شهدت العلاقات الأوروبية – الأمريكية توترات فى فترة حكم ترامب السابقة، بسبب، أولا، مطالبة دول الناتو، بالوصول إلى تخصيص 2% من الناتج الإجمالى المحلى على موازنات الدفاع. ثانيا، بسبب توازن مصالح طرفى التحالف الاقتصادى -التجارى. واليوم، مع عودة دونالد ترامب الى البيت الأبيض، يعود الحديث عن مستقبل هذه العلاقات الى الواجهة، وهذه المرة فى ظل وجود ثلاثة تحديات رئيسية تتعلق بالحرب فى أوكرانيا، التزام الولايات المتحدة داخل حلف الناتو، ثم العلاقات الاقتصادية.
لا شك ان نسخة ترامب 2024 هى اقوى مما كان عليه فى فترة 2016-2020، فى وقت تعتبر أوروبا حاليا اكثر ضعفا واكثر عرضة للمخاطر مما كانت عليه، خاصة بعد الحرب الروسية الأوكرانية فى 2022. خلال حملته الانتخابية، أكد ترامب عزمه على مواصلة سياساته الانعزالية تحت شعار «أمريكا أولا». وقد اثار اختياره لوزير الدفاع بيت هيغسيث، قلق قادة اوروبا، بسبب توجهاته التى لا تختلف كثيرا عن توجهات ترامب خاصة فيما يتعلق بشكوكه فى جدوى الناتو والتعهدات الأمريكية فى الدفاع عن القارة الأوروبية.
فيما يتعلق بالملف الاوكرانى، انتقد ترامب، فى أكثر من مناسبة، النهج الأمريكى تجاه الصراع فى أوكرانيا، ووصف فلاديمير زيلينسكى عدة مرات بـ«البائع المتجول» و«أفضل مساوم بالعالم»، معتبرا أنه كان يغادر امريكا بعد زياراته محملا بمليارات الدولارات. وخلال حملته الانتخابية، وعد الرئيس المنتخب بأنه سيحقق تسوية فى النزاع فى أوكرانيا خلال يوم واحد فقط، كما اكد أنه لن يدفع مليما واحدا لأوكرانيا إذا فاز فى الانتخابات، مفضلا السعى إلى «اتفاق سلام» من خلال المفاوضات مع الرئيس الروسى.
من المحتمل أن يجبر مثل هذا الاتفاق أوكرانيا على تقديم تنازلات كبيرة، لا سيما التنازل عن الأقاليم الشرقية من أراضيها، مما قد يؤدى إلى تفاقم حدة التهديد الروسى لأوروبا. لتفادى هذا السيناريو، أعلن حلف ناتو، الصيف الماضى، إنشاء بعثة المساعدة والتدريب لأمن اوكرانيا، لتنسيق تدريب القوات الأوكرانية وتوريد المعدات العسكرية إليها دون الاعتماد على الولايات المتحدة. كما أكد مساعد وزير الخارجية لشئون أوروبا وأوراسيا، ان بايدن سيفى بالأموال التى خصصها الكونجرس الأمريكى لأوكرانيا (والتى بلغ قدرها الاجمالى 175 مليار دولار منها 106 مليارات مخصصة مباشرة للحكومة الأوكرانية) قبل نهاية فترة ولايته. ومع ذلك من المحتمل الا يغير ذلك كثيرا من طبيعة الاتفاق الذى يسعى إليه ترامب.
فيما يتعلق بالتهديد بالانسحاب الأمريكى من حلف ناتو، قامت بعض الدول الأوروبية فى السنوات الأخيرة بتعزيز قدراتها الدفاعية، كما زادت من إنفاقها الدفاعى وطورت إنتاجها المحلى من الأسلحة. واستطاع 23 عضوا فى الناتو، من بين 32، الالتزام بالهدف المتمثل فى إنفاق 2% من ناتجهم المحلى الإجمالى على ميزانيات الدفاع، فى وقت كان هناك ثلاثة فقط من أعضاء التحالف الذين احترموا هذه النسبة، خلال فترة ترامب الأولى. ومع ذلك، لا يزال هذا الأخير غير مقتنع، قد صرح فى احد المؤتمرات الانتخابية بأنه سيسمح لروسيا «بفعل ما تريد» بدول الناتو التى لم تصل إلى هذه العتبة.
صحيح ترامب لن يستطيع الانسحاب بشكل رسمى وأحادى من الناتو، خاصة بعد صدور قانون امريكى، العام الماضى، يشترط موافقة مجلس الشيوخ على مثل هذا القرار، الا انه سيبقى قادرا على التشكيك فى قاعدة التحالف التى تقول الدفاع المتبادل، وبالتالى فهو قادر على إعلان عدم التزام أمريكا بالدفاع عن دول الحلف.
لتفادى هذا التهديد، دعا ممثل الاتحاد الأوروبى للشئون الخارجية والسياسية والأمنية، القادة الأوروبيين إلى تحمل المسئولية عن أنفسهم وعدم الاعتماد على مزاج الانتخابات الأمريكية كل 4 أعوام، كما شدد على ضرورة تعزيز ميزانية الدفاع فى دول الاتحاد الأوروبي. مع ذلك، يبدو الوضع اكثر تعقيدا، وستكون أوروبا فعلا فى ورطة اذا أعلنت أمريكا عدم التزامها بالدفاع.
التحدى الثالث فى العلاقات بين الطرفين يتمثل فى تعهد ترامب بفرض الضرائب والرسوم الجمركية لخفض العجز فى الميزان التجارى الأمريكى، وحماية الصناعات الامريكية من منافسة السلع المستوردة. من المتوقع ان تصل هذه الرسوم الى 10% على الصادرات الأوروبية. هذا الوضع يمكن أن يؤدى إلى حرب تجارية ستحاول اوروبا مواجهتها من خلال السعى الى إعادة تفعيل القدرة التنافسية الاقتصادية لدول الاتحاد من خلال الوصول الى استراتيجية جديدة وجدول زمنى لتعزيز الاقتصاد الأوروبي. كما انها ستحاول التعامل بالمثل لإجبار ترامب على العودة إلى طاولة المفاوضات.
بهذا الخصوص، يبدو ان الأولوية القصوى لدول الاتحاد هو تجنب اندلاع حرب تجارية مع الولايات المتحدة، لأن مثل ذلك، وفق مسئولين اوروبيين لن يفيد أحدا، بل سيضر بجميع الاقتصادات.