أصبحت مشكلة المديونية تمثل هاجسا قويا لدى صانع القرار الاقتصادى خاصة مع تزايدها المستمر، إذ تشير الإحصاءات إلى أن إجمالى الدين العام (محلى وخارجى) قد وصل الى نحو 113% من الناتج المحلى الاجمالى بنهاية عام 2021/2022 (منها 37.1% دين خارجى و75.3% دين محلى) كما ان خدمة الدين المسددة (فوائد واقساط) قد وصلت الى نحو 14%، من هنا أصبح من الضرورى العمل على وضع آليات محددة لعلاج الازمة قبل تفاقمها، خاصة ان تاريخ مصر الاقتصادى وربما السياسى، يرتبط ارتباطا وثيقا بأوضاع الدين العام. وهو ما لخصه ببلاغة شديدة د.جلال أمين قائلا «كلما أمعن المرء فى قراءة احداث مصر الاقتصادية والسياسية خلال السنوات الأخيرة، وفى تأمل محنة مصر الاقتصادية الراهنة، ازداد اقتناعا بأنه ليس هناك، من بين مشكلات مصر المتعددة، ما يعادل مشكلة الديون خطورة. مشكلاتنا الاقتصادية كثيرة حقا ومتشعبة، ولكن من أى زاوية نظرت وجدت ان مشكلة الدين تحتل مكان الصدارة فى خلق الأعباء وتعقيد الحل».
ويرجع السبب فى ذلك إلى المخاطر المترتبة عليها، سواء على بنية الاقتصاد القومى، أو فيما يتعلق بالاستقرار المالى والنقدى القائم. من هذا المنطلق تأتى أهمية دراسة ووضع الحلول الدائمة لهذه المسألة، ليس فقط لإصلاح الخلل الناجم عنها حاليا، ولكن أيضا لعدم تحميل الأجيال القادمة أعباء الجيل الحالى، فإذا كان الدين الخارجى يؤدى إلى تحويل الموارد الاقتصادية إلى الخارج، فإن الدين المحلى يتمثل فى إعادة توزيع الدخل بين المقيمين، فالاستخدام المتزايد لجانب من القروض العامة، فى الإنفاق على الاستهلاك العام، يعنى نقل العبء المالى لهذه المصروفات إلى الأجيال المقبلة.
وتتطلب الادارة الاقتصادية السليمة عدم تعرض الاقتصاد القومى لأى ازمات مالية او اقتصادية ، وبالتالى يجب ربط إدارة الدين العام بإطار اقتصادى كلى تسعى الحكومة من خلاله لضمان القدرة على الاستمرار فى تحمل مستوى معين للدين ومعدل نموه.ووضع حزمة من السياسات الاقتصادية يتم تنفيذها على المدى القصير والبعيد والمتوسط.
مع الأخذ بالحسبان أن استمرار عجز الموازنة، لا يؤدى بالضرورة الى ارتفاع نسبة الدين العام، حتى لو كان التمويل بالاقتراض، إذا كان معدل نمو الناتج المحلى أعلى من سعر الفائدة على الدين العام. وبالتالى فإن افتراض سعر فائدة أقل، من معدل نمو الناتج المحلى، هو العامل الحاسم فى وجود سقف محدد لنسبة الدين العام. فإذا كان الناتج فى حالة نمو مستمرة، وإذا كانت نسبة مصروفات خدمة الدين ثابتة، فإن ذلك لا يثير مخاوف كبيرة. وذلك لأن الوعاء الذى ستفرض عليه الضرائب الإضافية اللازمة لخدمة الدين فى حالة نمو تسمح بزيادة الإيرادات. وهكذا يكون الدين العام، وما يترتب عليه من أعباء مالية فى الحدود الآمنة. وبالتالى فإن استهداف سقف محدد لنسبة الدين يتطلب سياسة اقتصادية تحقق نموا اقتصاديا أعلى من سعر الفائدة، وفى الوقت نفسه تحقق فائضا أوليا.
وفى هذا السياق اتخذت الحكومة المصرية عدة إجراءات إيجابية للتعامل مع المشكلة كان اولها تشكيل لجنة لإدارة ملف الدين العام وتنظيم الاقتراض الخارجى والحد منه برئاسة رئيس مجلس الوزراء وعضوية كل من وزراءالتعاون الدولى، والتخطيط، والمالية، وممثل عن البنك المركزى وهيئة الرقابة الإدارية والامن القومى. وتختص بوضع حد اقصى للاقتراض الخارجى سنويا وحصر جميع احتياجات الوزارات والهيئات والجهات العامة من التمويل ودراسة البدائل المتاحة محليا، بحيث لا يتم اللجوء للاقتراض الخارجى إلا فى حالات الضرورة القصوى.
كما قامت وزارة المالية بوضع استراتيجية للدين العام على المدى المتوسط فى اكتوبر 2015 وتم تحديثها عامى 2018 و2020 ووضعت سيناريوهات لخفض نسبة الدين المحلى الى اقل من 70% من الناتج ووضع سقف للقروض الخارجية طوال الاعوام الاربعة المقبلة مع خفض اعباء الدين وإطالة عمره وخفض الاحتياجات التمويلية، وهى خطوات مهمة وضرورية، ولكنها غير كافية إذ يجب ان يضاف اليها العمل على تحديد مستهدفات كمية لحجم وهيكل الدين الخارجى على المدى المتوسط وبما يتفق مع أولويات الدولة، مع تحديد مصادر التمويل وأسعار الفائدة المتوقعة وعملات القروض المطلوب وآجال السداد المفضلة من أجل تقليل مخاطر أسعار الفائدة وسعر الصرف، واستخدام جزء من حصيلة الاقتراض الخارجى طويل الأجل لسداد جزء من الدين الأعلى تكلفة وذات الأجل القصير.
وعلى الجانب الآخر يجب تحديد أغراض استخدام الدين والمفاضلة بين طلبات القروض المقدمة من جهات الدولة المختلفة. وهو ما يجب ان تضطلع به لجنة إدارة الدين العام وتنظيم الاقتراض الخارجى. هذا فضلا عن ضرورة إجراء حصر شامل للديون غير المستخدمة، والتى بلغت نحو 37.7 مليار دولار يضاف الى ماسبق العمل على الحد من الضمانات الحكومية التى تقوم وزارة المالية بإصدارها والتى تتزايد عاما بعد آخر إذ وصل صافى الديون المضمونة فى يناير 2023الى نحو 29.7% من الناتج (13.7% ضمانات محلية و16% ضمانات خارجية) وهو ما يحمل الخزانة العامة أعباء عدم قدرة هذه الجهات على السداد وتتحمل عنها وزارة المالية أعباء لتغطيته. اما على المديين المتوسط والطويل فمن الضرورى العمل على خفض العجز فى الموازنة والوصول به الى المستوى الذى يصبح عنده الاقتصاد قادرا على النمو دون مشكلات تضخمية او ركود، وهو مستوى يجب البحث عنه بدقة وعناية فى ضوء الخبرة التاريخية للاقتصاد القومى، وكذلك الأوضاع الاجتماعية الراهنة. وهى مسألة يجب ان تتم فى إطار رؤية تنموية متكاملة ومن منظور شامل وواسع يأخذ بعين الاعتبار علاج الاختلالات الهيكلية فى الاقتصاد القومى ويدفع عجلة التنمية الى الأمام. وذلك عن طريق رفع كفاءة الاستخدام للموارد المتاحة وتنميتها.