مرت الذكرى المائة لجمال عبد الناصر، وها هى الذكرى المائة لأنور السادات تمر علينا دون أن تتجدد المكايدات وحروب الكلام بين أنصار هذا ودراويش ذاك، بما يمكن اعتباره علامة على النضج، أو دليلا على الملل من تكرار معارك الماضي. الذكرى المائة لميلاد أنور السادات تمنحنا فرصة جديدة للتدبر فى شئون الوطن. قدم السادات إسهاما كبيرا لمصر، لكن إسهامه لم يكن كافيا لإخراجنا من مأزق الفقر والتخلف. فما الذى قدمه السادات، ولماذا لم يكن كافيا لدفع عجلة التقدم مسافة كافية إلى الأمام؟
فرضت قضايا السياسة الخارجية نفسها على رئاسة السادات، فاستحوذت على تركيزه واستهلكت أغلب طاقته، لأن تحرير الأرض المحتلة لم يكن يحتمل التأجيل. استكمل السادات مهمة تحرير الأرض، وترك بصمة عميقة على اقتصاد مصر ونظام الحكم فيها، وإن لم تكن خطته فى هذين المجالين واضحة بقدر وضوح خطته لتحرير الأرض. نصب الإعلام الرئيس السادات بطلا للحرب والسلام، ولم يعتبره بطلا للديمقراطية أو التنمية الاقتصادية، ففى السياسة الخارجية والتخطيط الاستراتيجى وصلت مهارات السادات للذروة. تحرير أرض مصر المحتلة هو الأولوية التى سبقت أى أولوية لدى السادات.
السادات قومى مصرى يرتبط لديه الشعب والأرض والهوية فى حزمة واحدة لا تنفك، مثله فى ذلك مثل ملايين المصريين الذين لم يكفوا عن الضغط عليه للإسراع بالتحرير. شرعية حكم السادات وبقاء نظامه ارتبطا بقضية واحدة هى قضية التحرير، ولم يكن المصريون ليرضون بأقل من ذلك. لم يكن الوضع على مثل هذا القدر من الحدة لدى شركاء مصر العرب الذين خسروا أرضهم معها فى حرب 1967. خسر الأردن الضفة الغربية الفلسطينية، بينما خسرت سوريا العروبية أرضا عربية، يتحمل العرب كلهم المسئولية عنها، وليس لنظام الحكم فى دمشق أن يتحمل المسئولية واللوم وحده. لم تخرج المظاهرات فى عمان أو دمشق من أجل تحرير الأرض، وإن خرجت المظاهرات لأسباب أخري. لم ترتهن الشرعية والبقاء والاستقرار لقضية التحرير فى سوريا والأردن كما حدث فى مصر. بقاء الأنظمة الحاكمة هناك كل هذه السنين دون تحرير الأرض يشهد للفارق بين مصر وجيرانها، حتى لو كنا جميعا عربا. تحرير الأرض كان هو الهدف، أما الحرب والسلام فلم تكن بالنسبة للسادات أكثر من أدوات للوصول إلى الهدف.
لم يكبل السادات نفسه بفرضيات ونظريات انتشرت فى عصره حول الحرب والمفاوضات والسلام وإسرائيل والأمريكيين والسوفيت. حرر السادات نفسه من تابوهات زمانه، وجاء بأفكار طازجة من خارج صندوق الأفكار المعتمد وقتها. لم يتعامل مع الحرب والسلام على تناقضهما كشيئين متعارضين، فقد دمجهما فى حزمة استراتيجية واحدة. لم يكن ميزان القوة العسكرية بين مصر وإسرائيل يسمح بتحرير كامل التراب المحتل حربا، فطور السادات استراتيجية مركبة، استعاد بمقتضاها جزءا من الأرض حربا، بينما استعاد بقية الأرض مقابل السلام. لولا السادات لكان من الممكن لسيناء أن تبقى تحت الاحتلال لعشرات السنين مثلما بقيت مرتفعات الجولان السورية أو الضفة الغربية الفلسطينية.
كلما جال بخاطرى هذا الاحتمال شكرت السادات وقرأت له الفاتحة. فيما يخص النظام الدولى والحرب الباردة كان السادات يرى أبعد مما يراه أغلب الآخرين. تنبأ السادات بانهيار الشيوعية وخسارة الاتحاد السوفيتى للحرب الباردة، وإن لم يعش ليرى هذا اليوم. رسم السادات اختياراته الاستراتيجية على أساس هذه الرؤية، فحول دفة سياسة مصر الخارجية من الشرق إلى الغرب, وفتح الباب أمام القطاع الخاص فى الاقتصاد؛ وأعاد التعددية الحزبية إلى مصر بعد أن حكمها الحزب الواحد لأكثر من عقدين من الزمان.
بينت الأيام أن رؤية السادات كانت ثاقبة، لكنها بينت أيضا أن سياساته لم تكن ناجحة بقدر ما كانت رؤيته ثاقبة. فى غياب سياسات مدروسة تحول انفتاح السبعينيات إلى تسونامى اجتماعى أطاح بالطبقات والقيم. كره السادات المثقفين، واعتمد على تكنوقراط متواضعى الإمكانات، ولم يكن بينهم من يستطيع تحويل رؤية السادات إلى سياسات تحقق تنمية حقيقية. توصل قادة الحزب الشيوعى فى الصين لاستنتاج يشبه استنتاج الرئيس السادات بشأن الاقتصاد الاشتراكي، ففتحوا الباب للاستثمار الخاص بضوابط جعلت الصين أكثر تصنيعا، وأكثر ثراء، وأكثر قوة، فحولوها إلى قطب دولى يترقب العالم لحظة تحوله إلى القوة العظمى رقم واحد.
شيء من هذا لم يحدث عندنا، حيث ساعد الانفتاح على حل أزمات، لكنه خلق أزمات أخرى مازلنا نتعامل معها إلى اليوم. عقب حرب أكتوبر دعا السادات الحزب الوحيد، حزب الاتحاد الاشتراكى الحاكم، لمناقشة مستقبل العمل السياسي، فأسفرت النقاشات عن مواصلة رفض التعددية الحزبية. بادر السادات بخلق منابر سياسية، سرعان ما حولها إلى أحزاب سياسية ثلاثة عقب انتخابات 1976، التى كانت أنزه انتخابات شهدتها مصر لسنوات طويلة. اتسع هامش الحريات بعد حرب أكتوبر تدريجيا، وكان العام 1976 أكثر الأعوام انفتاحا منذ أزمة مارس 1954. كان الوضع السياسى يوحى باتجاه البلاد نحو تعددية سياسية عميقة، تتولى أجهزة الدولة توجيهها عن بعد.
وصف السادات نفسه بأنه آخر الفراعنة، وقال إنه يبنى نظاما سياسيا لمن يأتى بعده من الرؤساء العاديين. استمر الهامش السياسى فى التوسع حتى اشتعلت الاحتجاجات ضد تخفيض دعم الغذاء والوقود فى يناير 1977. نزل الجيش للشارع لاستعادة النظام، وتراجع السادات عن رفع الأسعار، وألغى هامش الحريات الذى كان قد سمح به، فتحولت التعددية الحزبية إلى مجرد صيغة معدلة من صيغة الحزب الواحد القديم. لقد قوضت الاحتجاجات الغاضبة فرصة أخرى للعبور التدريجى من الاستبداد إلى الديمقراطية. اللعب مع الإخوان، والاقتراب بنار الدين من بنزين السياسة هو أكبر أخطاء السادات.
فبعد أربعين عاما من وفاة السادات مازلنا نلاحق تهديداتالإرهاب الإخواني، ونسعى لتحقيق تنمية اقتصادية مستدامة وحقيقية، ونحلم بهامشديمقراطى يتسع يوما بعد يوم، لكننا نفعل كل ذلك وقد تحررت أرضنا وإرادتنا وكرامتنامن الاحتلال.
*نقلا عن صحيفة الأهرام، بتاريخ ٢٧ ديسمبر ٢٠١٨.