تشهد مصر هذه الأيام ورشة عمل نشطة تبشر بمرحلة جديدة وإصلاحات كبرى. اكتمل الحوار الوطنى وباتت توصياته جاهزة للإعلان، فيما يصدر البرلمان تشريعات مهمة تسوى بين القطاعين العام والخاص وتلغى المعاملة التفضيلية التى اعتادت مشروعات الدولة التمتع بها، وتشريع آخر يوفر شروطا أفضل لائتلاف منظمات المجتمع المدنى العاملة فى مجال التنمية. يحدث هذا فيما المجتمع السياسى يشهد حراكا غير مسبوق تأهبا لانتخابات رئاسية منتظرة فى أقل من عام. تحركات واسعة النطاق تشمل مجالات السياسة والاقتصاد والمجتمع المدنى، فما هى العلاقة بين هذه المجالات، وما هى الخطوط الفاصلة ومساحات التداخل بينها، وهل هناك مساحة تسمح بإنتاج أفكار جديدة تساعد فى تسريع عملية التطور والتنمية فى مجتمعنا.
السلطة هى مجال عمل واهتمام المجتمع السياسى, فيما يتركز المجتمع الاقتصادى حول إنتاج وتوزيع الثروة؛ بينما يدور المجتمع المدنى حول كل ماله صلة برفاهية المجتمع بخلاف قضايا السلطة والثروة. المعرفة والثقافة والقيم وتبادل المساعدة كل هذا يقع فى إطار عمل المجتمع المدنى، الذى يبدو كما لو كان يتوسط العلاقة بين السياسى والاقتصادي.
المجتمع المدنى هو مجال النفع المشترك، على عكس مجالات السياسة والاقتصاد، التى تنطوى على توزيع المنافع، بما فى ذلك استبعاد البعض تماما من الحصول على أى نصيب منها. الشركات تتنافس من أجل حصة أكبر من السوق، والأحزاب تتنافس من أجل نصيب أكبر من السلطة، فيما تتعاون منظمات المجتمع المدنى من أجل تعظيم النفع المشترك. فى السياسة والاقتصاد هناك رابحون وخاسرون، لكن فى المجتمع المدنى لا يوجد سوى رابحين فقط.
المجتمع المدنى هو «مجال التضامن الطوعى بين الأفراد والدولة والذى فيه يقوم الناس بالعمل الجماعى لخدمة أغراض قيمية أو مادية باستقلال نسبى عن الدولة والسوق». هذا هو التعريف الأشهر للمجتمع المدنى والذى قدمه المفكر الأمريكى مايكل والتزر.
التنظيم الذاتى هو الأصل فى المجتمع المدنى، حيث يقوم المجتمع بتنظيم أموره بنفسه، دون حاجة إلى تدخل الدولة. لكن يبقى علينا تعيين مقدار الطوعية الموجود فى الواقع الحقيقى، وإلى أى مدى يمكن للمجتمع المدنى أن يكون مستقلا عن مجالات الفعل الأخرى، خاصة الاقتصاد والسياسة، وما هى القيم التى يتم الترويج لها فى المجتمع المدنى، وما هى الأهداف التى تتم خدمتها، وما هو مستوى التوافق الواجب توافره حول هذه الأهداف.هل المجتمع المدنى هو قطاع إضافى أصيل بجانب الدولة والسوق، السياسة والاقتصاد؛ أم أنه قطاع تكميلى يلتقط ما سقط من القطاعين الأساسييين الاقتصاد والسياسة. هل للمجتمع المدنى وظيفة رئيسية كقطاع مساو للسياسة والاقتصاد، أم أنه قطاع ثانوى يتعامل معا قد يخفقان فيه. بإمكان السياسة تغيير المجتمع هيكليا وجذريا، وكذلك للاقتصاد إمكانية مشابهة، فهل بإمكان المجتمع المدنى تغيير المجتمع هيكليا، أم أنه فقط يستكمل المهام التى تبدأ وتنتهى فى السياسة والاقتصاد؟
للنقابات وجمعيات الحقوق موقع ملتبس فى هذا الجدل. النقابات هى منظمات تقوم على التضامن الطوعى وتبادل المساعدة بين أعضائها، ولكنها أيضا تدخل فى صراع من أجل اقتسام الثروة عبر زيادة الأجور وتحسين شروط العمل، فهل النقابات جزء من المجال الاقتصادى أم أنها تنتمى إلى المجتمع المدني؟ ما يسرى على النقابات ينطبق أيضا على جمعيات المستثمرين ورجال الأعمال، ولهذه المنظمات قواعد خاصة تنظم عملها وفقا لطبيعتها الخاصة.
الجمعيات الحقوقية تهتم بقضايا تتعلق بالسلطة كما تتعلق بالثقافة والقيم، فهل يمكن اعتبارها جزءا من المجتمع المدنى أم المجتمع السياسي. كثير من قضايا الحقوق هى قضايا خلافية وصراعية، فألا يتعارض هذا مع طبيعة المجتمع المدنى باعتباره مجالا للنفع العام والمصلحة المشتركة. هل يمكن التمييز بين بعض الحقوق وبعضها الآخر، فالحقوق السياسية مثلا هى من نوع مختلف عن الحق فى التعليم والعلاج؛ أم هل يجب إحالة كل ما يتعلق بالحقوق إلى المجال السياسى، باعتبار أن الحقوق مفهوم صراعى فى أغلب الأحوال؟
طريقتنا فى التفكير فى هذه الأمور مستمدة فى الغالب من التقاليد الغربية، فماذا عنا نحن؟ لدينا السياسة والاقتصاد، ولدينا أيضا الدين كمجال إضافى له أهمية توازى السياسة والاقتصاد، ويتقاطع معهما ويتدخل فى شئونهما. لكن المؤكد هو أن المجتمع المدنى هو الأقل استقلالا عن الدين، وهو الهدف الأكثر مباشرة لتدخلاته. يحاول الراديكاليون توظيف المجتمع المدنى كقاعدة للتغيير ومجال لتأسيس وتعبئة حركات الاحتجاج لتعويض ضعفهم فى المجال السياسى، أو للالتفاف على بعض القيود المفروضة عليه، فكيف يمكن التعامل مع هذا الاحتمال، وكيف يمكن تنظيم العلاقة بين كل هذه المجالات المتوزاية أحيانا، والمتقاطعة أحيانا كثيرة أخرى.
فى التنظير والخبرة الغربية تم التمييز بين ثلاثة مجالات فقط، هى السياسى والاقتصادى والمدني؟ فهل هذا هو الحال فى بلادنا أم أن خبرتنا التاريخية منحتنا تمييزا بين عدد أكبر من المجالات، التى يحتاج كل منها إلى طريقة خاصة فى تنظيمه تتناسب مع طبيعته.
مغزى هذا النقاش يأتى من أهمية بلورة وتوضيح المفاهيم، وضرورة ذلك لصياغة تشريعات وبلورة سياسات تنقل المجتمع كله خطوة إلى الأمام، بعد أن تسبب اختلاط المفاهيم فى تعويق نمو وتطور المجتمع.وبشكل خاص، فإن المجتمع المدنى كان هو الأكثر تضررا من جراء اختلاط المفاهيم هذا، حيث تم تحميله تكلفة باهظة نتجت عن اختلاط المدنى والحقوقى والديني.