يمكن اعتبار أن نتائج المرحلة الأولى للثورة الفلسطينية الكبرى 1936؛ بدت مخيبة للآمال إلى حد كبير بالنسبة لـ«اللجان الوطنية» التى أدارت أنشطة الثورة وفاعلياتها. فقد وجدت نفسها تصطدم بقسوة أمام هذا الاحتواء البريطانى المدروس لتداعيات ما جرى، خلال 1936 والنصف الأول من 1937، فالخبرة الاستعمارية البريطانية كان لديها من التراكم الفعال فى إدارة أحداث مشابهة فى بلدان وساحات أخرى، مكنها من تطبيق نموذج «القمع والتفريغ» على الحالة الفلسطينية رغم خصوصية المشهد الفلسطيني. فالأخير لم يكن ساحة استعمار تقليدية.. بريطانى فلسطينى خالصة، فهناك مكون ثالث «إسرائيلي» تجرى الأحداث بسببه فى المقام الأول وخدمة لمشروع تمكينه وزرعه قسريا، على الأرض تحت جلد «الانتداب» الغليظ.
«لجنة بيل» المشكلة من قبل الحكومة البريطانية؛ أرسلت إلى فلسطين لتصبح اللجنة الثالثة التى تمارس ذات المهمة تقريبا، خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي. كانت تلك اللجان تسمى «لجان تقصى الحقائق»، وكان أعضاؤها يمضون عدة شهور فى فلسطين، يجرون خلالها مقابلات مع مسئولين بريطانيين يعملون فى فلسطين، فضلا عن شخصيات قيادية فى المجتمعَين الفلسطينى واليهودى، لتقوم فى نهاية المطاف برفع تقريرها إلى الحكومة ومجلس العموم البريطاني. لجنة بيل التى وصلت فلسطين فى الأسبوع الأول من نوفمبر 1936؛ تعد الأخطر من تلك اللجان، لأنها أوصت بتقسيم فلسطين إلى دولتين. اللورد بيل الذى ترأس اللجنة كان قد شغل منصب وزير شئون الهند أول عشرينيات القرن الماضى، كما ضمت اللجنة شخصيات تعتبرهم الحكومة البريطانية «خبراء» فى إدارة شئون المستعمرات، منهم «لورى هاموند» الذى عمل رئيس لجنة ترسيم الحدود الهندية عامى 1935 و1936، و«موريس كارتر» رئيس لجنة أراضى كينيا خلال 1932 و1933، والدبلوماسى السابق فى كل من القاهرة وطهران «هوراسرامبولد»، والأكاديمى البارز واستاذ التاريخ الاستعمارى بجامعة أكسفورد «ريجينالدكوبلاند» الذى كانت بريطانيا تعتبره حينذاك أهم خبير بالشئون الإفريقية.
المهمة الرسمية التى تحددت لتلك الزمرة المثيرة من خبراء الاستعمار البريطاني؛ قبل مغادرتهم لندن، تحددت بدقة كما جاء فى احدى الوثائق البريطانية على هذا النحو: «التثبت من الأسباب الكامنة وراء الاضطرابات التى اندلعت فى فلسطين فى أواسط أبريل؛ والتحقيق فى كيفية تنفيذ صك الانتداب على البلد، نظرا إلى التزامات الدولة المنتدبة نحو العرب واليهود.والتثبت بعد تفسير نصوص الانتداب تفسيرا صحيحا، مما إذا كان لدى العرب أو لدى اليهود أى مظالم مشروعة ناجمة عن الطريقة التى اتبعت فيما مضى، أو التى تتبع الآن، فى تنفيذ الانتداب. وفى حال اقتنعت اللجنة بأن أيا من هذه المظالم له ما يبرره، ترفع التوصيات من أجل إزالتها ومنع تكرارها». وتكشف محاضر الشهادات التى تلقتها اللجنة حينها، بأن المفوضين أعضاء اللجنة تجاوزوا حدود صلاحياتهم الواردة بخطاب المهمة، حيث بدا انحيازهم المسبق لفكرة «التقسيم» مما جعلهم منذ البداية تقريبا، يطرحون سؤال إمكانية قبولها على معظم الشهود، كما جاء فى المحاضر التى ظلت سرية قبل الإفصاح عنها مؤخرا.
«اللجنة العربية العليا» التى تشكلت عام 1936 من رحم الثورة الفلسطينية الكبرى، وباتت الممثل الرسمى للشعب الفلسطينى، أعلنت أنها لن تتقدم للشهادة أمام «لجنة بيل» ما لم يتم تعليق الهجرة اليهودية، على الأقل خلال مهمة عمل اللجنة ولحين صدور تقريرها النهائي. لكن الحكومة البريطانية لم تستجب لهذا المطلب فقامت اللجنة العربية بمقاطعة عمل لجنة التحقيق، قبل أن تتعرض لضغوط من بعض الملوك العرب لتتقدم فى يناير 1937 بشهادتها بواسطة شخصيات قيادية من أعضائها. يذكر منهم «محمد أمين الحسيني» و«عونى عبدالهادي» و«محمد عزة دروزة» و«جمال الحسيني»، وهذه الشهادات منشورة وتوضح بشكل كبير كيف بذلت القيادات الفلسطينية كل ما فى وسعهم لتقديم حجج مفصلة ودقيقة، فى سبيل إثبات حقوقهم. لكن الشهادات فى الوقت نفسه؛ توضح مدى قلة ثقتهم بالتزام بريطانيا المفترض بـ«المعاملة العادلة»، بحسب نص المصطلح الذى تكرر على ألسنتهم جميعا مرات عديدة، حيث أعربوا فى شهاداتهم أن انعدام الثقة ناجم عن حقيقة أن توصيات لجان التحقيق البريطانية السابقة، لم تؤد إلى رد الظلم الأساسى للحكم البريطانى فى فلسطين وفق صيغة الانتداب، ولم تتعامل مع المشكلة اليهودية بما تستحقه من حسم، كما بدا أن هناك رغبة بريطانية غير معلنة لتجاوز مسألة الحفاظ على الحقوق العربية التاريخية الثابتة.
على الجانب الآخر ونقيض ذلك، قدم القادة الصهيونيون شهادات غزيرة فى الجلسات السرية للجنة، كما أن المسئولين البريطانيين بحكومة الانتداب فى فلسطين بمختلف مراتبهم، أدلوا بشهادات سرية وتصورات تفصيلية، للدفع بفكرة «التقسيم» كى يجرى تضمينها بالتقرير النهائى للجنة، باعتباره الحل الوحيد القابل للتطبيق من أجل نزع فتيل الصراع بين العرب واليهود فى فلسطين. واعتبرت «لجنة بيل» هى الأخطر فى جميع اللجان البريطانية؛ كونها أول هيئة سياسية بريطانية رسمية تقر فكرة قيام «دولة يهودية» فى فلسطين، بدلا من الوعدبـ«وطن قومي» يهودى الذى يبدو أمام التطور الذى أحدثته اللجنة أكثر محدودية. فى السابع من يوليو 1937 نشر التقرير النهائي؛ جاءت التوصية بالتقسيم بصورة موجزة فى آخره، مع خريطة مرفقة. والثابت أن اللجنة قامت باستشارة الوكالة اليهودية والمنظمة الصهيونية بشأن الحدود المرسومة فى الخريطة قبل إصدار التقرير، الأمر الذى مكنهما من إقناع البريطانيين بإدراج مناطق محددة ذات أهمية كبيرة ضمن حدود الدولة اليهودية. وكان التقرير تفصيليا فى رسم الفكرة؛ لحد إدراجه توصية بترحيل أكثر من (200 ألف) فلسطينى من منازلهم فى مناطق بعينها، لإفساح المجال أمام قيام «الدولة اليهودية» الجديدة!.
المدير العام المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية