تُشكل الزيارة التي يجريها الرئيس الجزائري “عبد المجيد تبون” للصين والتي تبدأ في السابع عشر من يوليو الجاري وتستمر حتى الثاني والعشرين من الشهر ذاته، بدعوة من الزعيم الصيني “شي جين بينغ”، توجهًا استراتيجيًا جزائريًا للشرق في ضوء التعاطي مع المتغيرات العالمية الراهنة، كأول زيارة لرئيس جزائري إلى بكين منذ عام 2008. وتعكس هذه الزيارة التبدلات النوعية الراهنة في الدبلوماسية الجزائرية، خاصةً وأنها تأتي في ضوء تصادم التوجهات الغربية الجزائرية من ناحية، وتفاقم الأوضاع الاقتصادية وهندسة السياسة العالمية على إثر الحرب الروسية الأوكرانية. وتكشف تلك الزيارة بشكل كبير سياسة الاتجاه شرقًا التي تتبناها الجزائر بقوة، ساعية لخلق شراكات استراتيجية متعددة.
توازنات تكتيكية
لا شك أن القمة الجزائرية الصينية تعكس التطلعات المتبادلة بين الجانبين لترسيخ الشراكة الاستراتيجية، والعمل على تطوير وتحديث الاتفاقية الموقّعة بينهما عام 2014، بما يتواءم مع المتغيرات الاقتصادية والأمنية الدولية الحالية. كما تحمل في طياتها سعي الجزائر للانفتاح على محور الشرق بصورة عامة، خاصةً وأنها تأتي في أعقاب أقل من شهر على زيارة مماثلة للرئيس “تبون” إلى روسيا. فما بين مساعي الشرق لاكتساب ورقة تواجد في العمق الأفريقي، وما بين تطلعات الجزائر لفك الارتباط نسبيًا عن الغرب؛ يمكن توضح الأهداف الكامنة وراء هذه الزيارة:
- إيجاد خيارات اقتصادية متنوعة وتدعيم ملف الترشح لمجموعة بريكس: أحد الأهداف المُلحة والمخيمة على زيارة “تبون” للجزائر ناجم عن تطلعها إلى الدفع بمسار الانضمام إلى مجموعة “بريكس” كمجال حيوي يساهم في تعددية الخيارات الاقتصادية، ويعزز من مساعي الجزائر للخروج من دائرة الضغوطات الراهنة الناجمة عن ربط الاقتصاد بالدولار واليورو. ولعل تتابع الزيارات التي قام بها الرئيس الجزائري لكل من (روسيا والصين) يبرهن على أن الانضمام للبريكس بات واحدًا من أولويات التحرك الدبلوماسي الجزائري، خاصةً وأن الدولتين تُعتبران الأكثر تأثيرًا داخل ذلك التكتل الاقتصادي، وذلك قُبيل انعقاد القمة المقررة في أغسطس المقبل.
واتساقًا مع ذلك، فإن تلك الزيارة في بُعدها الاقتصادي تأتي عقب تقدم ملحوظ في خطوط التفاهم الاقتصادي الثنائي بين البلدين، على إثر توقيع الجزائر على خطتين لتعزيز الشراكة الاستراتيجية الشاملة مع الصين في ديسمبر من عام 2022، وهما “الخطة التنفيذية للبناء المشترك لمبادرة الحزام والطريق” وكذلك “الخطة الثلاثية للتعاون في المجالات المهمة 2022-2024″، علاوة على التفاهمات التي تمت بين الصين والجزائر في عدد من المشاريع الاستراتيجية من بينها مشروع “ميناء الجزائر وسط”، فضلًا عن استغلال منجم “غاز جبيلات” الواقع في تندوف جنوب الجزائر. وتعكس تلك الآليات الإجرائية واقع التحول في طبيعة العلاقات الجزائرية الصينية بصورة خاصة والجزائرية ودول الشرق بصورة عامة.
- تعزيز المكانة الإقليمية: إن زيارة “تبون” للصين تؤشر إلى التحولات النوعية البارزة للسياسة الخارجية الجزائرية في إيجاد شركاء استراتيجيين عوضًا عن التنافر الجزائري الأوروبي من ناحية، وإحداث توازن للتطورات المغربية الأوروبية الأمريكية من ناحية ثانية؛ رغبةً في تضييق ميزان القوى العسكري بينها وبين الرباط، وخلق تكتل داعم لمصالحها الأمنية، وخاصةً فيما يتعلق بقضية الصحراء الغربية. ولا تبتعد صفقات التسليح عن تلك المعادلة، خاصةً بعد صفقات المغرب العسكرية مع إسرائيل فيما يتعلق بالطائرات المسيرة لتصفية القضية الصحراوية عسكريًا؛ لذا فإن الجزائر تسعى لتقويض ذلك الاحتمال، وإحداث توازن عسكري من خلال مساعيها لإتمام صفقة عسكرية مع الصين خاصة بالطائرات المسيرة المعروفة باسم “وينغ لونغ2″، وكذلك استقدام التكنولوجيا العسكرية الصينية للجزائر من أجل تعزيز قدراتها الدفاعية المحلية، ويتضح ذلك من خلال المرسوم الرئاسي الصادر في (يوليو 2023) من أجل إنشاء هيئة مسئولة عن إجراءات الدراسات والهندسة والتصنيع العسكري بالتعاون مع الصين. ويرتبط ذلك بأهداف جيوسياسية خاصة في إطار تطلع الجزائر إلى إعادة تموضعها إقليميًا ودوليًا واستعادة مكانتها وملء الفراغ الأمني في منطقة الساحل والصحراء بدعم مباشر من جانب القوى المؤثرة عالميًا والمنخرطة بصورة متزايدة في المشهد الأفريقي اقتصاديًا وعسكريًا (الصين وروسيا).
- الانخراط الآمن في مجال الطاقة: واحد من بين ملفات الاهتمام الجزائري ومجال لتعزيز أمنها الاقتصادي يكمن في تعزيز التوظيف الأمثل لموارد الطاقة لديها، وخاصة الغاز وتعددية الأسواق البديلة، هذا الأمر اتضحت معالمه عقب توقيع شركة النفط والغاز الحكومية “سوناطراك” عقدًا مع شركة “وانهو كيميكال” الصينية في السادس عشر من مايو 2023 لتصدير غاز النفط المسال إلى الصين، وهو ما يجعل الغاز الجزائري يغزو الدول الآسيوية. وهذه الاتفاقية هي خط مكمل للانفتاح الطاقوي الجزائري الصيني، خاصة وأنها تأتي في أعقاب توقيع “سوناطراك” اتفاقًا مع شركة “سينوبك” الصينية (لمدة خمسة وعشرين عامًا) لإنتاج مشترك للنفط بقيمة 490 مليون دولار؛ للتنقيب عن النفط في منطقة زرزايتين في حوض إليزي.
متغيرات داعمة
ثم هناك تغيرات متعددة إقليميًا ودوليًا جاءت في مجملها مُحفزة لحتمية التقارب الصيني الجزائري. فعلى الصعيد الإقليمي ورغبةً من الصين في إقرار تواجدها في دائرة المغرب العربي والساحل والصحراء، فقد عززّ الفراغ الأمني في تلك الدائرة الاستراتيجية عقب خطط سحب القوات الأجنبية من دول تلك المنطقة، مما يفرض معه إعادة مراجعة الصين لخطة عملها في أفريقيا والاعتماد على منهج جديد لأمن أفريقيا، سواء بالتواجد بالقواعد العسكرية أو عبر شركات الأمن الخاصة لتأمين خططها الاستثمارية في العديد من تلك الدول. وانطلاقًا من دور الجزائر العسكري في هذا الإطار فإن الصين سوف تعول كثيرًا على هذا الأمر إما بممارسة مزيد من الشراكة العسكرية، أو عبر تشكيل تحالف أفريقي صيني يدعم مصالحها الاستراتيجية، دون العودة لمرحلة الهيمنة الغربية على هذا المسرح الجيوستراتيجي، وهذا الفراغ بمثابة فرصة جيدة لإعادة تموضع الصين عسكريًا في هذا النطاق تحقيقًا لتعاظم نفوذها أفريقيًا.
على مستوى مماثل، وارتباطًا بالسابق ونتيجة لحالة الفراغ الأمني الناجم عن الانسحابات المتتالية للقوات الغربية المشاركة في عمليات حفظ السلام في الساحل والصحراء، فإن هناك أعباء أمنية إضافية تقع على عاتق الجزائر، ومن ثم فإن هذا الأمر يتطلب حتمية توسيع دائرة التعاون العسكري مع الأقطاب المؤثرة دوليًا عبر إعادة توجيه للبوصلة الدبلوماسية الجزائرية. وانطلاقًا من امتلاك الصين للتكنولوجيا العسكرية الخاصة بالدرونز فإنه من الضروري التنسيق للحصول على تلك التكنولوجيا لمواجهة المخاطر الأمنية المحتملة على طول خط التماس مع منطقة الساحل والصحراء، عوضًا عن التواجد العسكري الغربي المباشر في تلك المنطقة وموازنة للتحركات المغربية الإسرائيلية في هذا النطاق.
على الجانب الآخر، جاءت الحرب الروسية الأوكرانية لتُعيد ترتيب المشهد العالمي على كافة الأصعدة (عسكريًا، وسياسيًا، واقتصاديًا)، وتفرض واقعًا متأزمًا بين الغرب والجزائر، فالعلاقات الجزائرية الغربية باتت تشهد تصدعًا غير مسبوق، على خلفية التناقضات الخارجية، سواء حيال قضية الصحراء الغربية أو على صعيد الحرب الروسية الأوكرانية التي لم تنحز فيها الجزائر إلى المعسكر الغربي، وما تبعه من مساعي الكونجرس الأمريكي لتطبيق قانون “معاداة أمريكا” على الجزائر، إلى جانب مطالبة نحو 17 نائبًا من البرلمان الأوروبي بإعادة مراجعة اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي والجزائر على إثر صفقات التسليح المختلفة الجزائرية الروسية، مما يفتح المجال واسعًا أمام تكريس الشراكة الجزائرية الصينية.وفي التقدير، تسعى الدبلوماسية الجزائرية لتعزيز حضورها الدولي عبر البوابة الروسية والصينية، وتستهدف بشكل كبير فتح شراكات متعددة، مستندة في ذلك إلى ورقة الطاقة كإحدى أوراق التحرك الجزائري الخارجي التي وُظفت بصورة إيجابية منذ تولي الرئيس “تبون” السلطة عام 2019. وعلى الرغم من المكاسب المحتملة اقتصاديًا وكذلك على مستوى إبرام صفقات تسليح، فإن لذلك ضريبة على صعيد العلاقات الجزائرية الغربية، خاصةً في وقت بات الغرب يلوّح فيه بأنه من ليس معنا فهو ضدنا، وهذا الأمر قد يدفع لتضييق نطاق الشراكات الاقتصادية الأوروبية والأمريكية مع الجزائر.