شكل الانقلاب العسكري الذي شهدته النيجر في السادس والعشرين من يوليو 2023 نقطة توتر حرجة للغرب الأفريقي، ومجالًا ضاغطًا على الأمن القومي الجزائري في ضوء الارتباط الجغرافي والأمني بين كلا البلدين، وهو الأمر الذي قابله رفض جزائري لما تم من إجراءات تصعيدية بحق نظام الرئيس “محمد بازوم” برزت بصورة جلية في اللحظات الأولى من الانقلاب من قِبل وزارة الخارجية الجزائرية بإدانة محاولة الانقلاب مع التمسك بالمبادئ الأساسية الرافضة للتغييرات غير الدستورية للحكومات. وقد نجم هذا الموقف عن الشواغل الأمنية وكذلك المصالح الاستراتيجية والاقتصادية الرابطة بين النظام الجزائري ونظام الرئيس “بازوم”، مما يفرض مشهدًا مضطربًا ويستوجب تحركًا نشطًا من جانب الجزائر للحيلولة دون تفاقم الأوضاع داخليًا أو التدخلات العسكرية الأجنبية.
موقف صارم وحسابات دقيقة
اتسقت المواقف الرسمية الجزائرية مع ما تبناه المجتمع الدولي كالأمم المتحدة أو الإقليمية كالاتحاد الأفريقي والمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا “الإيكواس” من رفض لما حدث في النيجر، والدعوة لعودة الرئيس “بازوم” للسلطة مرة أخرى وإنهاء الانقلاب بالطرق السلمية، ولكنها في الوقت ذاته لم تغامر بالتصعيد العسكري ضده، مثلما انتهجت مجموعة “الإيكواس” من تحذير شديد اللهجة ومنح مدة زمنية (أسبوع) لإنهاء الانقلاب مع التلويح باستخدام القوة العسكرية إذا ما تطلب الأمر؛ وذلك على ضوء الاجتماع الطارئ لقادة المجموعة في قمة الثلاثين من يوليو 2023 في أبوجا.
وتجلت المواقف الجزائرية في خطوتين بارزتين، أولهما الإعلان المبكر للخارجية الجزائرية عن رفض حالة الانقلاب العسكري وأهمية التمسك بالمبادئ الدستورية، والثاني هو التصريحات الإعلامية التي أطلقها الرئيس “عبدالمجيد تبون” في حواره الدوري مع الصحافة الوطنية (5 أغسطس 2023) التي حملت في طياتها رفضًا واضحًا للانقلاب العسكري مع دعم العودة الشرعية الدستورية، وإبداء الرغبة في الوساطة لحل تلك الأزمة ومعارضة التدخل العسكري في النيجر.
ويأتي الموقف الجزائري الداعم لعودة الاستقرار للنيجر وكذلك الرفض القاطع لأي تدخلات عسكرية في النيجر ودعم الرئيس “محمد بازوم” بصفته الرئيس الشرعي للدولة؛ رغبةً في تحقيق والحفاظ على مصالحها الاستراتيجية خاصة تلك المتعلقة بأمنها القومي وذلك في ضوء المحددات التالية:
- تأمين حدودها في ضوء مقاربة أمنية مشتركة: إن أحد مجالات فهم الموقف الجزائري الرافض لما آلت إليه الأحداث في النيجر، يكمن في ملف الحدود وما له من ارتباطات تتعلق بالسيولة الأمنية وموجات تدفق للجماعات الإرهابية، حيث تشترك كل من الجزائر والنيجر في حدود تصل لنحو 1000 كم، وتشهد النيجر حالة تمركز عدة جماعات مسلحة تنشط في منطقة الساحل والصحراء وما لذلك من أبعاد أمنية وتهديدات عابرة للحدود، ونظرًا لكون دول الساحل الأفريقي بمثابة عمق استراتيجي للجزائر وعقب انهيار الدولة الليبية وتنامي الظاهرة الإرهابية، فقد استندت الجزائر إلى مقاربة أمنية مشتركة مع دول الساحل والصحراء في ضوء “تجمع دول الميدان” والتي تشمل النيجر، في العمق منها: رغبة في التصدي للجماعات المسلحة، وجمعتها والنيجر اتفاقية للتعاون الاستخباراتي والأمني لمحاربة الإرهاب وذلك في عام 2021، وهذا التخوف هو الدافع والمُشكّل الرئيسي لرفض الجزائر حالة الانقلاب الذي تشهده النيجر.
- الارتباط العضوي والمصالح الاقتصادية: إنّ حالة الهدوء وفرض الاستقرار “نسبيًا” في شمال النيجر ساهمت بشكل كبير في تعزيز مصالح الجزائر الاقتصادية بها عبر بناء منطقة تبادل تجاري لتعزيز تسويق المنتجات الجزائرية وتزايد وتيرة المبادلات التجارية، كما أن هناك مصالح اقتصادية مشتركة بين النيجر والجزائر تُحتم أهمية الاستقرار الداخلي وعدم التصعيد العسكري، وكذلك التصدي لأي شكل من أشكال التدخل العسكري لمنع انزلاق الدولة لحالة صراع مفتوح تتكالب عليه القوى الإقليمية والدولية، إذ إن النيجر تشكل معبرًا هامًا للصادرات الجزائرية للعمق الأفريقي خاصةً دول غرب أفريقيا، وزاد الاهتمام بدول الجنوب في حركة الصادرات الجزائرية عقب تأزم الموقف مع الرباط، علاوةً على المشاريع الاستراتيجية الجامعة بينهما، وفي مقدمتها أنبوب الغاز النيجيري الجزائري المار عبر أراضي النيجر، في ضوء معادلة التنافس الإقليمي المغربي الجزائري، حيث وقعت كل من الجزائر ونيجيريا والنيجر على اتفاق لتدشين خط غاز عبر الصحراء (يوليو 2022)، فضلًا عن المكاسب الاستراتيجية الناجمة عن توقيع شركة “سوناطراك” المملوكة للحكومة الجزائرية اتفاقية مع وزارة الطاقة النيجرية مطلع عام 2022 لتقاسم الإنتاج في حقل “كفرا” شمال النيجر، ومن ثم فإن الانعكاسات الأمنية عن وجود قوات أجنبية أو تزايد الاضطراب السياسي الداخلي سوف يكون عقبة أمام استمرارية هذه المشاريع.
- زيادة موجات اللجوء والهجرة: واحد من بين انعكاسات الاضطراب السياسي والأمني في النيجر هو مزيد من موجات اللجوء والهجرة للأراضي الجزائرية، خاصةً وأن هذه الموجات تزايدت وتيرتها بشكل كبير على الجزائر في الآونة الأخيرة بعدما شهدت كل من مالي وبوركينافاسو انقلابات منذ عام 2020، ولذا تستهدف الجزائر إبقاء الوضع داخل النيجر في إطار وسياق سياسي سلمي للحيلولة دون انزلاق النيجر في صراع عسكري مفتوح أو مجال للتواجد العسكري الغربي بحكم الجوار الجغرافي.
إيكواس والتعويل على الجزائر
في ضوء فشل الجولة التي قام بها وفد “الإيكواس” إلى النيجر للتحاور مع أطراف الأزمة والتفاوض مع القادة الجدد والتحاور مع الرئيس النيجري “محمد بازوم” في الرابع من أغسطس 2023، بادرت المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا بإرسال وفد مماثل إلى الجزائر بقيادة “باباجانا كينيجبي” كمبعوث خاص للرئيس “بولا تينوبو” للتباحث حول مخرج آمن للأزمة في النيجر، وحمل اللقاء رسائل تؤكد على أهمية دور الجزائر في معالجة الأزمة في النيجر، وعدم اللجوء للقوة العسكرية في خضم تلك الأزمة، بل العمل على تفعيل كافة الوسائل الدبلوماسية والسلمية لمعالجة تلك التطورات.
حيث باتت المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا تعول بشكل كبير على الجزائر كوسيط لحل الأزمة في النيجر لارتباطها الجغرافي والأمني والسياسي بها، وذلك في إطار ما بات يُشكل من سياسة محاور واستقطاب في تلك المنطقة مثلما هو الحال بالنسبة لاصطفاف مالي وبوركينافاسو مع النيجر لصد أي هجوم عسكري في مقابل التهديد المباشر من جانب “الإيكواس” باستخدام القوة العسكرية، ويتماشى مع ذلك تهديد فرنسا بالتدخل العسكري في حال تعرض مصالحها للخطر، تلك المعادلة تؤثر بصورة مباشرة على الأمن الإقليمي وتزيد من الأعباء الأمنية والسياسية على الجزائر نتيجة للانهيار المؤسساتي وتفاعل الجماعات المسلحة مع هذا المتغير في العديد من دول المنطقة.
ولعل ما حدث في النيجر بمثابة مكسب استراتيجي للجزائر في ضوء التصدع الراهن في علاقاتها مع فرنسا؛ إذ إن النيجر تُعد الورقة الأخيرة للمصالح الفرنسية في المنطقة بعدما انسحبت من مالي، فالتوترات الفرنسية الجزائرية السياسية جعلت الأخيرة تعمل على الإطاحة بالمصالح الفرنسية، وإخراج فرنسا بعيدًا عن منطقة الساحل والصحراء، ولكن ذلك المكسب الاستراتيجي لا يُعادل التكلفة الأمنية والاقتصادية على الجزائر إذا ما تطور السياق لحالة تدخلات عسكرية سواء عبر قوات أفريقية أو غربية.
وفي التقدير؛ يتسم موقف الجزائر في ضوء الانعكاسات والتداعيات الأمنية والسياسية عليها جراء الانقلاب في النيجر بحكم الجوار الجغرافي، بعدم المغامرة أو الانحياز أو التصعيد، مع العمل على تفعيل المسار السياسي السلمي في تسوية تلك الأزمة، حيث تحرص الجزائر على عدم اتخاذ مواقف تغامر من خلالها بعلاقاتها مع النيجر، سواء في حال عودة الرئيس “بازوم” أو مع القادة الجدد للنيجر، وتضع رهاناتها على تطورات المشهد داخل النيجر بما يحقق لها الحفاظ على مصالحها الأمنية والاقتصادية، خاصةً وأن أي تصعيد عسكري ستكون له أبعاد وخيمة على الأمن القومي الجزائري، لذا فإن الجزائر ونظرًا لما تُمثله دول الساحل والصحراء من عمق أمني لها سوف تكيف موقفها وفقًا للتطورات الداخلية، مثلما حدث قبل ذلك مع مالي.