أن شريكي إيران ضد هذا الحماس على ما يبدو من تصريحات المسئولين في الهند خاصة. لقد شاركت الهند بشكل جيد في المرحلة الأولى من بناء الميناء، وتم تقديم استثمارات قدرها 85 مليون دولار لهذا الغرض، ومن المخطط أن تبلغ القدرة الاستيعابية في المرحلة الأولى للميناء 8,5 ملايين طن.
ويتمتع ميناء تشابهار بموقع جغرافي مهم، يعزز من دوره في مجال النقل والترانزيت والنقل البحري للسلع المختلفة، ويعتبر أقل الطرق كلفة بالنسبة لدول آسيا الوسطى وأفغانستان، فضلًا عن طبيعته المناخية المتميزة، وهو ما يُعد ميزة تجارية أيضًا، حيث يتيح إمكانية نقل البضائع إلى آسيا الوسطى على مدار العام، وهناك خطط لإنشاء طريق سريع يربط تشابهار بالطريق الدولية بين محافظتي قندهار وهرات. أضف إلى ذلك مشروعين للسكك الحديدية، الأول تنفذه الهند، ويربط تشابهار بمنطقة حاجيغاك، والثاني بدأ الإيرانيون بتنفيذه ويربط محافظة هرات (غرب أفغانستان) بمدينة مشهد (شمال إيران) ومنها يتجه إلى الأراضي التركية. وسيتيح الميناء للهند الدخول والتجارة لوسط آسيا وأفغانستان دون العبور أو الحاجة لباكستان. وعبرت نيودلهي عن تقديرها العميق للجهود الإيرانية في الانتهاء من هذه المرحلة.
ومع توتر العلاقة بين كابول وإسلام آباد، وفرض الأخيرة قيودًا على حركة البضائع المتجهة عبر أراضيها إلى أفغانستان رغم الاتفاقية الموقّعة بين البلدين في مجال التجارة والنقل، فإن ميناء تشابهار يقلل من فرص فرض حصار على أفغانستان. ويقلل من اعتماد التجار الأفغان على باكستان كطريق وحيد لتأمين وصول أموالهم إلى داخل البلاد. كما أن تفعيل ميناء تشابهار سيكون سببًا في تنمية العلاقات التجارية بين الهند وأفغانستان. وفي هذا الإطار، فإن نيودلهي ضخت استثمارات بملايين الدولارات في الميناء.
ومن المرجّح أن ميناء تشابهار وتطويره سيظل أقل بكثير من جوادر. وعلى العكس، فإن ميناء جوادر يملك عمقًا مائيًّا، ودعمًا صينيًّا ضخمًا، ما يؤهله للمنافسة والصعود كميناء ومعبر عالمي جديد.
المنافسة بين جوادر وتشابهار
تبدو المقارنة والمنافسة الدقيقة ليست بين أي من هذه الموانئ الثلاثة من ناحية، وموانئ دبي من ناحية أخرى، ولكن بينها وبين بعضها بعضًا، خاصة بين ميناء جوادر الباكستاني وميناء تشابهار الإيراني، حيث إن إمكانيات جوادر وحجم الاستثمار فيه، وموقعه بالنسبة للصين وتجارتها الضخمة؛ تجعل فرصه أكبر بكثير من فرص الميناء الإيراني، خاصة مع توقع تأثير سياسات طهران ومشاكلها مع أغلب محيطها الإقليمي عليه، خاصة دول الخليج العربي، واحتمالات تعرضها المستمر للعقوبات.
كذلك، فإن مياه ميناء جوادر أكثر عمقًا من تشابهار، وسيمثل نقطة مركزية للواردات والصادرات الصينية، ليس فقط من دول الخليج العربي، بل من إفريقيا وأوروبا أيضًا، مع مراعاة أن بكين هي أكبر مستهلك للطاقة منذ عام 1993. وتعد دول الخليج المصدر الأول لموارد الطاقة بالنسبة لها. وفي ظل النمو السريع في حجم العلاقات التجارية الصينية الخليجية، من المتوقع أن يزداد الاعتماد على ميناء جوادر، بعيدًا عن ميناء تشابهار وممره الضيق نحو بحر الصين الجنوبي، حيث العديد من المشاكل بين الصين ورابطة دول آسيان. كما يتوقع أن يتم توقيع اتفاقية تجارة حرة بين الصين ودول الخليج، خاصة أن السعودية تعد المصدر الثاني للطاقة بالنسبة للصين بعد روسيا، وهو ما قد يدفع بكين للتقدم إلى مرتبة الشريك التجاري الأول مع دول الخليج العربي قبل دول الاتحاد الأوروبي مكتملة.
ومن المتوقع أن تكون فرصة جوادر أكبر بكثير من ميناء تشابهار الإيراني. كما أن المشاكل التي تعيشها إيران مع مختلف دول المنطقة والخليج، ما زالت أكبر بكثير من المشاكل التي يمكن أن تعيق جوادر بسبب الأقلية البلوشية في طريق مكران الساحلي في منطقة بلوشستان، وإن تعرضت عمليات الإنشاء لعدد من الهجمات من متمردي البلوش في المنطقة وراح على إثرها عدد من القتلى من الطرفين. كما أن التجارة الصينية مع دول وسط آسيا وأوراسيا، بما فيها أفغانستان، هي ما تحدد حجم التجارة الهندية معهما، مما يجعل سقف الطموح الهندي محدودًا وقابلًا للانخفاض مع تشغيل ميناء جوادر بطاقته المأمولة فيما بعد.
تحديات الموانئ الجديدة لمكانة دبي
يثير التطور الكبير في الموانئ الثلاثة تساؤلات عن مدى تأثيرها وتحديها لميناء جبل علي، الذي تملكه وتديره شركة موانئ دبي التي تدير حوالي 78 ميناء عالميًّا (وفقًا لبيانات 2017)، في دول بلغ حجم اقتصاداتها حوالي 53% من الاقتصاد العالمي، ما يتيح لدبي التحكم منفردة في 10% من التجارة العالمية.
ولهذا، كانت المقارنة بين موانئ دبي -ممثلة في ميناء جبل علي وميناء راشد- وميناء جوادر مستبعدة لاختلاف الغرض والتصميم لكل منهما، إلا أنه منذ فترة -ربما عام 2006- ومع إعمار منطقة جوادر في عهد “برويز مشرف”، تكرر الحديث عن منافسة محتملة بين ميناء جبل علي وميناء جوادر الباكستاني، وهو ما عبر عنه كثيرون، منهم -على سبيل المثال- ما ذهب إليه “شير خان بلوش” وزير السياحة والثقافة والثروة السمكية في حكومة إقليم بلوشستان، في تصريح له لشبكة “بي بي سي” في أبريل 2006: “إن دولة الإمارات العربية المتحدة تخشى بشدة من تطوير ميناء جوادر على سواحل بلوشستان، لأن ذلك سوف يحرمها من حصة كبيرة من الاستثمارات العالمية، بالإضافة إلى أنه سوف يمنح باكستان صفة القوة الاقتصادية الرئيسية في المنطقة”. ويهدف هذا التصريح إلى تصوير ميناء جوادر في صورة منافس لموانئ دبي، أو الترويج لوجود تهديد وصراع إقليمي صامت مع دبي، مستهدفًا الإمارات العربية ككل.
في هذا الإطار، نشر الكاتب والخبير الباكستاني “نافيد أحمد” مقالًا في صحيفة “باكستان تريبيون” قارن فيه بين كل من جوادر وتشابهار، حيث أشار إلى أن المشروعين “الصيني- الباكستاني” في جوادر، و”الإيراني- الهندي” في تشابهار؛ لن يمثلا تحديًا لموانئ دبي، حيث أكد أن جوادر أو تشابهار لن يكونا أبدًا قادرين أو جديرين بمنافسة ميناء جبل علي أو ميناء راشد في دبي، ففي حين أن كلًّا منهما في مرحلة التأسيس والبداية فإن ميناءَيْ دبي يملكان 102 رصيف ومطار. وأنه في حين لا يتناسب تشابهار مع قدرة وإمكانات منافسه الباكستاني، فإن جوادر سوف يكمل التجارة البحرية الإماراتية، خاصة مع ازدياد احتمال معاناة مضيق هرمز من الازدحام، وهو ما قد يجعل جوادر في النهاية مرسى مساعدًا أو مكملًا. ويرجّح الكاتب أن التخوف الحقيقي لدبي ربما يكون من ميناء صحار العماني، الذي يقع على بعد 200 كيلومتر جنوب شرق دبي، بدعم من السكك الحديدية العمانية، والذي يتسع لـ4 ملايين حاوية (بيانات عام 2017). وحال ربطه بالسكك الحديدية الخليجية، فسيكون لميناء صحار المزيد من الأهمية، ربما أكبر من دبي حسب الكاتب، وسيضيف لأهمية جوادر، ولكن من الممكن التعاون والتكامل بين الموانئ الثلاثة حال الازدحام في مضيق هرمز.
وقد كتب الصحفي الباكستاني “أسامة أحمد”، من إطار أوسع، مستبعدًا ما تروج له بعض وسائل الإعلام العربية من مخاطر محتملة على دبي من ميناء جوادر أو ميناء تشابهار، حيث أشار إلى أن دبي أوسع من كونها ميناء بحريًّا أو قلب التجارة في منطقة الخليج وأواسط آسيا فقط، ولكنها أيضًا مركز استثمار للتجارة الحرة ونظام حوكمة وإدارة ذكية تجتذب آلاف الشركات من مئات الجنسيات من مختلف أنحاء العالم على أراضيها. وأن السياق والحاضنة الاقتصادية المستقرة لدبي في قلب الخليج والإمارات العربية المتحدة لا تتوافر لجوادر الباكستاني بحال. هذا فضلًا عن كون دبي والإمارات نموذجًا للقوة الناعمة ودولة الرفاه، ومزارًا سياحيًّا، وذلك لا يتوفر لباكستان أو جوادر أيضًا. وبينما بلغت دبي معدلات عالمية ومؤشرات متقدمة في مجالات الخدمات والتنمية والاستثمار، ما زالت باكستان وجوادر عند نقطة البداية.
أما بخصوص القدرة كميناء وكعمل وإدارة موانئ، فلا مجال للمقارنة بين البلدين في المدى القصير، رغم أن الصين هي التي تدير ميناء جوادر، حيث إن قطاع اللوجستيكس والتخزين وإعادة التصدير لدى دبي يُعد قطاعًا قويًّا، وتعتمد عليه أسواق إفريقيا والهند والشرق الأوسط بشكل عام، وذلك بفضل سوق دبي الكبير، ووفرة البضائع، ووفرة وسائط النقل المتعددة جوًّا وبحرًّا وبرًّا بأسعار شحن رخيصة نسبيًّا، ما يجعل المنافسة بين جوادر ودبي مؤجلة لفترة.
أما منطقة جبل علي فلم تعد تعتمد على الاستيراد كنشاط رئيسي، وإنما أصبحت منطقة للتصنيع والتخزين والتصدير وإعادة التصدير لمنتجات مئات المصانع في المنطقة الحرة والمدينة الصناعية والمناطق المتخصصة المجاورة لهما. كذلك، فإن المنطقة اللوجستية بين ميناء جبل علي ومطار آل مكتوم تضم أسرع خط بين ميناء ومطار على مستوى العالم، بحيث إن المدة المستغرقة من وصول الباخرة إلى شحن الحاوية بالطائرة تعتبر أقل مدة مناولة بالساعات وهي أسرع مدة شحن بالعالم.
من هنا، يبدو أن صراع الموانئ أكبر من كونه تجاريًّا، بل هو سياسي واستراتيجي، تستهدف به كل دولة وكل شريك مصالح خصومه. فمن جانب تستشعر الهند والولايات المتحدة الخطر من الوجود الصيني المتنامي في باكستان، حيث تنظر واشنطن إلى الوجود الصيني في جوادر على أنه تهديد لخطوط تجارتها وللنفط الذي تحصل عليه من الخليج والذي يتم نقله لها ولأوروبا وللشرق الأقصى. كما تستشعر الهند الخطر على عبور الطريق إلى جوادر عبر كشمير.
وتنظر إيران، وهي لاعب مهم آخر في المنطقة، إلى ميناء جوادر على أنه تهديد لخطوط التجارة الرئيسية التي قامت بفتحها على أراضيها أمام دول آسيا الوسطى، وقد قامت ببناء ميناء في منطقة جاباهار وذلك في أول رد فعل لها على إقامة باكستان ميناء جوادر. وربما كانت مصالح الهند الجيواستراتيجية في المنطقة هي منع الصين من إيجاد نفوذ لها، ولكنها حرصت على تصفير مشكلاتها مع الصين، وقد تنازلت لها في السابق عن عدد من القضايا الخلافية، ولكن شراكتها في تشابهار ليست إلا رد الفعل السلمي على الوجود في جوادر.
وقد دخل على الخط قطر وإيران منذ عام 2015. فرغم أن الباكستانيين حاولوا خلال الفترة من عام 2006 وحتى 2010 الحصول على تمويل دول خليجية، حيث عرضوا الأمر على السعودية والإمارات وعمان وغيرها، إلا أن قطر وجدت في ذلك فرصة للمزيد من التحقق والاستثمار الخارجي. وصادف في النهاية الحرب الصامتة التي تخوضها ضد من يقاطعونها، منذ توقيع اتفاق الرياض عام 2014 وحتى المقاطعة لها في يونيو عام 2017.
كما تجد كل من قطر وإيران فرصًا كبيرة للتقارب منذ المقاطعة العربية مع الأولى في يونيو عام 201٧، حيث تحتفظان بعلاقات وطيدة واتفاقات خاصة مع عمان التي تلتزم الحياد أو الميل لهذا الجانب في كثير من القضايا الإقليمية. ويُعد تفعيل مينائها في صحار جزءًا من صراع المحاور الرمزي أو العملي، وجزءًا من الاستراتيجية الإيرانية والقطرية للضغط على الإمارات ومنافسة دبي مستقبلًا في صراع الموانئ والمصالح الجديدة والصاعدة، وهنا الخطر المحتمل أكثر من فكرة الموانئ نفسها.