تمتلك الدول الإفريقية العديد من الثروات الطبيعية وإمكانيات النمو الاقتصادية التي تتيح للقارة الإفريقية فرصًا للنهوض والنمو الاقتصادي. وتهتم الدولة المصرية بتعزيز العلاقات الاقتصادية مع دول القارة الإفريقية عامة ومع السودان بصفة خاصة؛ إذ تشترك مصر والسودان في العديد من الدوائر، كالدائرة العربية والدائرة الإفريقية والدائرة الإسلامية. ويمثل السودان العمق الاستراتيجي لمصر في الجنوب، كما تمثل مصر العمق الاستراتيجي للسودان في الشمال. وفي هذا الصدد نجد أن مصر والسودان يمتلكان العديد من المقومات الاقتصادية التي تسمح لهما، في حالة تعزيز العلاقات الاقتصادية بينهما، بزيادة معدلات التجارة البينية، وزيادة الاستثمارات بالبلدين، وتوفير فرص عمل في كلا البلدين، ورفع معدلات النمو الاقتصادي المصري والسوداني، بما يسهم في تحقيق التنمية الاقتصادية للدولتين، وبما ينعكس على مستقبل العلاقات بين السودان ومصر.
وفي ضوء سعي الدولتين لتوطيد العلاقات الاقتصادية فيما بينهما، فقد شهدت الأيام القليلة الماضية قيام معرض الخرطوم الدولي رقم 38 بمشاركة 22 شركة مصرية، وقام وفد مصري برئاسة وزيرة التجارة والصناعة المصرية بزيادة السودان وبحث سبل تعزيز العلاقات الاقتصادية بين البلدين. وفي هذا الإطار يتناول المقال محاور العلاقات الاقتصادية بين مصر والسودان، ومستقبل تلك العلاقات.
أولًا- العلاقات التجارية بين مصر والسودان:
هناك العديد من الاتفاقات التجارية المبرمة بين مصر والسودان، من أبرزها اتفاقية “الكوميسا” التي يتم في إطارها المعاملات التجارية بين البلدين، وذلك بمنح السلع والمنتجات ذات منشأ “الكوميسا” إعفاء تامًا من الرسوم الجمركية والرسوم والضرائب الأخرى ذات الأثر المماثل. وكذلك اتفاقية منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى التي تضم في عضويتها 17 دولة عربية، من بينها مصر والسودان. وبجانب الاتفاقيات التجارية، هناك عدد من مشروعات النقل البري التي تسهل عملية التجارة البينية من أهمها ميناء قسطل – أشكيت البري، الذي يعد خطًا استراتيجيًا ليس لربط مصر والسودان فقط، بل يمتد ليشمل العديد من الدول الإفريقية، مثل: إثيوبيا، وتشاد، وجنوب السودان، وإفريقيا الوسطى، ويمثل بوابة مصر للقارة الإفريقية. وكذلك معبر أرقين البحري الذي يربط بين الإسكندرية ومدينة كيب تاون في جنوب إفريقيا، ليعزز حركة التجارة والاستثمار بين إفريقيا وأوروبا.
وبمتابعة إحصائيات التجارة الخارجية بين البلدين، نجد أن حجم التبادل التجاري بلغ 560.5 مليون دولار عام 2017، ثم بلغ 610.9 ملايين دولار عام 2018، ووصل إلى 674.5 مليون دولار عام 2019. وتشير تلك البيانات إلى تزايد معدلات التجارة البينية بين الدولتين؛ إلا أنه -من جهة أخرى- يلاحظ انخفاض التجارة البينية مقارنة بإجمالي حجم التجارة الخارجية في كل من مصر والسودان. ففي عام 2019، بلغت نسبة الصادرات المصرية إلى السودان 1.5% من إجمالي الصادرات المصرية، و5.7% من إجمالي واردات السودان. وبلغت الواردات المصرية من السودان 0.26% من إجمالي الواردات المصرية و5% من إجمالي صادرات السودان.
ويلاحظ تضاؤل حجم التجارة البينية على الرغم من امتلاك كلا البلدين العديد من المقومات الاقتصادية التي تسمح بتحقيق أضعاف حجم التجارة البينية، كما أن هيكل التجارة بينهما يسمح بوجود علاقة تكاملية وليست تنافسية، حيث تستورد مصر من السودان البذور والفواكه الزيتية، والحيوانات الحية، والقطن، واللحوم. بينما يستورد السودان من مصر اللدائن، والحديد والفولاذ، والأسمدة، والزجاج، والأدوية، والمنسوجات ومنتجات الورق والصناعات الغذائية، ومواد البناء. وتتباين الثروات الطبيعية بين البلدين بما يسمح بزيادة معدلات التجارة البينية وفقًا لنظرية الميزة النسبية؛ إذ تمتلك السودان مساحات قابلة للزراعة تقدر بنحو 84 مليون هكتار، مع توفر المياه من العديد من المصادر التي يمكن استغلالها في الزراعة للإنتاج المحلي والتصدير، بالإضافة إلى توافر مراعٍ بنحو 24 مليون هكتار، وتوافر ثروة حيوانية ضخمة، ونحو 64 مليون هكتار غابات يُمكن أن تُستغل في تجارة الأخشاب وصناعة الورق. ومن جهة أخرى، فقد حققت مصر طفرة كبيرة في مجال الاكتشافات البترولية والغاز الطبيعي ومحطات الكهرباء، التي يمكن تصديرها إلى السودان لتدعيم العلاقات التجارية من جهة، ودعم المشروعات الوليدة في مجال التنقيب عن البترول السوداني لدعم وتعزيز الاستثمارات من جهة أخرى. وعلى صعيد موازٍ، فإنه لزيادة معدلات التجارة البينية، هناك ضرورة لإعادة النظر في التعريفة الجمركية المرتفعة على بعض السلع المستثناة من تطبيق الإعفاء وفقًا لاتفاقية الكوميسا.
ثانيًا- تدفق الاستثمارات بين مصر والسودان:
بلغت الاستثمارات السودانية في مصر 400 ألف دولار عام 2016/2017، ثم انخفضت إلى 300 ألف دولار عام 2017/2018، وارتفعت لتصل إلى نحو 1.9 مليون دولار خلال العام المالي 2018/2019، وتتركز في القطاعات الصناعية والتمويلية والخدمية والزراعية والإنشائية والسياحة والاتصالات. وهناك العديد من المشروعات الكبرى المشتركة بين البلدين في العديد من المجالات؛ فهناك مشروع الاستثمار الزراعي بمساحة 100 ألف فدان في ولاية النيل الأزرق، وكذلك مشروع استراتيجي للحوم في ولاية النيل الأبيض بمساحة 40 ألف فدان سيتم تخصيصها لإنشاء مزارع متكاملة للثروة الحيوانية، وأيضًا مجمع “وادي النيل لتطوير صناعة الخبز” في الخرطوم. وهناك مشروع الربط الكهربائي بين مصر والسودان، والذي يساعد السودان في الاستفادة من التجربة المصرية في القضاء على أزمة الكهرباء وتوفير فائض للتصدير، وغيرها من المشروعات.
وبالنظر إلى تكامل الموارد الاقتصادية المصرية والسودانية، يمكن دفع الاستثمارات لرفع معدلات النمو الاقتصادي في كلا الدولتين. ففي المجال الزراعي والحيواني يتوافر لدى السودان العديد من المقومات من أراضٍ زراعية ومياه ومراعٍ وثروة حيوانية، في حين تتوفر في مصر الخبرة الكبيرة في هذا المجال، وفي حال التعاون وتبادل الخبرات يمكن سد احتياجات مصر من الحبوب والقمح والقطن واللحوم، ويرتفع الناتج الزراعي والحيواني بالسودان بما يضمن الأمن الغذائي للبلدين. ومن جهة أخرى، يمكن رفع القيمة المضافة للمنتجات الزراعية من خلال قيام مشروعات مشتركة للتصنيع الزراعي، خاصة في مجال المنسوجات، وصناعة السكر، والزيوت. ويمكن العمل على نقل التجربة المصرية في مجال التجمعات الصناعية. وفيما يتعلق بالتصنيع، يتسم السودان بتعدد الصناعات الحرفية الصغيرة، وتمتلك مصر خبرات كافية في مجال الصناعات الصغيرة، الأمر الذي دفع إلى توقيع مذكرة تفاهم في مجال الصناعات الصغيرة والمتوسطة خلال فعاليات معرض الخرطوم الدولي الأخير، بما يؤدي إلى النهوض بالعديد من الصناعات الصغيرة في السودان، مثل: المنسوجات، والملابس الجاهزة، والجلود، والتعبئة والتغليف. وكذلك في مجال التعدين يمكن استغلال الموارد التعدينية السودانية في مجال التصنيع. وفي مجال النقل، هناك العديد من المشروعات التي يمكن العمل عليها لربط الدولتين، وتسهيل حركة التجارة وانتقال العمالة، مثل: مشروع ربط السكك الحديدية بين البلدين، وإنشاء موانئ على البحر الأحمر. وفي مجال الطاقة يمكن نقل الخبرة المصرية في مجال الكهرباء والاكتشافات البترولية، وتعزيز التعاون في تطبيقات استخدام الطاقة النظيفة والمتجددة.
ثالثًا- انتقال العمالة بين مصر والسودان:
وقّعت مصر والسودان اتفاقية الحريات الأربع عام 2004، والتي تنص على حرية التنقل والإقامة والعمل والتملك. وعلى الرغم من تقديم مصر للعديد من التسهيلات في منح التأشيرات والإقامة؛ إلا أن التهديدات الأمنية الحدودية، وقضايا اللاجئين خلال السنوات الماضية، أدت إلى تباطؤ في تنفيذ الاتفاقية وعرقلة لحركة المستثمرين السودانيين. وبصفة عامة، فإن تيسير حركة التجارة بين مصر والسودان وتحقيق التكامل الاقتصادي من خلال الاستغلال الأمثل لموارد الدولتين، وتعزيز تدفق الاستثمارات البينية، له العديد من الانعكاسات الإيجابية على الدولتين، خاصة فيما يتعلق بتحديات سوق العمل وارتفاع معدلات البطالة. ووفقًا للبيانات الرسمية في السودان فقد بلغ معدل البطالة 32.1% من حجم القوى العاملة عام 2017، الأمر الذي يعني عدم الاستغلال الأمثل للموارد البشرية، وعدم إدماجها في عمليات الإنتاج، في حين أن ما يقرب من 42% من أعداد الشعب السوداني هم من الشباب، و85% من هؤلاء الشباب عاطلون عن العمل، وتبلغ الزيادة السنوية في أعداد السكان نحو 2.6%، بما يعني زيادة معدلات البطالة السنوية.
ومع تجاوز معدلات البطالة في السودان حاجز 30%، يعاد إلى الأذهان تسجيل مصر معدلَ بطالة بين الشباب في الفئة العمرية (20-24 سنة) بنسبة تتجاوز 34% عام 2015، إلا أنه بفضل المشروعات القومية الكبرى التي قامت بها الدولة ارتفع معدل التشغيل بصورة كبيرة، الأمر الذي يبشر بإمكانية تخفيض معدلات البطالة في السودان مع زيادة تدفق الاستثمارات وتبني فكر المشروعات القومية الكبرى التي من شأنها ليس فقط تخفيض معدل البطالة بل تحقيق التنمية الشاملة للبلاد.
رابعًا- قضية المياه:
على الرغم من توافق المصالح المصرية السودانية في العديد من المجالات، وبصفة خاصة فيما يتعلق بقضية مياه النيل؛ إلا أن قضية المياه ما زالت عالقة حتى الآن؛ إذ أخفق الاجتماع السداسي لوزراء الخارجية والمياه في مصر والسودان وإثيوبيا المنعقد في 10 يناير 2021 برئاسة وزيرة خارجية جنوب إفريقيا، بصفتها الرئيس الحالي للمجلس التنفيذي للاتحاد الإفريقي. ولم يحقق الاجتماع أي تقدم بسبب خلافات حول كيفية استئناف المفاوضات والجوانب الإجرائية ذات الصلة بإدارة العملية التفاوضية. وفي ظل أهمية ملف المياه لدولتين وللقارة الإفريقية بصفة عامة، فهناك ضرورة للعمل على تنسيق الموقف المصري والسوداني بشأن قضية سد النهضة.
وأخيرًا، يمكن القول إن تعدد وقوة الروابط المصرية السودانية، وسعي كلا الدولتين لتعميق العلاقات الاقتصادية فيما بينها؛ يعني أن ثمة مزيدًا من فرص التعاون المتاحة في العديد من المجالات. ويمكن تعزيز العلاقات البينية من خلال تذليل العقبات التي تواجه حركة التجارة، ودفع الاستثمارات المصرية في عدد من المجالات ذات الأهمية الاستراتيجية للسودان، وتسهيل حركة انتقال العمالة، وتنسيق الموقف المصري والسوداني في قضية المياه.