تراجعت أولوية مكافحة الإرهاب لدى الإدارة الأمريكية الحالية. ويرجع ذلك إلى أسباب عديدة، منها: انخفاض عدد الهجمات الإرهابية التي استهدفت الولايات المتحدة والمصالح الأمريكية مقارنة بأوروبا، وتطور قناعة لدى العديد من المسئولين الأمريكيين بهزيمة تنظيم “داعش” وفقدانه معاقله. وفيما تحول تركيز الولايات المتحدة من مكافحة الإرهاب إلى المنافسة الاستراتيجية مع القوى الكبرى كالصين وروسيا وإيران وكوريا، استمرت أوروبا في مواجهة تهديدات إرهابية بالغة الخطورة، ولاسيما من قِبل المتطرِّفين الإسلاميين والجماعات اليمينية المتطرفة.
في هذا السياق، أصدر “مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية” CSIS (واشنطن)، في ديسمبر 2018، تقريرًا مهمًّا بعنوان: “تطور التهديد الإرهابي في أوروبا”
From the IRA to the Islamic State: The Evolving Terrorism Threat in Europe،
الذي تناول اتجاهات الإرهاب في أوروبا، والاستراتيجية البريطانية والفرنسية لمواجهة هذا التهديد، وانعكاس تنامي ظاهرة الإرهاب على سياسات الولايات المتحدة. ونستعرض هنا ما طرحه التقرير في ثلاثة محاور رئيسية. أوّلها: اتجاهات الإرهاب في أوروبا. وثانيها: السياسات الأوروبية لمكافحة ظاهرة الإرهاب في ضوء الخبرتين البريطانية والفرنسية. وثالثها: التوصيّات المقترحة التي قدمها التقرير لصانع القرار الأمريكي للتعاون مع أوروبا في مجال مكافحة ظاهرة الإرهاب.
أولًا- اتجاهات الإرهاب في أوروبا:
شهدت أوروبا خلال الحرب الباردة موجةً من العمليات الإرهابية، تصدرتها جماعات عرقية وقومية مثل “الجيش الأيرلندي”، ومنظمة “الباسك” الانفصالية (إيتا). غير أن حدة هذه الهجمات تراجعت مع نهاية الحرب الباردة، وانخفض عدد ضحاياها. وفي أعقاب أحداث 11 سبتمبر 2001، تعرضت أوروبا لهجومين كبيرين؛ الأول وقع في 11 مارس 2004 في مدريد، والذي خلف 191 قتيلًا و1755 جريحًا، وهو أكبر عدد من الضحايا نتيجة هجوم في القارة الأوروبية منذ الحرب العالمية الثانية. والثاني هو هجوم لندن في 7 يوليو 2005.
وقد مثّل تصاعد تنظيم “داعش” عام 2014 تحديًا كبيرًا لأوروبا؛ إذ أدخلها مرحلة جديدة من مواجهة الإرهاب، حيث ركزت استراتيجية “داعش” على توسيع سيطرته على الأراضي، وتصدير الهجمات لأوروبا. وفي السياق ذاته، سافر ما يقرب من 5000 شخص من دول الاتحاد الأوروبي، خاصة بلجيكا وألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة، إلى العراق وسوريا لدعم الجماعات المسلحة هناك، عاد منهم لأوروبا نحو 1500 شخص. وفي إطار تصاعد تنظيم “داعش”، شهدت أوروبا العديد من الهجمات الكبرى، إذ أصبحت فرنسا هدفًا رئيسيًّا لعمليات السلفية الجهادية بين عامي 2014 و2016، كما تضاعف عدد الهجمات السلفية الجهادية في عام 2017 مقارنة بعام 2016، كما اتسع النطاق الجغرافي للهجمات.
وبجانب تهديد الجماعات السلفية الجهادية، تواجه أوروبا تهديدًا من جانب الجماعات اليمينية المتطرفة؛ فقد ارتفعت هجمات هذه الجماعات من 9 هجمات في عام 2013، إلى 21 هجومًا في عام 2016، ثم إلى 30 هجومًا في عام 2017، وهو أكبر عدد هجمات منذ عام 1994. ومع أهمية هذين التهديدين (جماعات السلفية الجهادية، واليمين المتطرف)، يظل هناك اختلاف جوهري بين التهديدين، فبينما يركز المتطرفون الإسلاميون على استهداف المواطنين والشركات والجيش والشرطة ورموز الحضارة الغربية، يركز الإرهابيون اليمينيون على المواطنين العاديين ودور العبادة. وفي هذا الإطار، يشير التقرير إلى عددٍ من الاستنتاجات الهامة:
– تزايد نشاط تنظيمات السلفية الجهادية في أعقاب صعود تنظيم الدولة الإسلامية في عام 2014، حيث تضاعف عدد الهجمات الفاشلة والمحبطة والمكتملة في أوروبا لأكثر من الضعف من 2016 إلى 2017.
– من المرجّح أن انخفاض عدد العمليات الإرهابية في أوروبا في عام 2018 يرجع إلى فقدان تنظيم الدولة الإسلامية معاقله في سوريا والعراق، وكذلك نجاعة عمليات الاستهداف الغربية لتنظيم الدولة الإسلامية وتنظيم “القاعدة”.
– هناك ارتفاع في حجم عمليات جماعات اليمين المتطرف، إذ ارتفع عدد عمليات هذا التيار في عام 2017 بنسبة 43% مقارنة بعام 2016، وكانت المملكة المتحدة وألمانيا والجمهورية التشيكية وبلجيكا والبرتغال هي أهم مسارح عمليات هذه الجماعات.
– هناك تحول في طبيعية الهجمات، إذ تحولت الهجمات من هجمات معقدة كهجمات مدريد 2004، ولندن 2005؛ إلى هجمات بسيطة استخدمت المركبات والسكاكين.
كيف تواجه أوروبا الإرهاب؟
أكد التقرير على جهود الحكومات الأوروبية في الرقابة على المحتوى المتطرف بالإنترنت، حيث نجحت الجهود الأوروبية في خفض وتحجيم الدعاية الجهادية على الإنترنت. كما اتّبعت أوروبا سياسة أكثر تشددًا لمكافحة الإرهاب، حيث أصدرت فرنسا قانونًا في عام 2017 استهدف إغلاق المساجد المتطرفة، وأغلقت النمسا سبعة مساجد، ورحّلت 60 إمامًا في عام 2018. كما رحّلت إيطاليا 313 متطرفًا بين عامي 2015 و2018. كما جردت بريطانيا أكثر من 100 متشدد إسلامي من جنسياتهم في عام 2017.
1- جهود مكافحة الإرهاب في المملكة المتحدة:
تقوم استراتيجية المملكة المتحدة لمكافحة الإرهاب منذ عام 2003 على عدد من المحاور. أولها: الحيلولة دون انضمام عناصر جديدة إلى التنظيمات الإرهابية. وثانيها: السعي لمنع وقوع هجمات إرهابية. وثالثها: تعزيز أمن وحماية المملكة المتحدة ضد أي هجوم إرهابي. ورابعها: التخفيف من حدة الهجوم الإرهابي حال حدوثه. ومن أجل تطبيق هذه الاستراتيجية اتبعت الحكومة البريطانية عددًا من الأدوات، تمثلت فيما يلي:
– توسيع السلطات القانونية: إذ أعطت قوانين مكافحة الإرهاب سلطات واسعة للحكومة البريطانية في هذا المجال، فأصبح من حقها سلطة اعتراض اتصالات المواطنين والوصول إليها، وحظر السفر إلى سوريا والعراق وساحات الصراع الأخرى، ومنع من تورطوا في أنشطة مرتبطة بالإرهاب من العودة إلى بريطانيا.
– التنسيق بين الهيئات الاستخباراتية والشرطية: فقد دشّنت المملكة المتحدة نموذجًا فعالًا لجمع المعلومات الاستخباراتية بهدف رصد الإرهابيين، واعتراض مخططاتهم، واعتقالهم قبل تنفيذ هجمات. ويأتي هذا النموذج كنتيجة للتعاون بين عدة جهات كالمخابرات الحربية، والشرطة المحلية، ومكتب مكافحة الإرهاب، بالإضافة إلى تنسيق العمل مع وزارة الداخلية، ومكتب الاتصالات الحكومية.
– مكافحة التطرف عبر الإنترنت: حيث قامت الحكومة البريطانية بتنفيذ هجمات سيبرانية ضد المحتوى الإلكتروني للتنظيمات الإرهابية، ونجحت في حذف أكثر من 300 ألف منشور متطرف على الإنترنت خلال الفترة ما بين فبراير 2010 حتى يونيو 2018. كما عملت على تدشين برامج لمكافحة المحتوى الإلكتروني الإرهابي، ودعمت منظمات المجتمع المدني المتبنية لمبادرات مثيلة.
– تطوير أنشطة وبرامج نزع التطرف: إذ سعت الحكومة إلى تطوير برامج للقضاء على التطرف من خلال تقديم الدعم والتوجيه النفسي، ومعالجة دوافع التطرف والمظالم الشخصية.
– الانتباه إلى تنامي خطورة اليمين المتطرف: فقد أدركت الحكومة البريطانية خطورة هذا النمط من الإرهاب الآخذ في التنامي. وقد نجحت الاستخبارات البريطانية وأجهزة الأمن في إحباط مخططات عنف من جانب هذا التيار خلال النصف الأول من عام 2018.
2- جهود مكافحة الإرهاب في فرنسا:
تناول التقرير أبعاد ظاهرة التطرف والإرهاب في فرنسا. ورصد التقرير مجموعة الإجراءات والأنشطة التي اتخذتها الحكومة الفرنسية لمكافحة الإرهاب. وقد شملت هذه الإجراءات ما يلي:
– بناء مؤسسات فاعلة لمكافحة الإرهاب: من خلال إعادة هيكلة المؤسسات المعنية، وتشكيل هيئات جديدة تعمل على التنسيق بين الوكالات الأمنية على المستويين الاستراتيجي والتشغيلي للحد من أي صراع أو عدم تنسيق محتمل بين المؤسسات ذات الصلة، وتحسين الاستجابة الحكومية.
– برامج رصد ومتابعة الأنشطة المتطرفة: وذلك من خلال تدشين خطٍّ للطوارئ يسمح للمواطنين بالإبلاغ عن تهديدات وأنشطة المتطرفين في محيطهم، بهدف رصد وبناء مخطط لشبكات العلاقات والاتصالات، ما ساعد في تحديد الجناة في عدة قضايا وفقًا للتقرير، وأصبحت قاعدة بيانات البرنامج تتضمن بيانات 20000 شخص لديهم ميول للتطرف.
– هيكلة وحدات الاستجابة السريعة: ما ساعد في تحسين وقت رد فعل وكفاءة هذه الوحدات لمواجهة هجمات متعددة. كما اعتمدت فرنسا عددًا من الإصلاحات في أعمال تأمين وحماية المواقع والأحداث الجماهيرية.
– الإصلاحات التشريعية والملاحقات القضائية: إذ أقر البرلمان الفرنسي سبعة قوانين رئيسية ضد الإرهاب، علاوة على منح حالة الطوارئ الإدارة صلاحيات موسعة، مثل: تفتيش المنازل دون أمر قضائي، وأوامر الإقامة الإجبارية، وإغلاق المساجد ذات التوجهات المتطرفة. وكانت تلك السياسات ذات جدوى، حيث أعلنت الشرطة إحباط 32 هجمة بفضل تلك الإجراءات، وفقًا للتقرير. كما اعتمدت الملاحقة القضائية كعنصر رئيسٍ في استراتيجية مكافحة الإرهاب، والتوسع في إجراءاتها إلى أبعد من المقاتلين والعائدين، حيث تضمنت مؤيدي “داعش” الخاضعين للقضاء الفرنسي وشبكاتهم.
– التعاون الأوروبي والدولي لمكافحة الإرهاب: حيث عزز ذلك اعتماد الاتحاد الأوروبي استراتيجية بشأن الإرهاب في أوائل عام 2005، وإدخاله تغييرات تشريعية على قضايا جمع ومشاركة البيانات، وغسل الأموال، ومراقبة الحدود. كما ارتفع حجم التعاون عبر “اليوروبوليس” (الشرطة الأوروبية) واليوروجستس (المحكمة الأوروبية).
– برامج لفك الارتباط بين التطرف والإرهاب: فبينما تشرف وزارة الداخلية على مركز نزع التطرف في بونتورني، أطلقت وزارة العدل برنامج “البحث والتدخل بشأن العنف المتطرف”. وقد أفضى البرنامجان إلى مشاريع جديدة في باريس وليون ومرسيليا، سعيًا للحد من العوامل التي تدفع الأفراد إلى تبني اتجاهات متطرفة، والضلوع في أعمال عنف.
– الوقاية الشعبية: وتُعرف ببناء القدرة على التكيف، وتتضمن مزيجًا من المبادرات الحكومية والمدنية المتداخلة. وتهدف إلى تقويض دعاية “تنظيم الدولة الإسلامية” عبر الإنترنت. وتشمل هذه الإجراءات: إتاحة الإبلاغ عن أي محتوى إلكتروني لمنصة متخصصة PHAROS تديرها وحدة الجرائم الإلكترونية في وزارة الداخلية، واتخاذ البرلمان الفرنسي إجراءات صارمة ضد مستخدمي المواقع الإلكترونية المتطرفة، بالإضافة إلى ضغط السلطات الفرنسية على شركات وسائل التواصل الاجتماعي لإزالة المحتوى المتطرف من منصاتها.
ثالثًا- الولايات المتحدة ومكافحة الإرهاب في ضوء التجربة الأوروبية:
طرح التقرير عدة أبعاد لقضية تنامي ظاهرة الإرهاب في أوروبا، وانعكاساتها على برامج وسياسات الولايات المتحدة، مؤكدًا ضرورة التنسيق الأمريكي – الأوروبي، واستعادة الشراكات الكبرى في مواجهة الإرهاب. وطرح التقرير في هذا الإطار الملاحظات التالية:
– استمرار تهديدات الجهاديين: نتيجة لارتفاع حدة وحجم وآثار العمليات الإرهابية في أوروبا، وضلوع مواطنين أوروبيين في تنفيذها، ما يفرض ضرورة التعاون والتنسيق بين الأجهزة الأمنية والاستخباراتية الأوروبية ونظيراتها الأمريكية لضمان كفاءة وفعالية التصدي للأنشطة المتطرفة.
– تنامي خطر اليمين المتطرف: تزامنًا مع تصدر قضايا، مثل: الهجرة غير الشرعية، والجماعات العنصرية، وضلوعها في عمليات عنف ضد المهاجرين وعناصر حكومية وعرقيات أخرى.
– تفاقُم قضية اللاجئين: فرغم محدودية تهديد اللاجئين في أوروبا، إلا أن التعاون الاستخباراتي وتبادل المعلومات بين الولايات المتحدة وأوروبا وإنفاذ القانون يظل أمرًا أساسيًّا، ولا سيما مع تزايد حركة اللاجئين والمهاجرين وطالبي اللجوء القادمين من الدول المأزومة التي تمثل ساحات لعمل التنظيمات الجهادية، مثل ليبيا وسوريا واليمن والعراق وأفغانستان.
– استخدام الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي للترويج للفكر المتطرف: ومن المرجح أن تظل هذه الأداة من بين الأدوات الرئيسية لعمليات التنظيمات الإرهابية والمتطرفين اليمينيين، لذا يجب على الولايات المتحدة التنسيق مع الشركات لتخفض بشكل فعال المحتوى الذي يدعم الإرهاب.
– مراجعة برامج فك الارتباط ومؤسسات الاحتجاز: فكما جاء بالتقرير، يجب على صانعي السياسة في الولايات المتحدة بحث البرامج الأوروبية لفك الارتباط وإعادة دمج المتورطين بقضايا عنف. ومع ذلك، يمكن تطبيق تدابير غير قمعية تهدف إلى تعزيز المرونة المجتمعية في المناطق التي تدين فيها المجتمعات المحلية الأيديولوجيا السلفية الجهادية.
– ضرورة تقاسم الأعباء: فبينما يتقلص وضع قوة الجيش الأمريكي للقيام بمكافحة الإرهاب، بما في ذلك في مناطق مثل الشرق الأوسط وإفريقيا، ستحتاج واشنطن إلى العمل بشكل متزايد مع الحلفاء للقيام بعمليات مكافحة الإرهاب، وجمع المعلومات، وبناء قدرات الشركاء المحليين.
***
وفي ضوء العرض السابق، يلاحظ أولًا وجود درجة من التشابه بين استراتيجية كلٍّ من المملكة المتحدة وفرنسا لمكافحة الإرهاب، من حيث الإجراءات القانونية والإصلاحات التشريعية، وأهمية مكافحة المحتوى المتطرف على الإنترنت، وتطوير أنشطة وبرامج لنزع التطرف وفك الارتباط. وأخيرًا، سعي الدولتين إلى بناء مؤسسات فاعلة وأخرى للتنسيق بين الهيئات ذات الصلة بمكافحة الإرهاب.
لكن التقرير أغفل الإشارة إلى تناول بعض الظواهر المهمة التي قد تمثل امتدادًا لتيارات اليمين في أوروبا، مثل ظاهرة الاحتجاجات الشعبية (السترات الصفراء في فرنسا)، ومدى ارتباطها بصعود اليمين المتطرف. كذلك تجاهل التقرير الإشارة إلى بعض التجارب الأوروبية الأخرى في مجال مكافحة الإرهاب، ولا سيما التجربتين الألمانية والدنماركية.
للاطلاع على نص التقرير، راجع:
Seth G. Jones, Boris Toucas, and Maxwell B. Markusen, “From the IRA to the Islamic State: The Evolving Terrorism Threat in Europe”, Center for Strategic and International Studies (CSIS), Washington D.C, December 2018. Available at:
https://csis-prod.s3.amazonaws.com/s3fs-public/publication/190103_EuropeanTerrorism_interior.pdf