يجادل الكثيرون ممن يهتمون بتطورات الأوضاع في الشرق الأوسط، بأن “صفقة القرن” محكوم عليها بالفشل، فكل الأطراف (الفلسطينيون، والإسرائيليون، والدول العربية) لا تريدها. الطرف الفلسطيني أعلن مبكرًا رفضه لها دون أن يكشف رئيس السلطة الفلسطينية عما تم عرضه عليه أثناء لقاءاته مع الأطراف المعنية. أما في إسرائيل، فبشكل غير رسمي قدّمت صحيفة “إسرائيل هيوم” الصادرة في الثامن من مايو 2019 ما أسمته “بعض التفاصيل أو هيكل الصفقة”، ولم يصدر تعليق رسمي على ادعاءات الصحيفة، غير أن العديد من مقالات الرأي رأت أنه إذا كان ما ورد في هذه التسريبات صحيحًا؛ فإن الصفقة لن تمر ولن يقبلها الفلسطينيون، لأنها أتت خارج إطار حل الدولتين. كما نوهت الصحيفة إلى أن الولايات المتحدة يمكن أن تعاقب تل أبيب حال رفضها الصفقة!.
على جانب آخر، تبدو الدول العربية متحفظة في التعليق رسميًّا على تلك التسريبات، رغم أن بعض قادتها ربما علموا ببعض تفاصيل الصفقة.
وإذا كان من المنطقي أن يرفض الفلسطينيون، ويتحفظ العرب على الصفقة، التي لا تلبي الحد الأدنى من تطلعات الفلسطينيين وهي “الدولة”، حتى ولو بتعديلات بسيطة على حدود الرابع من يونيو ١٩٦٧؛ فلماذا تتوقع الصحيفة الإسرائيلية إمكانية رفض إسرائيل لصفقة تلبي كل مطالبها الأمنية، ولا تمنح الفلسطينيين دولة، بما يعرضها (أي إسرائيل) لعقوبات أمريكية؟ ولماذا كتب “روبرت ساتلوف” (مدير معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، والمعروف بتطرفه في الدفاع عن السياسات الإسرائيلية) مطالبًا “نتنياهو” بإفساد الصفقة لأنها لن تكون في صالح إسرائيل؟.
دعوة بإفساد الصفقة
أشار “ساتلوف” في مقال له بعنوان: “خطة جاريد كوشنر للسلام قد تكون كارثية” إلى أنه استشف من حديثه مع الوسيط الأمريكي، في الثاني من مايو، أن الخطّة الأمريكية ستصب تركيزها على جعل المنطقة الفلسطينية مصدر جذب للاستثمار كوسيلة لتحسين حياة الفلسطينيين. ولكن التسلسل هنا أمر بالغ الأهمية كما قال “ساتلوف”: “فقد أشار كوشنر أثناء حديثه معه إلى أنّ تحقيق هذا الهدف سيتطلب ترسيمًا للحدود، على أن يكون متبوعًا بإصلاحات سياسية جوهرية داخل السلطة الفلسطينية، وجهود شاملة لمكافحة الفساد، وإرساء سيادة القانون بشكل فعال، والتي تشمل حقوق المِلكية”.
“ساتلوف” معروف بانتمائه للصهيونية التصحيحية التي تؤمن بأن السلام مع الفلسطينيين لن يحدث قبل إقرار الفلسطينيين بالهزيمة النهائية، وإدراكهم استحالة تحقيق الانتصار على إسرائيل عبر الحرب والمقاومة، وبالتالي فهو ضد حل الدولتين، خاصة في ظل وجود “حماس” وحركات فلسطينية أخرى في غزة والضفة ترفع راية المقاومة، وغير مستعدة لتقديم مثل هذا الاعتراف.
ولكن يبدو أن “ساتلوف” قد فهم من حديث “كوشنر” أن الخطة الأمريكية ستحتوي على اعتراف بحدود “الوطن الفلسطيني” المنتظر أن يتحول إلى دولة لاحقًا وبنفس الحدود. هذا هو ما يجعل “ساتلوف” غير مطمئن إلى “صفقة القرن”، بل ويطالب “نتنياهو” بإفسادها، لأن المعضلة الأساسية هنا ستكون اعتراف واشنطن من جانب واحد بحدود الدولة الفلسطينية حتى لو لم تتحقق على الفور.
وقد تشتمل هذه الحدود على مناطق ترفض إسرائيل الخروج منها إلى الأبد، أو تريد تأجيرها لمدة غير محددة تحت زعم وضعها كاختبار لحسن نوايا الفلسطينيين ومدى استعدادهم للتجاوب مع خطة سلام تبدأ بمزايا اقتصادية ولكنها لا تلتزم بحدود للحل السياسي جغرافيًّا وزمنيًّا، تاركة ذلك إلى عملية مراجعة مستمرة لمدى التزام الفلسطينيين بالخطة. أو بمعنى آخر، ما تخشاه إسرائيل أن يكون اعتراف الولايات المتحدة المسبق بالقدس عاصمة لإسرائيل، وبالسيادة الإسرائيلية على الجولان السوري المحتل، مجرد ثمن تعتقد أنه مُغرٍ لإسرائيل لكي تقبل بتحديد حدود السيادة الفلسطينية على الأراضي في الضفة حتى قبل الشروع في بناء الدولة الفلسطينية ذاتها.
الحفاظ على أوسلو أفضل
ربما تكون المفاجأة الحقيقية فيما كتبه “ساتلوف”، حيث دعا إلى الحفاظ على اتفاق أوسلو باعتباره بديلًا أفضل لـ”صفقة القرن”!
وتكمن المفارقة في أن اليمين الإسرائيلي وأنصاره في واشنطن كانوا ضد الاتفاق منذ توقيعه في سبتمبر عام ١٩٩٣، ورأوا فيه تهديدًا قد يقود إلى تدمير إسرائيل، عبر السماح للفلسطينيين بتكوين شرطة محلية تحمل سلاحًا، فمهما كان وصفه بسلاح شخصي أو خفيف، إلا أنه يشكل تهديدًا قويًّا لأمن مواطني الدولة العبرية، كما يحمل في طياته احتمالات كبيرة لتنازل إسرائيل عن أراضٍ تشكل إرثًا تاريخيًّا لليهود، وتعمل كتهديد أمني ووجودي لإسرائيل على المدى البعيد حال نشوء دولة فلسطينية.
يقول “ساتلوف”: يبدو أنّ الحقيقة الأساسية المفقودة من صيغة “كوشنر” هي أن الإسرائيليين والفلسطينيين لا يبدؤون من الصفر. فقد مرّ 25 عامًا على علاقتهما التعاقدية الخاصة المتجسّدة في اتفاقية “أوسلو”، وعلى الرغم من فترات الصراع والتوتر، لم يعارض أيّ من الطرفين الوضع الرّاهن لدرجة تجعله يقرر تغييره. وبالفعل، ورغم كل أخطائها، تطوّرت السّلطة الفلسطينيّة خلال هذه الفترة إلى ما يشبه دولة عربية طبيعية، أقل فسادًا، واختلالًا، وعنفًا، وسلطوية، من بعض الدول؛ وأكثر فسادًا، واختلالًا، وعنفًا، وسلطوية، من البعض الآخر.
ومنذ قمع إسرائيل للانتفاضة الثّانية قبل 15 عامًا، وخسارة غزة لصالح متطرفي “حماس” بعد ثلاث سنوات من ذلك التاريخ؛ حافظت السلطة الفلسطينية ما بعد “ياسر عرفات”، بقيادة “محمود عباس”، بشكل أو بآخر على السلام مع إسرائيل، كما حافظت على التعاون الأمني مع الجيش الإسرائيلي، وضمنت عدم وقوع الضفة الغربية في أيدي المتطرفين الإسلاميّين. إنّ أي اقتراح أمريكي للسلام يجب أن يبدأ بكيفية البناء على الأساسات الحالية، مع بذل جهد شاق لضمان عدم القيام بأي شيء للمخاطرة بالوضع الهشّ الراهن”.
ما يُطالب به “ساتلوف” إذن بعد حواره مع “كوشنر”، هو التروي في تحديد حدود الدولة الفلسطينية المنتظرة، ومساعدة السلطة الفلسطينية على الاستمرار والبقاء. ويتناقض طرح “ساتلوف” هنا مع ما تتعرض له السلطة الفلسطينية ورئيسها “أبو مازن” من هجوم مستمر من جانب إسرائيل الرسمية التي تتهمهما بعرقلة جهود التسوية برفض الجلوس إلى مائدة التفاوض بدون شروط. ورغم أن رفض السلطة الفلسطينية مقدمًا لـ”صفقة القرن” (أعلن “أبو مازن” ذلك صراحة منذ نوفمبر الماضي) سيعفي تل أبيب من مسئولية إفشالها؛ إلا أن التهديدات الأمريكية بقطع أي علاقات مع “أبو مازن” والسلطة الفلسطينية، وحرمانهما من الدعم المالي، والتضييق على الدول العربية الثرية لمنعها من تقديم بدائل لـ”أبو مازن”؛ قد يهدد في النهاية بانهيار السلطة لتجد إسرائيل نفسها في وضع أمني أخطر بعد فقدان التنسيق الأمني الذي كان قائمًا مع هذه السلطة بحكم اتفاق أوسلو.
كما تتوقع إسرائيل أن تتزايد حملات الانتقادات الدولية لها إذا ما تحولت الأوضاع داخل الأراضي الفلسطينية إلى فوضى تجلب مشاهد البؤس التي يعيشها الشعب الفلسطيني والتي يستغلها خصومها جيدًا لتشديد محاولات نزع الشرعية عنها.
إذا كان الحفاظ على اتفاق أوسلو هو الهدف الاستراتيجي حاليًّا لإسرائيل لمنع الدخول في مغامرة الحل النهائي وفق “صفقة القرن”، تبقى الحسابات على الجانب الفلسطيني أكثر تعقيدًا. فالرئيس “أبو مازن” يُدرك أنه لا معنى للاستمرار في الإبقاء على أوسلو رغم أنها تظل مصدر شرعية سلطته في ظل احتمالات تعرضه لهجوم من أكثر من طرف؛ فهناك الداخل الفلسطيني المنقسم على نفسه حول جدوى التمسك بها وكل ما تؤديه هو التنسيق مع إسرائيل أمنيًّا. وكذلك الداعمون العرب الذين سيعتبرون تمسكه بأوسلو تهربًا من اتخاذ القرارات المصيرية وهو ما لا يخدم الشعب الفلسطيني، ويخلق توترات بينهم وبين الولايات المتحدة الأمريكية في وقت تشتد فيه الحاجة إلى الدعم الأمريكي في مواجهة التهديدات الإيرانية لأمن دول الخليج. وأخيرًا ما يلوح في الأفق من عقوبات أمريكية ضد السلطة الفلسطينية بسبب موقفها من “صفقة القرن”، حيث يوجد احتمال ولو ضئيل بأن تعمد الإدارة الأمريكية لسحب اعترافها بأوسلو وبالسلطة الفلسطينية المنبثقة عنها حال استمرار رفضها في التعامل مع “صفقة القرن”.
خلاصة ونتائج
ربما يُشكل الجدل الدائر حول “صفقة القرن” حاليًّا وضعًا فريدًا تتلاقى فيه رغبة طرفي الصراع الرئيسيين (إسرائيل والفلسطينيين) في وأد الخطة الأمريكية للتسوية، وإذا كانت إسرائيل لن تغامر برفض الصفقة مباشرة وبدون مواربة، كما فعلت السلطة الفلسطينية، فإنها ستسعى إلى إفسادها بشكل غير مباشر عبر الإعلان عن ضم أجزاء من الضفة الغربية من جانب واحد، تحسبًا لأي احتمالات، مهما كانت ضئيلة، في أن تغير السلطة الفلسطينية من موقفها وتعاود التفاوض على “صفقة القرن” التي قد تحمل -كما سبقت الإشارة- بندًا يحوي الاعتراف بحدود “الوطن” الفلسطيني المؤقت وقبل إشهاره كدولة رسميًّا.
وفِي ظل موازين القوى القائمة بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، وفِي ظل التطورات الإقليمية الخطيرة فيما يتعلق بالمواجهة الأمريكية-الإيرانية المحتملة، ليس أمام الفلسطينيين سوى إعادة التفكير في نتائج رفضهم التعامل مع “صفقة القرن” على المدى المنظور والبعيد.