“الملتقى الوطني الليبي” هو آخر الأوراق التي طرحتها البعثة الأممية عبر مبعوثها الخاص الدكتور “غسان سلامة”، وصادق عليها مجلس الأمن الدولي، لحل النزاع السياسي والأمني في ليبيا. وبعد عام مضى شهد مبادرات محلية ودولية عديدة لم تُفلح في حل الأزمة الليبية؛ يترقب المجتمع الدولي والليبيون، مع بدايات 2019، ما سيتمخض عنه هذا الملتقى الوطني، وهو أحد بنود خارطة طريق أعلنتها الأمم المتحدة منذ أقل من عامين.
ففي 20 سبتمبر 2017، أعلنت البعثة الأممية للدعم لدى ليبيا خارطة طريق تضمنت ثلاثة بنود، هي: تعديل الاتفاق السياسي الذي تم توقيعه بمدينة الصخيرات المغربية في ديسمبر 2015، وعقد ملتقى وطني، وأخيرًا إجراء انتخابات نهاية عام 2018 التي عُدل موعدها، حيث أعلنت بعثة الأمم المتحدة أنها تأمل في أن تُجرَى الانتخابات في ربيع 2019.
وفي ظل فشل عملية تعديل الاتفاق، والفشل في تحديد موعد وآليات لإجراء انتخابات في منتصف العام الجاري؛ لم يعد أمام المجتمع الدولي، الذي لا يزال يراهن على هذه الخارطة، سوى السعي إلى إنجاح الملتقى الوطني الذي يتم التحضير له حاليًّا.
في هذا السياق، تُثار تساؤلات عديدة، منها ما يتعلق بماهية الملتقى، والمشاركين فيه، وموعده، ومدته، ومكانه، وفرص نجاحه، وعلاقته باتفاق الصخيرات 2015.
والسؤال الأبرز: هل سينتج عن الملتقى الوطني الليبي خارطة طريق فاعلة تضمن الوصول للانتخابات، أم سيصبح رقمًا جديدًا في المراحل الانتقالية المتتالية التي تمر بها الدولة الليبية منذ اندلاع الثورة الليبية في فبراير 2011. فقد فشلت كل المراحل الانتقالية للوصول إلى شكل الدولة المنشود، بدءًا من المجلس الانتقالي الليبي الذي سلم السلطة لأول كيان منتخب وهو “المؤتمر الوطني العام” عام 2012، والذي تم من خلاله انتخاب لجنة لصياغة الدستور عُرفت بـ”لجنة الستين”، وانتخاب أول برلمان في عام 2014، والذي كان من المفترض أن يكون بداية لبناء واكتمال مؤسسات الدولة الليبية.
ومع سيطرة جماعات إرهابية على مدن ليبية بالكامل، والبدء بإعلان عملية “الكرامة” العسكرية في منتصف عام 2014 بقيادة المشير “خليفة حفتر”، وتعيينه من قبل البرلمان قائدًا عامًّا للجيش الليبي؛ بات الاختلاف السياسي بين الفرقاء الليبيين واضحًا، ما دعا الأمم المتحدة عبر بعثتها للمضي في المشاورات والاجتماعات حتى وصلت لاتفاق “الوفاق السياسي” بمدينة الصخيرات المغربية في ديسمبر 2015، والذي تضمن طرح فترة انتقالية جديدة تقوم على تشكيل مجلس رئاسي (رئيس وثمانية أعضاء يمثلون الأقاليم الثلاثة: برقة شرقًا، وطرابلس غربًا، وفزان جنوبًا)، وانبثق عنه حكومة الوفاق برئاسة “فائز السراج” رئيس المجلس الرئاسي.
ومنذ توقيع الاتفاق السياسي بالصخيرات لم يستطع المجتمع الدولي الوصول إلى تفاهمات أو تقريب الفرقاء السياسيين في ليبيا، بل زاد هذا الاتفاق الخلاف، خاصة فيما يتعلق بتبعية قيادة الجيش، ما رسخ وضعًا سياسيًّا منقسمًا بوجود حكومتين: “حكومة الوفاق” المعترف بها دوليًّا والمنبثقة عن الاتفاق السياسي ومقرها العاصمة طرابلس، و”الحكومة المؤقتة” برئاسة “عبدالله الثني” المنبثقة عن الشرعية الدستورية لمجلس النواب الليبي ومقرها مدينة البيضاء بالشرق الليبي.
وعلى الرغم من توالي الاجتماعات والمؤتمرات الدولية لحلحلة الأزمة الليبية، بدءًا من اجتماع باريس-1 وباريس-2 برعاية الرئيس الفرنسي “ماكرون”، إلى مؤتمر باليرمو في إيطاليا في شهر ديسمبر 2018 للوصول إلى موعد لإجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية يتفق عليه الليبيون؛ بقيت الاختلافات على التفاصيل والآليات تؤكد عدم إمكانية اتفاق مجلسي النواب والدولة الاستشاري على صيغة توافقية، ما دفع المبعوث الأممي الدكتور “غسان سلامة” للانتقال من مرحلة التلويح بإنشاء “الملتقى الوطني الجامع” إلى مرحلة التنفيذ الفعلي. وقامت البعثة الأممية على مدار شهر ديسمبر بعقد عدد من اللقاءات والاجتماعات مع جميع الأطراف لبحث آليات واختيارات أعضاء هذا الملتقى، والذي أعلن “غسان سلامة” أنه سيشمل عناصر من جميع مكونات الشعب الليبي، السياسية والعسكرية، والقبائل والمناطق المختلفة، لكنه احتفظ بعدم الإعلان عن التفاصيل حتى الآن، ليخرج على الجميع بيان نهائي لحراك “المجلس الأعلى للمصالحة” الذي يعمل منذ عامين على إنشاء كيان جامع يسمى “المؤتمر الوطني الجامع” ليختلط الهدف والمسمى بينه وبين تصور “غسان سلامة” المسمى “الملتقى الوطني الجامع”، ولكنه سبق البعثة الأممية بإعلان النظام الأساسي لآليات ومهام أعضائه الذي من المزمع إنشاؤه، حيث جاء من 14 مادة.
التشكيل والهيكل
وفقًا لما هو معلن، يضم “الملتقى الوطني الجامع” 140 عضوًا، موزعين على ستة كيانات، هي: الكيانات المنتخبة، والكيانات الاجتماعية، والكيانات السياسية، والنخب الفاعلة، ولجان المصالحة، والأمنية والعسكرية. ويتوزع عدد الأعضاء بالتساوي بين المناطق الجغرافية الثلاث.
1- الكيانات المنتخبة: وتشمل مجلس النواب (12 عضوًا)، والهيئة التأسيسية لصياغة الدستور (6 أعضاء)، والمجلس الأعلى للدولة (6 أعضاء)، ومقاطعو المجلس الأعلى للدولة – كتلة الـ94 (6 أعضاء)، بينهم 9 سيدات (متوزعات بواقع 3 أعضاء لكل كيان من الكيانات الثلاثة الأولى).
على أن يتم انتخابهم من كياناتهم المنتسبين إليها خلال أسبوعين من إخطارهم بإجراء الانتخابات. وفي حالة عدم انتخاب أي كيان لأعضائه يقوم “حراك” المجلس الأعلى للمصالحة باختيار أعضاء هذا الكيان، ويكون اختياره نهائيًّا ولا يجوز الطعن فيه.
2- الكيانات الاجتماعية: ويمثلها 43 عضوًا، ويتم اختيارهم من بين مشايخ وأعيان المناطق بالتنسيق مع مجالس الحكماء والأعيان بالمنطقة حسب التعداد السكاني بمتوسط ممثل واحد لكل 250 ألف مواطن. وقسمت لائحة النظام الأساسي “للمؤتمر الوطني الجامع” كل مناطق ليبيا إلى 22 منطقة يمثلها 40 عضوًا، بجانب ثلاثة أعضاء للأقليات (التبو، الطوارق، الأمازيغ).
3- الكيانات السياسية الفاعلة: يمثلها 31 عضوًا، بينهم 22 عضوًا من الأحزاب التي حصلت على مقاعد في انتخابات المؤتمر الوطني في عام 2012، وعضوان من أنصار نظام القذافي، وعضوان من أنصار النظام الملكي، وعضوان من أنصار النظام الفيدرالي، وعضو لكل من اتحاد الطلاب واتحاد العمال واتحاد شباب ليبيا.
كما يمثل لجان المصالحة الليبية تسعة أعضاء، تتوزع بواقع ثلاثة أعضاء للمجلس الأعلى للمصالحة، وثلاثة أعضاء لمؤتمر القبائل الليبية، وثلاثة أعضاء لمجلس الأعيان والحكماء.
4- الكيانات الأمنية والعسكرية: ويمثلها 18 عضوًا، 9 أعضاء منها يتم اختيارهم من قبل القيادة العامة للجيش بقيادة المشير “خليفة حفتر”، وثلاثة أعضاء من قوات حكومة الوفاق، وثلاثة أعضاء من قوات لواء الجنوب، وثلاثة أعضاء من قوات البنيان المرصوص التابعة لمدينة مصراتة.
وعلى الجانب الآخر، ووفقًا للنظام الأساسي لمبادرة “المؤتمر الوطني الجامع”، تحددت اختصاصات عمل المؤتمر في أربعة بنود، هي: اختيار مجلس رئاسي مؤقت (جديد)، وتشكيل حكومة وحدة وطنية مؤقتة، واختيار قيادة عسكرية موحدة، وأخيرًا أن يكون المؤتمر الوطني الجامع هو السلطة التشريعية إلى حين إجراء الانتخابات البرلمانية.
وهكذا، يصبح الليبيون أمام طرحين، أحدهما برؤية أممية يتبناها المبعوث “غسان سلامة” وهو “الملتقى الوطني الجامع”، والطرح الآخر هو طرح ليبي يتمثل في “المؤتمر الوطني الجامع”. والطرحان يسيران باتجاه مرحلة انتقالية جديدة، وإنشاء كيان سياسي يُعد السادس بعد المجلس الانتقالي، والمؤتمر الوطني العام، والبرلمان، ومجلس الدولة الاستشاري، والمجلس الرئاسي.
ويأتي مقترح إنشاء كيان انتقالي جديد للالتفاف وكسب المزيد من الوقت لعدم إجراء انتخابات خلال مدد زمنية محددة بمثابة خلط صلاحيات للسلطات التنفيذية والتشريعية والعسكرية، ما سينتج عنه مزيد من اتساع الفجوة والخلافات بين مؤيد ومعارض لهذا الطرح أو ذاك، لتستمر الحالة الرخوة لمفاصل الدولة الليبية حتى إشعار جديد.