لم ينفض المشاركون فى اجتماع الثانية عشرة من ظهر يوم 6 أكتوبر 1973 بعد نهايته، بقى البعض مع رئيسة الحكومة ووزير الدفاع لتدارس تقديرات الموقف، وبحث القرارات التى شهدت درجة من الاختلاف بشأنها، إلى أن داهمت الجميع صافرات الإنذار وهى تدوى على نطاق واسع فى تل أبيب، وكان هذا إيذانا ببدء الهجوم المصرى السورى فى الثانية وخمس دقائق. قبل ساعات من هذا المشهد فى تل أبيب، كان اللواء “شموئيل جونين” قائد المنطقة الجنوبية قد تحرك باتجاه مركز القيادة، بعد تلقيه تقريرا من الاستخبارات العسكرية جاء فيه تأكيد أن العبور المصرى على امتداد القناة سيبدأ الساعة 18.00(السادسة مساء). فور وصوله طلب الاتصال باللواء “أبراهام مندلر” قائد قوات المدرعات بسيناء كى يزوده بآخر المعلومات لديه، فى هذا الاتصال قال جونين لمندلر: “اسمع، من الأفضل تحريك الألوية المدرعة إلى الأمام نحو الخط، وما أن تصل حتى يكون المساء قد حل”. أجابه مندلر: “من الأفضل قطعا، لقد حان الوقت حقا، انهم يقصفونني”، أنهى جونين الاتصال، فقد بدأ الهجوم.
فى كتاب “التقصير” جاء فى فصل بعنوان “يوم الغفران الأسود”؛ رصد لما جرى فى غرفة العمليات بعد دقائق من الإعلان عن بدء الحرب، حيث هرع إليها “دافيد إليعازر” رئيس هيئة الأركان ونائبه ورئيس شعبة العمليات “يسرائيل تال”، وطلبا مشاهدة الخرائط مشارا عليها بواسطة الأسهم إلى تحركات العدو ومحاور اقتحامه، إلا أن المفاجأة كانت كبيرة جدا خلال تلك الدقائق الدرامية، إلى حد أنه لم يستطع أحد رسم الأسهم، فقد أخذت الحرب تعربد بكل قوة. خلال تلك اللحظات؛ تبلغت غرفة العمليات، بانفجار آلاف القنابل والقذائف على امتداد الخط الجنوبى (بارليف) بأسره، وفى عمق المناطق التى تحتفظ بها قوات الجيش الإسرائيلى بآلياتها (الاحتياطى الاستراتيجي). وعندما انطلق فوج الطائرات الأول يشق عنان الفضاء، فى هذه الأثناء شنت هجوما على مطار ومراكز اللاسلكى فى شرم الشيخ، وقصفت طائرات أخرى أبو رديس، وكانت المنطقة المشرفة على مضائق تيران، أحد الأهداف الأولى للهجوم الجوى المصرى.
بدأت أجهزة اللاسلكى من جميع انحاء الجبهة تصفر بذعر، ووصلت التقارير من جميع التحصينات: المصريون يعبرون القناة، أعداد غفيرة من الجنود، مئات القوارب المطاطية والمصنوعة من الألياف الزجاجية. ومن مدارج العبور فى الجانب الغربى من القناة، بدأت المفارز ترسل المركبات المصفحة على العوامات إلى الشرق. وعبر صفحات عديدة ذهب كتاب »التقصير«؛ إلى وصف وقائع الهجوم على خط بارليف ونقاطه الحصينة، من خلال شهادات الجنود الإسرائيليين الموجودين هناك والتى عبرت جميعها عن حالة صدمة مروعة، مصحوبة بذهول مما يجرى. وختم هذا الجزء من الفصل بالقول: هكذا دهمت اللحظات الأولى من حرب الغفران خط بارليف والمقاتلين فيه، وقد فوجئوا تماما، وعلى الرغم من الأنباء المتقطعة التى وصلت من قيادتهم حول أمر وشيك الوقوع، ورغم الأوامر بالتأهب “لامتصاص الضربة الأولى”، تم الاستيلاء على الخط بأسره بمفاجأة مطلقة.
عندما اتضح مع القصف المكثف على التحصينات؛ أن المصريين بدأوا العبور، وأنهم ينقلون وحدات محمولة إلى عمق سيناء، أرسلت الدبابات إلى الخطوط الأمامية لتعزيز التحصينات واحتلال مواقع اطلاق النار على امتداد القناة. وهنا كانت تنتظرهم مفاجأة أخرى غير مفاجأة بدء الحرب نفسها، لم يستطيعوا الاقتراب من خط المياه. بينما كانوا على بعد بضع مئات من الأمتار عن الحاجز الترابى على امتداد القناة، أصيب الكثيرون منهم، ولم يعرفوا مما أصيبوا. لاحقا أدركوا أنها من قواعد اطلاق الصواريخ التى أقامها المصريون غرب القناة، وأطلقت نحو الدبابات الإسرائيلية التى هرولت نحو القناة، مئات كثيرة من الصواريخ الجديدة المضادة للدبابات من طراز “ساغر”. بعد دقائق قليلة اطلقت نحوهم أيضا الصواريخ نفسها، ولكن من الجانب الشرقى للقناة هذه المرة، حيث تمركز عشرات الآلاف من الجنود المصريين الذين عبروا القناة، ولم يكن رجال المدرعات مزودين بالتوجيهات، ولم يكونوا مستعدين لمواجهة احتمال أن يجرى لهم مثل هذا الاستقبال.
ينقل كتاب “التقصير” شهادة حية؛ لأحد الجنود من سرايا المدرعات الإسرائيلية، يذكر فيها تفاصيل دقيقة للغاية لما كان يجرى فى القتال المتلاحم بين الجيشين. ألغيت جميع الاجازات فى سرية المدرعات التابع لها الجندى “باروخ (باري) شمير”، قبل يومين من بدء الحرب، واتخذت مواقعها فى القطاع الأوسط من القناة، على مسافة 7 كم من خط المياه. كانت معظم سرايا الدبابات فى سيناء منتشرة كسريته فى الخط الثانى، والآن كلفت بالوصول إلى خط المياه فى المناطق المخصصة للعبور، لمنع إقامة رءوس جسور، أو عرقلة خطوات المصريين الأولى على الأقل. بارى رجل مدرعات فى الخدمة النظامية منذ سنة ونصف السنة، ويعمل “ملقم ذخيرة” فى دبابة قائد السرية. على بعد 400 متر من البحيرة المرة الصغيرة بمحاذاة القناة، توقفت دبابته وبدأت تطلق النار. اطمأن المقاتلون فى الدبابة عندما لاحظوا أن الأهداف التى تواجههم هم “رجال المشاة”، وليست المدرعات المصرية. كان هذا بالنسبة إليهم حقيقة مفاجئة ومطمئنة، حيث قال أحد رجال المدرعات “لقد بدا لى هذا وكأنه انتحار من جانبهم”. قال بارى: علمونا فى المدرسة أن الدبابة هى المشكلة، دبابة العدو (هدف أول). والمدافع المضادة للدبابات (الهدف الثاني)، وبعد ذلك تطلق النار على سلاح المشاة. خلال ربع ساعة غيرت دبابة القائد ثلاثة مراكز، لم ينتبه بارى لما يحدث، كان منهمكا بإلقاء قذائف مدفع الدبابة الفارغة إلى الخارج، عندما شعر فجأة بدبابتهم تشتعل.
روى الجندى باروخ شمير (باري) بعد ذلك، نظرت حولى فشاهدت قذائف نارية مشتعلة، ترقص فى الجو، وهى فى طريقها إلى دباباتنا القريبة منى، لم أفهم بعد ماذا يحدث. ولكنى فهمت فى وقت لاحق أن هذه صواريخ، وأن سلاح المشاة الواقف أمامنا لا يقل خطورة عن الدبابات، التى لم نرها أبدا. لم يكن حظ الدبابات الأخرى فى السرية بأوفر من حظنا، فعندما نظرنا من خلف التلال الرملية، شاهدنا مشاعل محترقة، كانت هذه فيما مضى، دبابات السرية.
نقلاً عن الأهرام
المدير العام المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية