فى زلة لسان تعكس فعليا ما يخالج العقل، قالت المتحدثة باسم رئاسة الوزراء الإسرائيلية فى لقاء صحفى، إن إسرائيل لا تستهدف سوى المدنيين فى غزة. على الرغم من ان المتحدثة تداركت خطأها واعتبرت أنهم يستهدفون الإرهابيين بالطبع، لكن ذلك لا يغير من واقع الحال شيئا، فإسرائيل، فى حربها التى أكملت شهرها الأول، تقتل المدنيين بلا هوادة. أكثر من ذلك، ذهب أحد وزراء حكومة نيتانياهو الى القول بأن إلقاء قنبلة نووية على غزة هو حل ممكن، معتبرا أن قطاع غزة يجب ألا يبقى على وجه الأرض، وعلى إسرائيل إعادة إقامة المستوطنات فيه.
هذه التصريحات الإسرائيلية، وإن اعتبرها البعض صادمة وغير مسئولة، لكنها لا تختلف شيئا عما يدور فى أرض الواقع. منذ بدء هذه الحرب، بلغ عدد القتلى فى صفوف المدنيين الفلسطينيين أكثر من 10 الاف قتيل، 40% منهم أطفال، بمعدل مقتل او إصابة أكثر من 400 طفل يوميا. بذلك تحولت غزة الى مقبرة للأطفال دون ان يتحرك للعالم جفن. والى حدود كتابة هذا المقال، تجاوزت كمية المتفجرات التى ألقاها الاحتلال على غزة25 ألف طن (أزيد من 10 آلاف قنبلة)، وهو ما يعادل مرتين القنبلة النووية التى ألقيت على هيروشيما خلال الحرب العالمية الثانية. كما استخدم جيش الاحتلال أسلحة محرمة دوليا من بينها الفسفور الأبيض.
من خلال هذه المجازر والوحشية المرتكبة فى حق أطفال ونساء ومسنين ومدنيين عزل، لا تحاول إسرائيل فقط تصدير الرعب والفزع فى نفوس الفلسطينيين، لخلق حالة من الضغط الشعبى على المقاومة الفلسطينية من أجل الاستسلام. اسرائيل تريد فعلا إبادة سكان غزة بالكامل، من خلال عمليات عسكرية جوية وبرية بحرية ممنهجة تنطلق من الشمال وتتجه نحو الجنوب، حيث يقطن نحو 1.8 مليون نسمة بكثافة تقترب من 10 آلاف شخص لكل كيلومتر مربع.
إذا علمنا أن قطاع غزة المحاصر منذ 2007، تبلغ مساحته 360 كيلومترا مربعا، ويقطنه 2.3 مليون شخص محاصرين بداخله، فهذا يعنى ان كل تقدم عسكرى إضافى لجيش الاحتلال سيضعف من فرص المدنيين فى الفرار. ومع استمرار الحرب، سيجد الغزاويون أنفسهم اما فى عداد القتلى أو منفيين ومهجرين، وهذا ما تريده إسرائيل وتخطط له، متخذة من تدمير حماس ذريعة لمحاولة تنفيذ مخططها.
محاولة إسرائيل هذه ستنتهى لا محالة بالفشل- وان كانت التكلفة فى الأرواح ستكون عالية جدا- لعدة عوامل أهمها:أولا، بدء سحب الدعم الدبلوماسى الغربى تدريجيا من حكومة نيتانياهو بعد 30 يوما من حربه المدمرة وقتله آلاف الأبرياء واستهدافه المستشفيات والمدارس ودور العبادة ومراكز اللاجئين. وقد بدأ فعلا ضغط الحلفاء يتزايد على تل أبيب لدفعها للقبول بهدنة إنسانية طالب بها الرئيس الأمريكى الذى أدان ما اعتبره المأساة التى يتعرض لها سكان غزة.
هذا التحول فى الموقف الأمريكى مرده أساسا الضغوط المتزايدة من الناخبين المسلمين الأمريكيين وغيرهم ممن أعربوا عن نيتهم الامتناع عن التصويت فى انتخابات 2024، بسبب الدعم القوى الذى يقدمه بايدن لإسرائيل فى عقب حرب غزة. وهو نفس الضغط الذى تمارسه الشعوب الغربية على حكوماتها الداعمة لسياسات إسرائيل وصمتها على انتهاكاتها وجرائمها فى غزة.
ثانيا، محاولة إبادة الغزاويين وتهجير ما تبقى منهم الى دول الجوار يعنى اعتماد استراتيجية حرب تقوم على تنفيذ مذابح مباشرة ودفع المواطنين الى التجمع فى رقعة جغرافية ضيقة، ومن ثم الضغط على الدول الحدودية لاستقبالهم. هذا فعليا ما يحاول الجيش الإسرائيلى القيام به، لكنه سيضطر بالنهاية للعودة للخلف لكون هذا النوع من العمليات لا يتناسب مع عصرنا الحالى، وأيضا لكون الدول المجاورة لن تقبل به.أيضا، لن تستطيع الحكومة الإسرائيلية مواجهة السيطرة على الأحداث السياسية التى يمكن ان تنجم عنه.
أول هذه الاحداث هو تراجع الدعم الشعبى الغربى لإسرائيل وكشف أكذوبة سردياتها مقابل الدفاع المتزايد عن حقوق الفلسطينيين.أيضا ازدياد الأعمال المناهضة لليهود بنسبة غير مسبوقة إذ وصلت الدعوات عبر الإنترنت للعنف ضد إسرائيل والصهاينة واليهود الى 1200%، وفق تقارير. كما سجلت بعض الدول أعمال عنف وطعن ضد يهود.
كل يوم إضافى فى هذه الحرب إسرائيل تخسر عسكريا، دبلوماسيا، سياسيا، اقتصاديا وشعبيا. ولأنها لا تتوافر على استراتيجية خروج، فمن المتوقع ان تسعى على الأقل لهزيمة حماس، بدل فكرة تدميرها، من خلال استمرار العملية العسكرية واستمرار استهداف المدنيين لمحاولة اخضاع المقاومة لعملية تفاوض بخصوص الاسرى بأقل شروط ممكنة.