من المترتقب أن تبدأ لجنة الصليب الأحمر الدولية غداً الجمعة 14 فبراير ٢٠٢٣ تنفيذ برنامج تبادل الأسري بين أطراف الحرب في اليمن، ويبلغ عددهم 887 أسيراً (706 حوثي مقابل 181 من الحكومة والتحالف)، وتستمر عملية التبادل لثلاثة أيام، كما تجري بين 6 مطارات في اليمن والسعودية، ففي اليوم الأول ستتم عملية نقل وتسليم الأسري ما بين صنعاء وعدن والعكس، أما في اليوم الثاني ستكون الرحلات التبادلية بين صنعاء والرياض وأبها، ومن المخا إلى تعز ، وفي اليوم الثالث ستسير ثلاث رحلات تبادلية ما بين بين مأرب وصنعاء.

ويكشف جدول هذه الرحلات عن حجم التعقيدات في ادارة ملف الأسري من الناحية الفنية حيث استغرقت المدوالات في هذا الملف نحو عام تقريباً، فقد انطلقت فعلياً على التوازي مع اتفاق الهدنة في مطلع ابريل العام الماضي 2022، وكان المتصور أنذاك أن هناك امكانية لانجازها سريعاً نظراً لأن الكشوف المتبادلة بين لجان تبادل الأسري كانت محل شبه اتفاق تقريباً، بالنظر إلى إعدادها سلفاً خلال عملية تبادل الأسري الأولي والأكبر من نوعها حتي الأن والتي أجريت في منتصف أكتوبر 2020، وشملت اطلاق 1081 أسيراً بين مختلف الأطراف.
لكن ينظر إلي هذه الجولة الثانية من عملية تبادل الأسري على أنها تجري في سياقات مختلفة سواء بالنسبة لملف تبادل الاسري أو مشهد الأزمة اليمنية بشكل عام، فعلى صعيد ملف الأسري ربما تكون العملية هذه المرة أقل من سابقتها من الناحية الكمية- ٨٨٧ مقابل ١٠٨١ – إلا أنها أكثر نوعية بمعيار وزن العديد من الأشخاص الذين سيفرج عنهم ومن أبرزهم وزير الدفاع اليمني الأسبق محمود الصبيحي، وشقيق الرئيس السابق اللواء منصور هادي، إضافة إلي نجل اللواء طارق صالح قائد قوات الساحل وشقيقه.
كذلك ينظر إليها في سياق أجواء المصالحه التي تشهدها السعودية وايران، والتي انعكست بالتبعية علي التقارب السعودي – الحوثي، وهو ما ترجم في الزيارة التي قام بها السفير السعودي لدي اليمن محمد آل جابر إلى صنعاء حيث التقي قيادات الحركة الحوثية للمرة الأولي، وأكد بيان سعودي أن الزيارة كانت تهدف إلى دفع عدة ملفات من بينها ملف تبادل الأسري، وعلى التوازي قالت الحكومة اليمنية الشرعية إنها ستواصل العمل مع الأمم المتحدة وباقي الأطراف من أجل “تصفير ” هذا الملف.

في واقع الأمر، تمثل عملية تبادل الأسري قيمة مضافة لأجواء المصالحة الحالية بغض النظر عن ارتباطها بتلك الأجواء أو أنها سابقة لها، لكن من الآهمية بمكان مناقشة طبيعة هذا الملف من زواية مدي إمكانية القياس عليه في ملفات التفاوض الأخرى في الأزمة من عدمه، عندما تنطلق عملية التسوية في الازمة اليمنية وذلك في النقاط التالية:
عملية تبادل تكتكية
لم تفعل القاعدة الأساسية (الكل مقابل الكل) في عملية تبادل الاسري، على الرغم من أنه هناك توافق جري في هذا السياق في مباحثات عمان، وكادت المفاوضات تفشل على أساس إصرار الحوثين على مخالفة هذه القاعدة، والمضي على أساس القاعده السابقة بالتعامل مع الملف بنظام التجزئة، حيث يتجاوز عدد الأسري والمتحتجزين والمفقودين بين الأطراف ١٥ ألف شخص، بل كان من المفترض أن تشمل العملية هذه المرة (٢٢٠٠) أسيراً، ومع ذلك هبط العدد إلي ٨٨٧ فقط، ويشير هذا السياق إلي مؤشر مهم في السياق ذاته، وهو قدرة المفاوض الحوثي على فرض موقفه على اخرين، وهو ما يظهر من رضوخ “الشرعية” للموقف الحوثي في نهاية المطاف، وتراجعها – الشرعية- من الإصرار على قاعدة (الكل مقابل الكل) إلى التعاون والسعي من أجل “تصفير ” هذا الملف في المستقبل.
ذهنية الصفقات
الصفقات هي أحد سمات وثوابت السلوك الحوثي في ضوء الخبرات والتجارب التي يعكسها مسار الحركة منذ ظهورها في المشهد اليمني في تسعنيات القرن الماضي، وتكرس خلال فترة الحروب السته (٢٠٠٤-٢٠١٠) وإلي الأن، حيث تكسب الحركة أهدافها بتسجيل النقاط بالصفقات الواحدة تلو الأخرى ولكل منها استحقاتها الخاصة، بل وتتبع الحركة تكتيك فصل الصفقات أيضاً، فلم يحدث أن أتمت صفقتين في آن واحد، فلم تنفذ صفقة تبادل الاسري على سبيل المثال مع صفة الهدنة المرتقبة، بل يمكن بقدر من الدهاء أن تنجز صفقة وتحبط الأخرى، ويعتقد أن هذه الذهنية هي أمر طبيعي في سياق نقل ايران خبراتها في هذا السياق لوكلائها الاقليمين، بل وانخراط طهران عن بعد في عملية التفاوض. يؤكد على ذلك في ضوء الصفقة الحالية الطبيعة الإجرائية لعملية التبادل الحالية، والتي تنطوي على صفقة لها استحقاقاتها الخاصة، دلالة ذلك من حيث العدد ومن شملهم برنامج التبادل، وصولاً إلي الأماكن التي سيرحلون إليها المحررون لاسيما من المحسوبين على “الشرعية” تحديداً، فالبعض سيصل إلي مأرب وآخرين إلي عدن ومجموعة ثالثة تعز ، بينما لن يعود منهم أحد إلي صنعاء، كذلك نسب عملية التبادل والتي تقدر في الصفقة الحالية ( ١- ٤ تقريباً) لصالح الحوثي، مقابل (٣-٤ تقريبا) في الصفقة السابقة التي أجريت العام ٢٠٢٠ ( ١٠٨١ موزعين ما بين 400 للحكومة والتحالف مقابل 681 حوثي).
محددات كاشفة للسيناريو التالي
علي الرغم من المكاسب الاستراتيجيه التي حققها الحركة الحوثية بزيارة الوفد السعودي إلي صنعاء ولقاء قيادات الحوثية في القصر الجمهوري، وما يشكله ذلك من اعتراف بشرعية الحركة، إلا أن الحركة سرعان ما قلبت المشهد في ضوء تصريحات السفير السعودي حول أهداف الزيارة، من بينها دفع ملف الاسري، وبغض النظر عن أن الملف كان فعلياً قد دخل حيز التنفيذ، خاصة مع تبادل بعض الشخصيات فعلاً خاصة قادة حكومة الشرعية السابقة أو النظام السابق، لكن اللافت هو تأكيد الحوثيين من خلال تصريحات لقيادات الحركة بالإضافة إلي منصاتها الإعلامية في نفس الوقت على أن السعودية ليست في موقع “الوسيط” بين أطراف الأزمة بل هي طرف في الأزمة، ووظفت صفقات تبادل الاسري دعائياً ضمن حملة منظمة للتأكيد على هذا الموقف، تركز فيها علي أنه سيتم الافراج عن ١٥ أسيراً سعودياً، بينما وصفت الدور العماني بـ”الوسيط”، والأممي بالراعي للتفاوض. ومن المتصور أن هذه المحددات الكاشفة بالنسبة للحوثين سيكون لها انعكاسها في رسم السيناريو التالي اذا ما انطلقت عملية التسوية بالفعل، خاصة وأن التركيز على هذه النقطة توازي مع تسريبات في وسائل اعلام سعودية بأن الرياض سترعي عملية تفاوض لرسم خريطة انتقال سياسية في اليمن لثلاث سنوات، وبالتالي يعكس رد فعل الحركة أنها سعت إلي قطع الطريق علي هذا البعد بالنظر لاستحقاقاته وآلياته التي لا يتوقع أن تسير وفق تلك التسريبات. وفي سياق المحددات أيضاً من الآهمية بمكان النظر كذلك إلى أن هندسة الصفقة تنطوي أيضاً على البعد الفصائيلي، حيث تعاطي الحوثين مع الشرعية كفصائل وأوزان مختلفة، وليس ككيان واحد، وهي نقطقة كاشفة عن حسابات الحوثي في المستقبلية في مسار التسوية، في مقابل ذلك خرجت قيادات مجلس القيادة الرئاسي (اللواء عيدورس الزبيدي واللواء طارق صالح للتأكيد على أن “الشرعية علي قلب رجل واحد”).
في الأخير، يمكن القول أنه لا يعتقد أن هناك متغيراً طارئاً في السلوك الحوثي في ظل أجواء المصالحة الراهنه، بل على العكس من ذلك ستسعي الحركة إلي التأكيد علي سلوكها البرجماتي من محطة إلي أخري، أو بالاحري من صفقة لأخري، كما لا يعتقد أنها ستنخرط في عملية تسوية واسعه بل على العكس من ذلك ستظل تفضل سياسة التدرج أو التقطير، وأحيانا احباط القيمة الاستراتيجيه للصفقة، على سبيل المثال كانت قيمة صفقة تبادل أسري يفرج فيها عن قيادات الشرعية السابقة أفضل لو تمت في عهدها، كأن يفرج عن اللواء منصور هادي في عهد شقيقه الرئيس هادي وهو ما كان محل اتفاق في الصفقة السابقة بالفعل.
وفي المقابل لا يعتقد أن الشرعية هي الأخرى سيتغير موقفها، وهو ما يظهر من مباريات التصعيد الكلامي بين قيادات الشرعية والحوثين على منصات التواصل الاجتماعي، والتي يبدو منها أن الشرعية ترضخ في الأخير للموقف الحوثي بفعل الضغوط من أكثر من طرف، حتي وإن كان عكس رغبتها وادراتها، كما أنها لا تجيد لعبة الصفقات وانتزاع مكاسب لصالحها من على الطاولة، واذا استمرت الأمور على هذا المنوال من الموكد أنها ستكون الطرف الضعيف على طاولة التفاوض التالية. وكل هذه الاستخلاصات وغيرها يتعين أخذها الاعتبار في المشهد القادم.