المقدمة
أفضت حرب غزة الى خسائر فادحة في الأرواح وأضرار جسيمة في البنية التحتية، وستؤدي هذه الخسائر إلى تداعيات اجتماعية واقتصادية قصيرة وطويلة الأجل، بالإضافة إلى التدهور في التنمية البشرية الذي ستعاني منه الأراضي الفلسطينية المحتلة بأسرها، وتعرض النشاط الاقتصادي الفلسطيني لصدمة شديدة نتيجة للحصار الكامل على غزة، وتدمير رؤوس الأموال، والنزوح القسري، والقيود المفروضة على حركة الأشخاص والبضائع في الضفة الغربية. وستكون للتداعيات الاقتصادية للحرب آثار مباشرة وغير مباشرة على الوضع الإنساني، بما في ذلك النزوح الواسع النطاق الذي سيؤثر بدوره على الواقع الاقتصادي في المرحلة اللاحقة، بالإضافة إلى التداعيات الإقليمية للحرب على غزة متعددة الأوجه، وتتوقف جسامتها على حدة التصعيد العسكري ونطاقه.
غزة: دمار هائل وتأثير كارثي
كشف تقرير مشترك للبنك الدولي والأمم المتحدة صدر مؤخرًا عن حجم الدمار الهائل الذي لحق بقطاع غزة جراء الصراع الأخير، حيث قُدرت تكلفة الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية الحيوية بنحو 18.5 مليار دولار، وهو ما يعادل 97% من إجمالي الناتج المحلي للضفة الغربية وقطاع غزة معًا عام 2022. وشملت الأضرار جميع قطاعات الاقتصاد، حيث لحقت بالمباني السكنية 72% من التكلفة، بينما تضررت البنية التحتية للخدمات العامة مثل المياه والصحة والتعليم بنسبة 19%، كما تضررت المباني التجارية والصناعية بنسبة 9%. وتشير التقديرات إلى أن معدل الأضرار قد وصل إلى حد الثبات في العديد من القطاعات، مع توقع صعوبة إعادة تأهيلها. وخلف الدمار كمية هائلة من الحطام والأنقاض تقدر بنحو 26 مليون طن، مما قد يستغرق سنوات لإزالتها والتخلص منها.
يُعاني سكان غزة من كارثة إنسانية كبيرة، حيث أصبح أكثر من نصفهم على حافة المجاعة، ويعاني جميع السكان من انعدام الأمن الغذائي الحاد وسوء التغذية. كما يفتقر أكثر من مليون شخص إلى المأوى، بينما تعرض 75% من سكان القطاع للتهجير. وكانت النساء والأطفال وكبار السن وذوي الإعاقة الأكثر تأثرًا بالصراع، حيث عانوا من آثار كارثية على صحتهم البدنية والنفسية والعقلية. ويُتوقع أن تُؤثر هذه الأضرار على نمو وتطور الأطفال الصغار على المدى الطويل. كما تضرر 84% من المستشفيات والمنشآت الصحية، مما أدى إلى نقص حاد في الخدمات الصحية الأساسية والأدوية والعلاجات المنقذة للحياة. كما انهار نظام المياه والصرف الصحي تقريبًا، وأصبح لا يوفر سوى 5% من خدماته السابقة، مما أجبر السكان على الاعتماد على كميات قليلة من المياه للبقاء على قيد الحياة. وانهار نظام التعليم أيضًا، حيث أصبح 100% من الأطفال خارج المدارس.
تأثرت شبكات الكهرباء وأنظمة إنتاج الطاقة الشمسية بشكل كبير، مما أدى إلى انقطاع التيار الكهربائي بشكل شبه كامل منذ الأسبوع الأول للصراع. كما تم تدمير أو تعطيل 92% من الطرق الرئيسية، وتدهورت البنية التحتية للاتصالات، مما جعل إيصال المساعدات الإنسانية صعبًا للغاية. أدي الصراع إلى فقدان حوالي 90% من الوظائف في القطاع الخاص، و15% من الوظائف في القطاع العام، فضلا عن خسارة وظائف جميع العمال من غزة الذين كانوا يعملون في الاقتصاد الإسرائيلي. وكان أكثر القطاعات تأثرا بفقدان الوظائف في غزة هو قطاع البناء حيث سجل التراجع الأكبر بنسبة حوالي 96% في الربع الرابع من عام 2023 مقارنة بنفس الفترة من عام 2022، يليه قطاع الزراعة بنسبة حوالي 93%، وقطاع الصناعة بنسبة 92%، وقطاع الخدمات بحوالي 77% في الربع الأخير من 2023. كما أوضح تقرير المنظمة أن الخسائر التي لحقت بسوق العمل في قطاع غزة تُرِجمت إلى خسائر يومية في الدخل وصلت إلى 4.4 مليون دولار حتى نهاية كانون الثاني/يناير.
أما في الضفة الغربية، وصلت الخسائر اليومية في الدخل تلك الخسائر اليومية إلى 21.4 مليون دولار حيث تم فقدان 306,000 وظيفة أو ما يعادل أكثر من ثلث إجمالي العمالة، في الضفة والتي تأثر فيها الاقتصاد بشكل كبير جدا. وكان أكثر القطاعات تأثرا في الضفة الغربية هو قطاع البناء حيث انخفضت القيمة المضافة فيه بنسبة 27% في الربع الرابع من عام 2023 بالمقارنة مع نفس الفترة من عام 2022، يليه قطاع الصناعة حيث انخفضت القيمة المضافة بنسبة 24% تقريبًا، ثم قطاع الخدمات الذي شهد أيضا انخفاضا بنسبة حوالي 21% في القيمة المضافة، وأخيرا قطاع الزراعة والذي انخفضت القيمة المضافة فيه بنسبة 12%. وهناك الكثير من الأشخاص “خاصة في فترات الحرب والصراعات” يلجؤون إلى قطاع الزراعة بعد خسارة وظائفهم لتدبير أمورهم إلى أن تتحسن الأوضاع، وهو ما فعله فلسطينيون بسبب الوضع الحالي.
العودة الاقتصادية تحتاج لسنوات
تتسع دائرة الخسائر في قطاع غزة لتشمل جميع مناحي الحياة هناك. ولتعويض تلك الخسائر الهائلة سيستغرق سبعة عقود حتى يعود قطاع غزة إلى مستوى إجمالي الناتج المحلي الذي سجله في العام 2022، حتى إذا بدأت عملية إعادة الإعمار على الفور وعادت غزة إلى متوسط معدل النمو الذي شهدته في السنوات الـ 15 الماضية وهو 0.4 بالمئة. إذ جعل مستوى الدمار الناجم عن آخر عملية عسكرية إسرائيلية قطاع غزة غير صالح للعيش. وكلما طال أمد هذه العمليات (العسكرية) في غزة كلما كان تأثيرها أكثر خطورة. وفي الوضع الأفضل يمكن أن يتم العودة لمستويات ما قبل 2023 بحلول 2035 بافتراض معدل نمو 10%.
وتتطلب إعادة الإعمار إلى أضعاف مبلغ 3.9 مليار دولار الذي كان مطلوبًا بعد الحرب السابقة في 2014. فإن ما يزيد عن 60% من البنية التحتية بالقطاع قد تعرضت للدمار. وتشير التقديرات إلى أن ما يزيد عن 305 ألف وحدة سكنية لحق بها الدمار الكلي أو الجزئي، بإجمالي خسائر فاق الـ 7.5 مليارات دولار في هذا القطاع فقط. بينما تقدر الخسائر المباشرة وغير المباشرة بحوالي 22 مليار دولار، من بينهم 18.5 مليار دولار خسائر اقتصادية أولية مباشرة. وفي غضون ذلك قدرت الأمم المتحدة كلفة إعادة إعمار قطاع غزة بما يتراوح بين 30 و40 مليار دولار نتيجة حجم الدمار الهائل وغير المسبوق فيه بعد سبعة أشهر من الحرب.
إذا كانت الحرب انتهت في نهاية مارس 2024، فإنه كان من المتوقع أن ينكمش الاقتصاد في فلسطين بنسبة حوالي 10% في عام 2024، وأن ينخفض دخل الفرد بنحو 12%. كما أنه من المتوقع أن يصل معدل البطالة السنوي لعام 2024 بأكمله إلى 42.7%. ولكن إذا استمرت الحرب إلى أواخر شهر يونيو، فمن المتوقع أن يتراجع الاقتصاد بنسبة 15%، وهو ما سيتُرجم إلى انخفاض بدخل الفرد بنسبة 17%. بالإضافة إلى ارتفاع المعدل السنوي للبطالة إلى 45.5%. وبالتالي ستكون الخسائر التي سيتكبدها الاقتصاد الفلسطيني هائلة وستحتاج ربما إلى أعوام أو عقود حتى تتم معالجتها.
الأضرار التي لحقت بدول منطقة
وفيما يتعلق بالآثار الاقتصادية على دول الجوار، أدى استمرار الحرب على غزة وامتدادها لأشهر طويلة والتوسع إقليميًا بمشاركة أطراف مثل الحوثيين، أدى إلى تأثيرات اقتصادية كبرى على المنطقة العربية، وفي مقدمتها، تأثيرات مباشرة بتراجع كبير في حركة الاستثمار الخارجي والسياحة، لأنها أصبحت منطقة توتر وعدم استقرار. وكانت في مقدمة الدول التي تضررت هي مصر، إذ تضررت بشكل مضاعف عن أية دولة أخرى في المنطقة؛ خاصة بعد استهداف الحوثيين للسفن في البحر الأحمر، إضافة إلى الصواريخ التي يطلقونها تجاه إيلات، وهذا الأمر أدى إلى تراجع حركة الملاحة في قناة السويس، علاوة على تراجع الاستثمار الداخلي وسلاسل الإمداد وصولًا للمواد الخام والسلع المصنعة، فضلًا عن ارتفاع أسعار العملات الأجنبية، على خلفية الارتفاع الحاد لسعر الدولار في مصر. كما طال التأثير كذلك لبنان وبعض الدول الأخرى التي اضطرت إلى دفع تكاليف أكبر للنفط عن الفترات السابقة، إضافة إلى تراجع الاستثمارات التي أدت إلى خسائر كبيرة في اقتصادات الإقليم وعلى رأسها مصر.
كما يشهد الشرق الأوسط حاليًا ارتفاعًا ملحوظًا في أسعار النفط والغاز، مما يُتوقع أن يُدر إيرادات وفيرة للدول المنتجة والمصدرة لهذه الموارد، مثل زيادة العائدات المالية وتقليل العجز في الميزانيات. إلا أن هذا الارتفاع، وخاصة في ظل استمرار الصراعات في المنطقة، يُخفي وراءه مجموعة من التحديات الاقتصادية الجسيمة التي قد تُلقي بظلالها على مسيرة التنمية والاستقرار في المنطقة. يُلقي الصراع الدائر في المنطقة بثقله على كافة جوانب الحياة، تاركًا وراءه دمارًا اقتصاديًا وإنسانيًا لا مثيل له. وبدلًا من أن تُزهر المنطقة وتنمو، يهدد الصراع بتحويلها إلى صحراء قاحلة، حيث يسود الفقر والمجاعة وانعدام الأمن.
تُشعل نيران الصراع نار التضخم، حيث تُؤدي الصراعات إلى ارتفاع تكاليف النقل بشكلٍ هائل، مما يُساهم بدوره في زيادة معدلات التضخم بشكلٍ جنوني، خاصةً في السلع الأساسية. هذا الارتفاع في التضخم يُثقل كاهل المواطنين ويُقلل من قدرتهم الشرائية بشكلٍ كبير، مما يُهدد بتفجر اضطرابات اجتماعية واقتصادية تُعيق مسيرة الحياة الطبيعية. كما تُخلق بيئة الصراع وعدم الاستقرار مناخًا غير مواتٍ للاستثمارات، مما يدفع بالمستثمرين إلى سحب رؤوس أموالهم من المنطقة، باحثين عن ملاذات آمنة تُؤمن لهم عائدات استثمارية مُستقرة. هذا الهروب الجماعي لرؤوس الأموال يُجفف منابع الاقتصاد ويُعيق تحقيق أي تقدم أو نمو.
ومن ناحية أخرى، تُؤدي حالة عدم اليقين وتراجع الثقة في الاقتصادات الإقليمية إلى انخفاض قيمة العملات المحلية بشكلٍ كبير، مما يُفقدها قدرتها الشرائية ويُثقل كاهل المديونية. هذا الانهيار في قيمة العملات يُؤدي إلى تفاقم الأزمات الاقتصادية ويُصعب على الدول الوفاء بالتزاماتها المالية. تُصبح الفرص الاستثمارية التي تُعزز النمو والتنمية نادرة في ظل استمرار الصراعات، مما يُعيق تحقيق التقدم الاقتصادي ويُحد من إمكانيات تطوير البنية التحتية وخلق فرص العمل. هذا الشح في فرص الاستثمار يُحول المنطقة إلى بيئة قاتلة للإبداع والابتكار، ويُعيق تحقيق أي تقدم اقتصادي أو تنموي. وقد يُؤدي اتساع رقعة الصراع إلى تعطل سلاسل إمداد الطاقة، مما قد يُؤثر على إمدادات الوقود والغاز ويُسبب نقصًا في هذه السلع الأساسية. هذا التعطل في سلاسل الإمداد يُهدد أمن الطاقة للمنطقة ويُعيق حركة النقل والتنقل، مما يُؤثر سلبًا على كافة جوانب الحياة.
من المتوقع أن يُؤدي الارتفاع في أسعار الطاقة، بالإضافة إلى اضطرابات سلاسل الإمداد، إلى زيادة أسعار الغذاء بشكلٍ هائل، مما يُهدد الأمن الغذائي للمنطقة ويُفاقم من معاناة السكان. هذا الارتفاع في أسعار الغذاء يُهدد بحرمان ملايين الأشخاص من احتياجاتهم الأساسية ويُؤدي إلى تفاقم حالات الفقر والمجاعة. وقد يُؤدي ارتفاع الأسعار وانخفاض القوة الشرائية إلى تراجع الطلب على السلع والخدمات، مما قد يُلحق الضرر بالشركات المنتجة ويُؤدي إلى تسريح الموظفين. هذا التراجع في الطلب يُعيق النشاط الاقتصادي ويُؤدي إلى تفاقم معدلات البطالة، مما يُهدد بانهيار الاقتصادات المحلية. كما زن هناك انخفاض ملحوظ في حركة السياحة نتيجةً للمخاوف الأمنية وعدم الاستقرار في المنطقة. هذا التراجع في السياحة يُؤدي إلى تراجع في إيرادات الدول، مما يُؤثر سلبًا على اقتصاداتها المحلية ويُعيق تحقيق النمو.
ومن ناحية أخرى، أصدر صندوق النقد الدولي مؤخرًا تحديثًا لتوقعاته لنمو اقتصاد منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لعامي 2024 و2025، حاملًا معه أنباءً أقل تفاؤلًا مقارنةً بالتوقعات السابقة. فقد خفض الصندوق توقعاته للنمو في عام 2024 إلى 2.9%، مُشيرًا إلى أن ذلك يعود بشكلٍ رئيسي إلى استمرار الصراع في المنطقة وتراجع إنتاج النفط. ويمثل هذا التعديل انخفاضًا بنصف نقطة مئوية عن التوقعات السابقة التي صدرت في أكتوبر 2023، والتي كانت 3.4%. يُعزى هذا التراجع في النمو إلى جملة من العوامل المُتداخلة، يلعب الصراع في غزة دورًا محوريًا فيها. فقد أحدثت الحرب “صدمة” جديدة للاقتصادات الإقليمية، مما أدى إلى “معاناة إنسانية هائلة” وفاقم من التحديات القائمة أصلًا في المنطقة. ولذلك، شدد الصندوق الدولي على ضرورة اتخاذ خطواتٍ حاسمة لوقف الصراع وحله بشكلٍ سلمي.
بالإضافة إلى الصراع، يُلقي تراجع إنتاج النفط بثقله على آفاق النمو في المنطقة. فمع تقلص الإنتاج، تُواجه الدول المصدرة للنفط انخفاضًا في إيراداتها، مما يُعيق قدرتها على دعم النمو الاقتصادي. وتُضاف إلى هذه العوامل تحديات أخرى، مثل اضطرابات الشحن في البحر الأحمر، مما يُؤثر سلبًا على التجارة الإقليمية. وعلى صعيدٍ أوسع، تُواجه اقتصادات المنطقة ضغوطًا متزايدة على ماليتها العامة، حيث تُثقل مدفوعات الفائدة المرتفعة جهود تعزيز المالية العامة. وفي ظل هذه الظروف المُتحدية، دعا صندوق النقد الدولي إلى اتخاذ خطواتٍ جادة لمعالجة التحديات القائمة وتعزيز النمو الاقتصادي في المنطقة. فإن معالجة هذه التحديات بشكلٍ فعالٍ سيُساهم في تحقيق نموٍ اقتصاديٍ مستدامٍ وخلق فرصٍ للتوظيف وتحسين مستويات المعيشة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
وقال التقرير إن الآفاق الاقتصادية للمنطقة تكتنفها مخاطر نزولية مع ارتفاع حالة عدم التيقن بصورة ملحوظة منذ أكتوبر تشرين الأول 2023 وبصورة متفاوتة عبر المنطقة. وأضاف أن الصراع الدائر في غزة لم يتسع جغرافيا لكن لا يزال هناك حالة من الضبابية الشديدة حول مدته واحتمال تصعيده، موضحا أن اضطرابات البحر الأحمر تسلط الضوء على مدى عدم إمكانية التنبؤ بآثاره المحتملة على المنطقة. وقال الصندوق إن المخاطر النزولية تتضمن أيضا استمرار التضخم والضغط المالي وتصحيح للأوضاع المالية له تأثيرات سلبية وأعباء الديون واحتمال تدهور الظروف الاقتصادية الجغرافية وحدوث تباطؤ عالمي مفاجئ والصدمات المناخية المتكررة.