يُعد مؤشر البطالة أحد المؤشرات الهامة التي يتم رصدها لتتبع الوضع الاقتصادي والاجتماعي للدولة، فهي من جهة تؤثر على مستوى الناتج المحلي الإجمالي، ومن جهةٍ أخرى تؤثر على مستوى معيشة الأفراد بالدولة. وتتأثر معدلات التشغيل والبطالة بالتحولات الكبرى التي تشهدها الساحة العالمية، فتؤثر ثورة تكنولوجيا المعلومات على أنماط التشغيل ونوعية الوظائف المطلوبة، كما فرضت الأزمات العالمية العديد من التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي أثّرت بدورها على معدلات التشغيل والتوظف. ومن هذا المنطلق يُناقش المقال الآفاق المستقبلية لسوق العمل في مصر في ظل التحولات العالمية الكبرى.
تطور أوضاع سوق العمل المصري
مر سوق العمل المصري بعدد من المراحل اتسمت كل مرحلة بسمات مختلفة، ففي عقد الستينيات شهد سوق العمل وفرة في الأيدي العاملة، وتم التوسع في معدل التوظيف الحكومي، وتبنت الدولة سياسة الإحلال محل الواردات، وحدثت طفرة في معدلات التصنيع. واتسمت تلك الفترة بانخفاض معدل البطالة السافرة التي تراوحت بين 2-3%، ولكن سادت ظاهرة البطالة المقنعة في عدد كبير من القطاعات خاصة في قطاع الزراعة والقطاع الحكومي.
ومع تطبيق سياسة الانفتاح الاقتصادي في منتصف السبعينيات ارتفع معدل النمو الاقتصادي الذي وصل إلى 8% سنويّاً في المتوسط مدفوعاً بتدفق الموارد الخارجية من قناة السويس، وصادرات النفط، والسياحة، وتحويلات العاملين في الخارج، ولكن أصبحت مشكلة البطالة أكثر تعقيداً نظراً لتراجع المصادر التقليدية للطلب على العمالة في القطاع العام والحكومي، وكذا في قطاع الزراعة، ولم يعوض ذلك التشغيل في قطاعي التشييد والخدمات. وقد اتسمت تلك المرحلة بزيادة الطلب على العمالة المصرية من دول الخليج بما ساهم في الحد من ظاهرة البطالة، ولكن انعكس ذلك في شكل هجرة العاملة الماهرة بنحو 10-15% من قوة العمل بما أدى إلى ارتفاع الأجور، مع تقليص المعروض من العمالة الماهرة المدربة.
ومنذ منتصف الثمانينيات، وبصفة خاصة خلال فترة حرب الخليج، تراجع معدل خروج العمالة المصرية لدول الخليج، وكذلك تقلصت التدفقات من الموارد الخارجية، بما أدى إلى تراجع معدل النمو الاقتصادي إلى نحو 2.5-3% وارتفع معدل البطالة بما يقرب من 10%.
ثم شهد الاقتصاد المصري حالة من الانتعاش منذ منتصف التسعينيات وحتى عام 2010، حيث تم إعفاء الدولة من بعض الديون، وازدهرت السياحة، وارتفعت إيرادات قناة السويس، وكذلك تحويلات المصريين العاملين في الخارج، وقد انعكس ذلك على ارتفاع معدل النمو الاقتصادي فسجل 7.2% في عام 2008، ولكن لم ينعكس ذلك على معدل التشغيل والبطالة، بل على العكس ارتفعت معدلات البطالة بصورة ملحوظة إذ تراوحت بين 8-11% خلال تلك الفترة. وقد أدى ذلك إلى وصف تلك المرحلة بفترة النمو منخفضة التشغيل “Jobless Growth” وذلك أن النمو المرتفع لم ينعكس على أداء أسواق العمل بصورة مماثلة، وقد تم إرجاع ذلك إلى عدم المواءمة بين مخرجات التعليم والتدريب واحتياجات سوق العمل، وقد أدى ذلك إلى اتجاه الأفراد للقطاع غير الرسمي.
وقد تأثر الاقتصاد المصري خلال الفترة 2011- 2014 بالاضطرابات الداخلية فتراجع معدل النمو ووصل معدل النمو الحقيقي إلى 1.8%، وانعكس ذلك على معدل التشغيل ووصل معدل البطالة إلى 13% عام 2013. وقد اتسمت تلك الفترة بعزوف القطاع الخاص عن المشاركة في الحياة الاقتصادية نتيجة عدم وضوح الرؤية المستقبلية وتدهور البنية التحتية وعدم ملاءمة بيئة الأعمال.
تطور معدل البطالة في مصر
ومع تبني الدولة لبرنامج الإصلاح الاقتصادي خلال الفترة 2014- 2022 تولت الدولة القيام بإجراءات الإصلاح الاقتصادي وتنفيذ عدد من المشروعات القومية الكبرى بما في ذلك مشروعات البنية التحتية، وكذلك عملت على تهيئة بيئة الأعمال لتحفيز القطاع الخاص على العودة للمشاركة في الحياة الاقتصادية ثم الانسحاب التدريجي للدولة بعد القيام بدورها، ولا سيما في سد الفجوة الإنتاجية خلال فترات انخفاض مشاركة القطاع الخاص.
مراحل تطور الاستثمارات العامة والخاصة
الانعكاسات العالمية والمحلية على مستقبل سوق العمل المصري
يلاحظ أن النظام العالمي الحالي يتسم بمجموعة من العوامل والسمات والتي تؤثر بدورها على آفاق وأنماط التشغيل المستقبلية من بينها الثورة الصناعة الرابعة وثورة المعلومات والطفرة التكنولوجية الهائلة والتي أدت إلى إعادة ترتيب أولويات الدول وتحول لموازين القوة الاقتصادية عالميًا.
كما ساهمت تداعيات جائحة كورونا في إثارة العديد من التغيرات الاقتصادية الجذرية؛ إذ أدت إلى تزايد معدلات البطالة العالمية؛ حيث توقعت منظمة العمل الدولية ارتفاع البطالة لأكثر من 200 مليون شخص حول العالم عام 2022، كما توقعت تزايد مستويات فقر العمال إلى مستوى عام 2015، وهذا يعني العودة لمستويات توقيت وضع أهداف التنمية المستدامة، الأمر الذي سيزيد تعقيد الوفاء بتلك الأهداف. وقد أدت تلك الجائحة إلى زيادة البطالة بين الشباب بدرجة أكبر من الأكبر سنًا، فضلًا عن زيادة التوجه إلى القطاع غير الرسمي.
وقد أدت هذه التحولات مجتمعة إلى إعادة تشكيل ملامح سوق العمل وأثرت في أنماط التشغيل ومستويات الدخول المتوقعة، وإضافة مفاهيم العمل الحرة freelance وتطور نمط اقتصاد الأعمال الحرة Gig Economy، كما أثرت على فكر ريادة الأعمال والشركات الناشئة. وعلى الرغم من تعدد المزايا الناتجة عن تلك التحولات، إلا أنه ترتب عليها عدد من التحديات الاقتصادية والاجتماعية والتي من أبرزها التهديد باندثار بعض الوظائف، وارتفاع معدلات البطالة وزيادة التفاوت في مستوى الدخل والثروة. الأمر الذي يستلزم ضرورة اتخاذ السياسات اللازمة لتعظيم المنافع والحد من التأثيرات السلبية المحتملة على سوق العمل مستقبلا، وتحقيق التكيف والتوازن في سوق العمل.
وبجانب تأثير الظروف والأزمات الدولية على أوضاع سوق العمل المصري، فهناك عدد من الظروف الداخلية والتحديات الهيكلية المتراكمة التي تؤثر على معدلات التوظف والتشغيل. فمن جهة جانب عرض العمل، يلاحظ تراجع جودة العمالة المدربة على الرغم من التطوير المستمر بقطاع التعليم والتدريب إلا أنها لم تواكب التطور الأسرع في متطلبات سوق العمل، ولم تنعكس على زيادة جودة الإنتاج، كما يلاحظ انخفاض معدلات الرضا الوظيفي. ومن جهة الطلب فيتسم بالطموح في الترقي السريع وتأثر عدد كبير من الشباب بالوظائف المستحدثة في العصر الحديث والتي لا تعتمد على المهارات العملية وان كانت تدر عائد مرتفع وسريع وتندرج تحت قائمة الأعمال الحرة مثل إعداد المحتوى على المدونات الالكترونية، وتنظيم الحفلات والمناسبات، ومدربين إدارة الحياة، وغيرها من الوظائف حديثة الظهور والانتشار.
ووفقًا لأحدث بيانات بحث القوى العاملة الصادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عن عام 2021، فإن 40% من جملة العاملين بأجر يعملون بعقد قانوني منهم 73.3% من الاناث و34.6% من الذكور.
وقد اشارت إحدى الدراسات إلى أن سوق العمل المصري يتسم بقدرته على استيعاب العمالة وليس خلق فرص عمل جديدة؛ بما يعني عدم قدرة الشباب المؤهل إيجاد وظائف تناسب مؤهلاتهم، مما يدفعهم إلى قبول الوظائف المتاحة في سوق العمل والتي غالبا ما تتطلب مؤهلات أقل من مؤهلاتهم وبمعدلات أجور منخفضة مما يزيد من معدلات عدم الرضا الوظيفي.
وفي إطار سعي الدولة لتنفيذ خطط التنمية والتشغيل ورفع كفاءة سوق العمل داخليا، ومواجهة تداعيات الأزمات العالمية وانعكاساتها على الاقتصاد المصري، تبنت الدولة تنفيذ عدد كبير من المشروعات القومية الكبرى كثيفة العمالة لزيادة التشغيل من جهة وتشجيع القطاع الخاص من جهة أخرى ومعالجة الفجوات في عدد من أسواق السلع الاستراتيجية من جهة ثالثة، وجاء من بين أبرز تلك المشروعات مشروع الدلتا الجديدة، ومشروع توشكى، ومشروع تنمية شبة جزيرة سيناء، ومشروع غليون المتكامل للاستزراع السمكي، المشروع القومي للبتلو ومشروعات تطوير الثروة الداجنة، وغيرها من المشروعات. كما عملت الدولة على زيادة فرص العمل من خلال تقديم قروض ميسرة لدعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة لزيادة فرص تمكين الشباب والمرأة، كما ساهمت مبادرة حياة كريمة في توفير أكثر من 450 ألف فرصة عمل دائمة، بإجمالي استثمارات بلغت نحو 4.4 مليارات جنيه.
اخيرا فإن سوق العمل يتطلب أولًا متابعة وتنسيقًا دائمًا بين مخرجات العلمية التعليمية ومتطلبات سوق العمل سريعة التغيير، وثانيًا تطويرًا في فكر القطاع الخاص لخلق فرص عمل جديدة تناسب كافة المؤهلات المعروضة، وثالثًا تشديد الرقابة على القطاع الخاص فيما يتعلق بأوضاع العمالة.