يعاني القرن الأفريقي أزمات هيكلية مركبة متمثلة في الصراعات السياسية، والخلافات الإثنية والعرقية والنزاعات الحدودية، فضلًا عن الهشاشة الأمنية، وهو ما يخلق بيئة حاضنة لتمدد وانتشار التنظيمات الإرهابية، ولا سيما تنظيمي “الشباب الصومالي” و”داعش”، حيث يسعى التنظيمان إلى توسيع مساحات العمل وجغرافيا الانتشار، الأمر الذي يستدعي تحليل هذا المشهد المتشابك عبر استعراض فواعله الأساسية، وسياقه الحالي، وتداعياته المستقبلية.
مشهد متشابك
تشهد عدد من دول القرن الأفريقي تناميًا لنشاط التنظيمات الإرهابية، ويأتي على رأس هذه التنظيمات حركة الشباب الصومالية التي تعد التنظيم الإرهابي المسلح الأكبر والأقوى في الصومال. ويقودها في الوقت الحالي “أحمد عمر” المعروف أيضًا باسم “أبو عبيدة الصومالي”، وتدين بالولاء لتنظيم “القاعدة” منذ عام 2012. تشكلت الحركة في عام 2002 وتبلور نشاطها في عام 2006؛ حيث تم الإعلان عنها بصفتها “الذراع العسكري” لاتحاد المحاكم الإسلامية، الذي كان يسيطر على العاصمة الصومالية “مقديشيو” آنذاك، غير أنها أعلنت انشقاقها عنه في عام 2007، بعد تحالفه مع المعارضة الصومالية.
مرت الحركة بمراحل تراجع في فترات مختلفة، لكنها نجحت في فرض نفسها كفاعل رئيسي في الصومال من خلال سيطرتها على مناطق عدة في الوسط والجنوب، كما امتد نشاطها إلى بعض البلدان المجاورة مثل إثيوبيا وكينيا. وقدّر تقرير أممي صادر في يناير الماضي عدد عناصرها بنحو 7000 إلى 12000 عنصر، ولفت إلى بلوغ حجم إيراداتها نحو 100 مليون دولار سنويًا من الإتاوات، وعمليات القرصنة، فضلًا عن ارتباطها بعصابات الجريمة المنظمة.
وأعلن الرئيس الصومالي “حسن شيخ محمود” في عام 2022 عن شن حرب شاملة على الحركة تستهدف نفوذها، حيث بدأت الحكومة الصومالية حملة عسكرية ضدها؛ مما أسفر عن تكبدها خسائر فادحة على خلفية الغارات الجوية ضد قياداتها وعناصرها، لكنها لا تزال صامدة وقادرة على تنفيذ هجمات واسعة.
وفي سياق موازٍ، شهدت الصومال أيضًا صعودًا لتنظيم “داعش” في أكتوبر 2015، بقيادة “عبد القادر مؤمن” بعد انشقاقه عن حركة الشباب، وتمركز نشاطه في ولاية بونتلاند شمال شرق الصومال، وعزز التنظيم صفوفه بعد انضمام منشقين آخرين عن حركة “الشباب”، ولفت تقرير أممي صدر في يوليو 2023، إلى أن التنظيم يضم ما بين 100 إلى 200 عنصر، ووفقًا لتقرير أممي آخر في فبراير 2023 حقق التنظيم نحو 100 ألف دولار شهريًا من خلال الضرائب غير المشروعة.
ولا يملك تنظيم “داعش” القدرة على السيطرة على مساحات واسعة أو تنفيذ عمليات كبيرة بسبب استمرار هجمات حركة “الشباب”، فيما يخضع نشاطه إلى مكتب “الكرار” المسئول عن الصومال وموزمبيق والكونغو الديمقراطية. (مكتب الكرار أحد المكاتب الإقليمية الخاصة بتنظيم “داعش” المختصة بالتواصل والتنسيق بين القيادة المركزية للتنظيم وولاياته المختلفة).
وقد نجح “بلال السوداني”، الذي قُتِل في عملية نفذتها القوات الأمريكية بشمال الصومال في يناير 2023 وكان المسئول عن توسيع نشاط التنظيم في أفريقيا، في تكوين شبكة تضم مقاتلين متمرسين وشخصيات لها صلة بشبكات الجريمة المنظمة يتم توظيفها من أجل تعزيز نشاط “داعش” في المنطقة، ومن المرجح أن يؤثر مقتله في الأهداف الاستراتيجية لهذه الشبكة.
وفي سياق ثالث، شهدت الساحة الصومالية احتدام الصراع بين كل من حركة “الشباب” وتنظيم “داعش” منذ ظهوره في الصومال، على خلفية قيامه باستقطاب عناصر من الأولى، معولًا في ذلك على جاذبية الفكر الداعشي من ناحية، وعلى الانقسامات التي تقع داخل الأولى من ناحية أخرى. إذ تدرك حركة “الشباب” أن هدف “داعش” ليس مقتصرًا على الحضور في الأراضي الصومالية فقط، بل يطمح في إقامة ولاية داعشية، عبر التمدد في مناطق سيطرتها، الأمر الذي اعتبرته تهديدًا واضحًا لنفوذها. حيث تتركز الأسباب الرئيسية في الصراع بينهما حول الهيمنة ومصادر التمويل والدعم المالي واللوجستي.
سياق مضطرب
يأتي نشاط التنظيمات الإرهابية في منطقة القرن الأفريقي في سياق شديد الاضطراب مرتبط بالتحديات التي تواجهها الدولة الصومالية من ناحية، فضلًا عن التحديات التي يشهدها الإقليم من ناحية أخرى، ويمكن استعراض أبرز ملامحه على النحو التالي:
إشكالية الدولة الصومالية: تتسم الدولة الصومالية بعدد من التحديات الهيكلية التي تنصرف إلى تقويض قدرتها على التعاطي مع الأزمات الأمنية والسياسية التي تواجهها، نتيجة لضعف مؤسساتها الرسمية فضلًا عن تراجع كفاءتها التنظيمية والتوزيعية التي تمكنها من القيام بمهامها الأساسية.
إذ تشهد حالة من عدم الاستقرار السياسي على خلفية اعتماد صيغة المحاصصة العشائرية كآلية لتقاسم السلطة في البلاد، التي تمثل حافزًا رئيسًا لتنامي التمييز السياسي والإداري ضد الأقليات القبلية، ومن ثَمّ تتجدد النزاعات القبلية نتيجة لمطالبة بعض العشائر الفرعية بالمساواة مع العشائر الأخرى في التمثيل السياسي.
هذا إلى جانب التحديات التي تواجه النظام الفيدرالي الصومالي، نتيجة لعدم انسجام البنية الاجتماعية والثقافية للمجتمع الصومالي مع ديناميكيات النظام الفيدرالي، فضلًا عن غياب الأطر القانونية والدستورية التي ترسم محددات العلاقة بين الحكومة المركزية وبين حكومة الولايات، كذلك تنامي التقارب بين حكومات الأقاليم الصومالية وإثيوبيا.
وانعكس ذلك في توقيع مذكرة التفاهم بين إثيوبيا وحكومة أرض الصومال في يناير الماضي، بموجبها تتمتع أديس أبابا بالوصول إلى البحر الأحمر تمهيدًا لإقامة قاعدة بحرية تجارية، مقابل اعتراف الحكومة الإثيوبية بـ “أرض الصومال” كدولة مستقلة، وهو ما اعتبرته الحكومة المركزية الصومالية “انتهاكًا” لسيادة الصومال، واستغلته حركة “الشباب” عبر إطلاق حملة تجنيد واسعة مستفيدة من الغضب الصومالي إزاء هذه المذكرة.
الصراعات السياسية: تشهد منطقة القرن الأفريقي عددًا من الأزمات والصراعات السياسية التي تؤجج من حالة الاضطراب التي تشهدها الدول الواقعة في هذا النطاق الجغرافي، ويعد أحدث هذه الأزمات الصراع الحالي في السودان الذي اندلع في أبريل 2023 بين الجيش وقوات الدعم السريع، حيث اتسع نطاقه الجغرافي، وتعددت أبعاده، وتعقدت سياقاته، وتراجعت فرص تسويته على خلفية تعثر المسار الدبلوماسي. وفي هذا السياق، حذر تقرير صادر عن وكالات الاستخبارات الأمريكية في مارس الماضي من أن السودان يخاطر بأن يصبح بيئة “مثالية” للشبكات الإرهابية.
وارتباطًا بمشهد الصراعات السياسية في القرن الأفريقي، حري بالذكر تناول مشهد الصراع في إقليم تيجراى، الذي اندلع في نوفمبر 2020، على خلفية إعلان كلٍ من الحكومتين الفيدرالية في أديس أبابا والإقليمية في تيجراي أن الأخرى غير شرعية، وترتب على ذلك وقوع هجمات وحشية على المدنيين، ونزوح ملايين الأشخاص عن منازلهم، وهو ما انصرف إلى ارتدادات متعددة امتدت إلى دول الجوار الجغرافي. وبالرغم من توقيع اتفاق “بريتوريا” بين الجانبين في نوفمبر 2022 لوقف الأعمال العدائية، لكنه يظل هذا اتفاق هش نتيجة لوجود فرص ومحفزات لتجدد الصراع في الإقليم مرة أخرى.
الخلافات الإثنية والقبلية: ساهمت التركيبة الإثنية والقبلية المعقدة في منطقة القرن الأفريقي إلى تصاعد النزاعات والصراعات بين الدول، وفي هذا السياق، يمكن الإشارة إلى الصراع بين جماعات العفر والعيسى والذي تمحور بشكل رئيسي حول المياه والمراعي، وشهد جولات متعددة في ساحات جغرافية مختلفة كالصومال وجيبوتي وإثيوبيا، فضلًا عن الصراع العرقي في إثيوبيا على خلفية التمييز الذي عانت منه عرقية الأورومو من جانب عرقيات الأمهرة والتيجراي.
ناهيك عن استمرارالصراعات القبلية والعشائرية في الصومال التي تشكل مصدرًا رئيسيًا للتوتر الأمني، على خلفية محورية دور “العشيرية” كمحدد رئيسي للتفاعلات السياسية والاجتماعية في الدولة الصومالية. ومن ثَمّ تساهم الصراعات الإثنية والنزاعات القبلية والتباينات العرقية في تفاقم حالة عدم الاستقرار التي تنصرف إلى خلق بيئات حاضنة لتصاعد نشاط التنظيمات الإرهابية.
النزاعات الحدودية: تمثل النزاعات الحدودية بعدًا مهمًا في تفسير سياق منطقة القرن الأفريقي المضطرب، ويعد أبرزها، النزاع البحري بين الصومال وكينيا، حيث مثّل الرفض الكيني للقرار الصادر عن محكمة العدل الدولية في أكتوبر 2021، الذي يؤكد أحقية الصومال في السيادة على الجزء الأكبر من المنطقة البحرية المتنازع عليها في المحيط الهندي، مصدرًا محتملًا لتفجر الصراع من جديد.
كذلك النزاع الحدودي بين إثيوبيا والسودان على منطقة الفشقة، والذي شهد مراحل متعاقبة من التصعيد المسلح بين عامي 2020 و2022، حيث تصاعدت التوترات في السنوات الأخيرة على خلفية تداعيات الصراع الدائر في إقليم تيجراي شمالي إثيوبيا، وفرار الآلاف من النازحين إلى شرقي السودان، وتظل هناك فرصة لتجدده مرة أخرى لا سيما مع عدم وجود حل نهائي له.
كذا الصراع بين السودان وجنوب السودان حول منطقة أبيي، إذ ظلت هذه الأزمة عالقة دون حل بعد انفصال جنوب السودان عن السودان عام 2011؛ مما يترتب عليه تجدد التوترات من حين لآخر على خلفية عدم وجود تصور واضح لتسويتها.
تداعيات متعددة
ثمة تداعيات متعددة قد تنصرف إلى نشاط التنظيمات الإرهابية في سياق إقليم القرن الأفريقي المضطرب، والتي يمكن استعراضها على النحو التالي:
اتساق نطاق التهديد: يعكس المشهد سالف الذكر احتمالية اتساع نطاق الظاهرة الإرهابية وتمددها في المنطقة، لا سيما في ظل الوضع الأمني المضطرب الذي تعانيه القارة الأفريقية على وجه العموم، والقرن الأفريقي على وجه الخصوص، إذ يؤدي توسع العمليات الإرهابية إلى زيادة مستويات العنف الموجهة للمدنيين.
ووفقًا لمؤشر الإرهاب العالمي لعام 2024 احتلت حركة الشباب الصومالية المركز الرابع في تصنيف الجماعات الإرهابية الأكثر فتكًا خلال عام 2023، وبلغ عدد الوفيات الناجمة عن الإرهاب المنسوبة إليها نحو 499 حالة وفاة عام 2023، حيث وقع 86% من هذه الوفيات في الصومال و14% في كينيا.
تدفق المقاتلين الأجانب: قد يؤدي توسع النشاط الإرهابي في منطقة القرن الأفريقي إلى تدفق المقاتلين الأجانب بشكل متزايد، لا سيما في ضوء ما لفتت إليه تقارير عدة بشأن تدفق العديد من المقاتلين إلى القرن الأفريقي. وتكمن خطورة هؤلاء في جملة من العوامل الرئيسة؛ يتعلق أولها: بتعزيز قدرة التنظيمات الإرهابية على الصمود أمام الضغط الأمني.
وينصرف ثانيها: إلى تطوير استراتيجيات قتال تلك التنظيمات على المستويين العملياتي والتكتيكي، على خلفية الخبرات التي اكتسبها هؤلاء من مناطق الصراع المختلفة. ويتصل ثالثها: إلى تحول هؤلاء إلى حلقات وصل بين التنظيمات الإرهابية الداخلية والخارجية. ويدور رابعها: حول التوسع في استهداف المدنيين، إذ وجدت الدراسات الحديثة أن وجود مقاتلين أجانب في مناطق الصراعات قد يزيد من مستويات العنف ضد المدنيين بما في ذلك العنف الجنسي.
تهديد الأمن الإقليمي: لفتت العديد من التقارير إلى التنسيق الجاري بين إيران ووكلائها وحركة “الشباب”، إذ أفاد مسئولون كبار في الحكومة الصومالية، أن اهتمامات طهران بالقرن الأفريقي تتضمن إقامة علاقات سرية مع حركة “الشباب”، وذلك من أجل استخدام الصومال لنقل الأسلحة إلى الحوثيين في اليمن ونقل الأسلحة إلى دول أخرى مثل كينيا وتنزانيا وموزمبيق.
وفي السياق ذاته، كشفت المخابرات الأمريكية في يونيو الجاري عن مساعٍ لتسليح الحوثي في اليمن حركة “الشباب” لا سيما في ضوء استراتيجية التقارب مع إيران التي تنتهجها القيادة المركزية لتنظيم “القاعدة”، ومن ثَمّ يحمل هذا المشهد ارتدادات كبرى على الأمن الإقليمي، إذ إن التنسيق بينهما ينصرف إلى تصاعد التهديد في البحر الأحمر وخليج عدن.
تعاظم الارتباط بين الفواعل العنيفة: ظهرت أعمال القرصنة مرة أخرى قبيل السواحل الصومالية بعد تراجعها لسنوات، حيث هاجم قراصنة صوماليون في ديسمبر الماضي أربع سفن مستغلين نقل السفن الحربية الأمريكية من المحيط الهندي إلى البحر الأحمر، على خلفية سلسلة الهجمات التي شنها الحوثيون.
وقد لفتت التقارير إلى تشكيل تحالف بين حركة الشباب والقراصنة، حيث توفر الأولى الحماية للثانية مقابل الحصول على نسبة كبيرة من عائدات الفدية. ويتجلى هذا التعاون أيضًا في استخدام القراصنة لأسلحة متقدمة، التي ربما تم الحصول عليها من خلال شبكة تهريب الأسلحة التابعة للأولى. وعلى الرغم من أن هذا التحالف ليس بالجديد إلا أن إعادة إحيائه يشكل تهديدات كبرى في ظل الوضع الأمني شديد الاضطراب.
مجمل القول، يشهد القرن الأفريقي تحديات كبرى تنصرف إلى حالة الاضطراب السياسي التي تتيح مساحات واسعة لنشاط التنظيمات الإرهابية، وتظل التسويات السياسية للصراعات بجانب تحقيق معدلات تنمية مرتفعة للحد من الفقر وتجفيف منابع التجنيد، عوامل رئيسية في تقويض نفوذ التنظيمات الإرهابية، ومنعها من التمدد، على أن يأتي ذلك بالتوازي مع الجهود الأمنية والعسكرية التي تلعب دورًا بارزًا في تفكيك البنية التحتية للتنظيمات الإرهابية ومحاصرة نشاطها.