فى ظل التطورات المتسارعة فى سوريا وتغير موازين القوى، يطرح مصير الوجود العسكرى الروسى فى البلاد تساؤلات عديدة بين احتمال انسحاب جزئى او كلى، او إعادة هيكلة هذا الوجود بما يخدم مصالح روسيا. هذه الأخيرة ضخت موارد عسكرية ضخمة فى سوريا خلال الثلاث عشرة سنة الأخيرة، مما استثار اهتمام الروس بالأحداث الدائرة فى هذه المنطقة الإستراتيجية، وتزايد هذا الاهتمام المصحوب بالقلق بعد سقوط الأسد، خاصة بعد ان صار مستقبل الوجود العسكرى الروسى فى شرق البحر الأبيض المتوسط غير واضح. فى وقت تتخذ فيه روسيا كافة الاحتياطات اللازمة لضمان أمن قواعدها العسكرية وبعثاتها الدبلوماسية فى سوريا، لا يزال من غير الواضح ما اذا كان سحب قواتها من خطوط المواجهة فى شمال سوريا ومن مواقع فى جبال الساحل هو انسحاب تدريجى، ام ان موسكو تهدف الى إعادة التجمع والانتشار وفقا لما تقتضيه التطورات على الأرض. الى حين تتضح الرؤية، يمكن القول ان هذه التحركات تأتى كتكتيك احترازى لضمان عدم تعرض السفن لأى هجوم محتمل، سواء من قبل قوات المعارضة السورية أو لتفادى أى أضرار جانبية قد تنتج عن أى ضربة إسرائيلية على أهداف سورية فى طرطوس. اما عن مستقبل الوجود الروسى، فقد أفاد أبو محمد الجولانى (أحمد الشرع) بأن إدارة العمليات حاولت موازنة الأمور مع الروس أثناء المعارك، موضحا ان الإدارة العسكرية أرسلت إلى روسيا رسائل عبر وسطاء بأن ضرب قواعدها وارد، لكنها تفضل إعطاء فرصة للطرفين من أجل بناء علاقة جديدة. وبينما ترى الإدارة السورية المؤقتة بأن الوجود العسكرى الروسى والاتفاقيات السابقة بين حكومة الأسد وموسكو ليست قيد المناقشة حاليا، فإنها لا تخفى نيتها إجراء محادثات مستقبلية تقول ان الشعب السورى سيكون له القول الفصل فيها. بهذا الخصوص، أكدت تقارير أمريكية أن ثمة محادثات بين روسيا وهيئة تحرير الشام بشأن قاعدة حميميم الجوية والميناء البحرى فى طرطوس. كما تفيد تصريحات مسئولين روس بأن وزارة الدفاع الروسية لديها تفاهم غير رسمى مع هيئة تحرير الشام، بأنها تستطيع البقاء فى القواعد السورية. أهمية سوريا بالنسبة لروسيا تكمن أساسا فى قاعدتى طرطوس وحميميم. بالنسبة لقاعدة طرطوس، هى تضم قطعا من أسطول البحر الأسود، وهى المركز الوحيد للإصلاح والتجديد لروسيا فى البحر الأبيض المتوسط. وقد أنشأ الاتحاد السوفيتى هذه القاعدة فى سبعينيات القرن العشرين، ثم قامت روسيا بتوسيعها وتحديثها فى 2012 عندما بدأ الكرملين فى زيادة دعمه لنظام الأسد. وتساعد هذه القاعدة السفن الروسية على البقاء فى البحر الأبيض المتوسط دون الحاجة إلى العودة إلى الموانئ فى البحر الأسود عبر المضايق التركية، كما أنها ميناء عميق المياه، مما يشير إلى أنه صالح لوجود غواصات من الأسطول النووى الروسى أيضا. اما قاعدة حميميم الجوية، فتعتبر منذ عام 2015 جزءا رئيسيا من العمليات الروسية فى مختلف أنحاء الشرق الأوسط وإفريقيا. تساهم هاتان القاعدتان فى إبراز قوة روسيا العسكرية فى الشرق الأوسط وإفريقيا، (ليبيا والسودان وغيرهما). وتستخدم موسكو هذه القواعد لإرسال أفراد وإمدادات عسكرية إلى مالى وبوركينا فاسو والنيجر، من أجل تعزيز نفوذها وحضورها فى هذه الدول، ولمواجهة الدورين الأمريكى والأوروبى ومحاصرتهما هناك. فى حال تعثرت التفاهمات والمفاوضات مع الإدارة السورية الجديدة، وفى حال اضطرت روسيا إلى إغلاق القاعدة البحرية فى طرطوس، او إعادة هيكلة مواقعها فى سوريا، سيؤثر ذلك بالتأكيد على النفوذ الروسى فى سوريا كما سيؤثر على عملياتها ودورها وحضورها فى إفريقيا، سواء فيما يتعلق بالعمليات الإستراتيجية والإمداد والدعم اللوجستيين، والوصول السريع والآمن. وهو ذات التأثير إذا ما خرجت الأوضاع فى سوريا عن السيطرة او تعثر مسارها الديمقراطى او انتهى بها الوضع الى التقسيم او الفوضى كما حدث فى العراق او ليبيا. لمواجهة هذا السيناريو، استعدت روسيا استراتيجيا لهذه اللحظة من خلال تجهيزها لبدائل فى المنطقة، ومنها ليبيا. صحيح لن تمنح ليبيا نفس الموقع والنفوذ الذى كانت تتمتع به روسيا داخل سوريا، لكنها تضع لها موطئ قدم على البحر الأبيض المتوسط ونقطة انطلاقة نحو افريقيا. فى هذه الحالة ايضا سيكون امام موسكو تحديات اخرى، اولها الحضور التركى فى ليبيا، وعدم الاستقرار والتوازنات الداخلية فى ليبيا، ثم المنافسة الامريكية فى إفريقيا والتى ستسعى لتحييد الدور الروسي. موازين القوى فى المنطقة تتغير بشكل كامل، ويبدو ان القوى الدولية والإقليمية مستعدة بشكل جيد للدفاع عن مصالحها ونفوذها، يبقى ان تستوعب الإدارة السورية الجديدة قواعد اللعبة ودروسها السابقة وتنخرط فعليا فى الدفاع عن وحدة ومصالح واستقرار سوريا.
مستقبل الوجود الروسى فى سوريا
وقت القراءة: 5 دقيقة
استمع للمقال
تابعنا
تابعنا علي وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة