بدأت السعودية وإيران محادثات مباشرة منخفضة المستوى منذ عام 2021، لتتكلل في العاشر من مارس 2023 باتفاق لعودة العلاقات بينهما. يأتي الاتفاق كبرهان على طبيعة التحول والتغيير الحاصل في سياسات وتوجهات حكومتي البلدين، وإدراكهما أنه لا يمكن الاستمرار في حالة تنافس وعداء أبدي، وأن التهدئة والحوار هما السبيل الأنفع لهما وللمنطقة كلها. وعلى الرغم من أن ثمة دوافع ومصالح متبادلة للرياض وطهران لإبرام هذا الاتفاق، إلا أن هناك أطرافًا عدة متشابكة لديها دوافع قوية أيضًا لتفعيله، خاصة الصين التي لعبت دور الوسيط. ومع ذلك يبقى السؤال قائمًا حول محددات صمود هذا الاتفاق في المستقبل.
السلام الصيني
ينطلق التوجه الصيني لإحلال الأمن والسلام في العالم والإقليم من دعوة الرئيس “شي جين بينج” إلى بناء مستقبل مشترك للبشرية عبر مجتمع دولي يهتم فيه الجميع بأمور بعضهم بعضًا، إذ طرح الرئيس مبادرة “الأمن العالمي” التي تدعو إلى إيجاد طريق جديد للأمن يُكرّس الحوار والشراكة والكسب المشترك بدلًا من المواجهات والتحالفات. وعندما تتحدث الصين عن البشرية وأمنها ومستقبلها، فإنها تشير إلى عالم تشغل وحدها فيه حوالي 9.6 ملايين كم مربع من مساحته، وتشكل حوالي 17.7% من إجمالي سكانه.
وأعلنت الصين أنها لا تسعى إلى أي نفوذ سياسي في الشرق الأوسط، مما أقلق قوى دولية أخرى لها مصالحها القائمة على تنامي النفوذ السياسي والاقتصادي بل والعسكري، ويأتي في قلب الشرق الأوسط منطقة الخليج التي تُعد العنصر الأكثر أهمية للاقتصاد الصيني الذي يؤمن له نحو 40% من احتياجاته النفطية، مما يستوجب الحفاظ على استقراره، كما أن العلاقات المميزة مع دول الخليج دفعت الصين إلى عرض وساطتها في مرحلة بلغ فيها التنافس الصيني-الأمريكي في المنطقة درجة عالية من التصعيد.
>> دلالات أول لقاء مباشر بين وزيري خارجية السعودية وإيران في بكين
دوافع متبادلة
لم تكن السعودية لتتجاوب مع المبادرة الصينية لتصفير الخلافات في المنطقة، إلا من خلال رؤية أوسع تحقق طموحات المملكة في استكمال رؤيتها التي أعلنتها في 25 إبريل 2016 كخطة لما بعد النفط. كما أن تسوية الخلافات السعودية-الإيرانية، وغيرها من أزمات المنطقة، سوف تساعد دول الإقليم على تجفيف بؤر الإرهاب، ومحاصرة تمويل المليشيات وجماعات العنف، ولا سيما تلك التي تدعمها إيران أو تستخدمها في تهديد استقرار دول المنطقة الأخرى، الأمر الذي سوف يؤدي إلى الاستقرار والأمن في المنطقة.
علاوة على إمكانية البدء في إيجاد تسويات للصراعات والأزمات في اليمن وسوريا والعراق، وتحويل السلوك الإيراني من العداء إلى التعاون، فضلًا عن البدء في التبادل الاقتصادي والتجاري، والحوار الثقافي والاجتماعي في ظل تنسيق أمني.
في المقابل، تتعدد الدوافع الإيرانية من الإقدام على هذا الاتفاق مع السعودية، إذ ألحقت العقوبات الاقتصادية أضرارًا بالغة بالاقتصاد الإيراني الذي يعتمد بصورة كبيرة على تصدير النفط. وتشير تقديرات إيرانية إلى أن خسائر إيران بلغت 150 مليار دولار بسبب هذه العقوبات في الفترة ما بين عامي 2018 و2020، كما أضرت العقوبات باقتصاد الحرس الثوري، الذي يعتمد على تجارة النفط للحصول على تمويله الخاص من خارج ميزانية الحكومة.
أضف إلى ذلك رغبة الرئيس الإيراني “إبراهيم رئيسي” في الانفتاح على دول الخليج، خاصة السعودية، بديلًا عن فشل مقاربة التفاهم مع الغرب التي انتهجتها إدارة الرئيس السابق “حسن روحاني”، والبحث عن مخرج لتخفيف موجة الاحتجاجات التي اجتاحت المدن الإيرانية. كذلك، فإن استعادة العلاقات مع السعودية قد يحفز على إحياء الاتفاق النووي، والذي يعدّ شرطًا لرفع العقوبات التي فرضتها إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب على إيران، فضلًا عن مواجهة الضغوطات الغربية إثر موقف إيران الداعم لروسيا في حربها على أوكرانيا.
>> الاتفاق السعودي الإيراني بوساطة صينية: هل من اصطفاف إقليمي ودولي جديد؟
محددات الصمود
لا شكّ أن هذا الاتفاق السعودي-الإيراني يحقق مصالح الطرفين، ويحد من فرص تصعيد الصراعات في المنطقة، ويمهد لاستقرارها، إذا ما تم العمل على تفعيل بنوده بمصداقية وشفافية، حيث توجد عوامل عدة قد تؤثر، إيجابًا أو سلبًا، على هذا الاتفاق وتحدد مدى صموده، أهمها:
– التزام الأطراف: يعد الالتزام بتنفيذ بنود الاتفاق العامل الأهم في نجاح الاتفاق وتفعيله ولو مرحليًا في ظل التخوفات من عدم التزام الدولتين، ولا سيما مؤسسات الدولة الإيرانية العميقة ممثلة بالمرشد ومجلس الشورى، والمعروف عنهما التنصل من التزاماتها متى ما ارتأوا ذلك. ومن شأن الالتزام بالاتفاق الذي وقعته رسميًا الحكومة الإيرانية أن يؤدي إلى عودة الهدوء وتسوية المشكلات في الإقليم، وخلق شراكات متنوعة بين إيران ودول مجلس التعاون الخليجي، بل قد يكون بداية إلى عودة العلاقات الإيرانية مع قوى عربية أخرى.
– الموقف الصيني: مع رغبة بكين وقدرتها على القيام بدور دبلوماسي قوي على الساحة الدولية، وسعيها لخلق مناخ جديد في منطقة الشرق الأوسط، فهي أحد الأطراف الرابحة من الاتفاق، ومن ثم فقد تدعم استمراره وصموده لأنه يمثل بداية للعهد الصيني في الشرق الأوسط، وخطوة نحو تحقيق نجاحات مماثلة لسياستها نحو العالم.
– الموقف الروسي: أعلنت روسيا على لسان نائب وزير خارجيتها ميخائيل بوجدانوف أن الاتفاق بين الرياض وطهران يتماشى مع المبادرات الروسية الرامية إلى إنشاء منظومة للأمن في منطقة الخليج ذات الأهمية الاستثنائية على مستوى الاقتصاد العالمي، في إشارة إلى دور روسي محتمل مستقبلًا في المنطقة تكون أول لبناته الخروج من تحت عباءة الولايات المتحدة.
– الموقف الأمريكي: على الرغم من ترحيب الولايات المتحدة باتفاق الرياض وطهران وتأكيد البعض أنه يتوافق مع ما أوضحه الرئيس جو بايدن خلال زيارته الأخيرة لكل من السعودية وإسرائيل، بأن خفض التصعيد والدبلوماسية والردع من أهم أركان سياسته تجاه إيران؛ لكنّ هناك قلقًا أمريكيًا واضحًا من توقيع هذا الاتفاق برعاية الصين تحديدًا. وقد يزيد الأمر من حدة الصراع والاستقطاب بين الديمقراطيين والجمهوريين في الولايات المتحدة، لذا فإن الموقف الأمريكي، بل وبعض الدول الأوروبية، سيكون عاملًا مؤثرًا في صمود هذا الاتفاق.
– موقف إسرائيل وتركيا: تأتي تسوية الخلافات السعودية-الإيرانية في غير مصلحة إسرائيل التي كانت تتخذ من إيران ذريعة للسعي للتطبيع مع السعودية. لذلك، قد يدفع الاتفاق لتراجع هذا التوجه، وقد يكون الخاسر الأكبر من الاتفاق حال تنفيذه وصموده هو رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الذي وضع على رأس أولوياته الملف النووي الإيراني والتطبيع مع السعودية. أما على الصعيد التركي، فقد أظهرت الخارجية التركية ترحيبًا بالاتفاق، لكن من غير المتوقع أن تلعب دورًا داعمًا لهذا الاتفاق لكونه قد يقلص من دورها الإقليمي.
>> انفراج إقليمي.. التداعيات الجيوسياسية للاتفاق السعودي الإيراني
– الموقف العربي: برغم ترحيب غالبية الدول العربية بالاتفاق بين الرياض وطهران، إذ أعلنت مصر عن أملها في أن يسهم هذا الاتفاق في تخفيف حدة التوتر ويعزز الاستقرار ويحافظ على مقدرات الأمن القومي العربي؛ إلا أن الحذر لا يزال يسيطر على الرؤى العربية في انتظار أن يدخل الاتفاق حيز التنفيذ ويستمر لتزداد الثقة بين جميع الأطراف.
ختامًا، تتبع السعودية سياسة متوازنة إزاء المنطقة، تسعى من خلالها لتوسيع دورها وتعزيز مكانتها إقليميًا وعالميًا في ظل ما لديها من إمكانات وقدرات تمكنها من ذلك؛ لذلك أصبح الحوار والتقارب مع طهران أمرًا ضروريًا لحل بعض المشكلات الرئيسية في المنطقة العربية، خاصة في اليمن وسوريا والعراق ولبنان.