تم تشكيل الحكومة بعد مخاض طويل، أظنه الأطول منذ 1952. لعل ذلك مؤشر على حجم الملفات التى تم فحصها، والمناقشات والاستشارات التى تمت الاستعانة بها، بما يمكن اعتباره مؤشرا على جودة العملية التى تم من خلالها اختيار الوزراء، أما بشأن الناتج الذى أسفرت عنه هذه العملية، فما علينا سوى تجنب الأحكام والاحتفالات المسبقة، وأن نراقب النتائج التى ستتحقق على الأرض بعد فترة مناسبة.
التحديات التى تواجه مصر كبيرة، وليس سهلا تحقيق اختراقات مهمة فى فترة قصيرة. ربما يكون من الممكن ضخ كميات كافية من الغاز فى شرايين شبكات الكهرباء لإنهاء أزمة انقطاع الكهرباء، أو ضخ مزيد من الدولارات لتمويل استيراد مستلزمات الإنتاج؛ لكن هذه كلها أعراض لأمراض مزمنة ومشكلات هيكلية تحتاج إلى إصلاحات عميقة لا تحدث بكبسة زر.
مشكلتنا ليست فى نقص فى هذا أو ذاك من الموارد، وإنما فى أن حكومات متعاقبة طوال عقود لم تنجح سوى فى إبقاء مصر فى فئة الدول المتوسطة، الواقفة طوال الوقت على حافة أزمة ما، تأتى بها حرب إقليمية، أو أزمة مالية عالمية، أو وباء مميت. الحكومات المتعاقبة أبقت مصر طافية على السطح، فحمتها من الغرق، لكنها لم تخرجها إلى بر الأمان والازدهار، والمطلوب من الحكومة الجديدة دفع البلاد نحو نهوض وتقدم حقيقى، يخرجها من الانكشاف إلى الحصانة، ومن التخلف إلى التقدم، ومن العسر إلى الوفرة، ومن الجهل إلى العلم، ومن الاعتماد على شركاء خارجيين يدعموننا وقت الحاجة، إلى الوقوف متساوين إلى جانب شركاء نعطيهم ونأخذ منهم.
المطلوب لتحقيق هذه الأهداف ليس سرا، فقد تحدثت عنه الحكومات السابقة باستفاضة، فليس منهم من لم يتحدث عن زيادة الإنتاج، وتنشيط الصادرات، وتطوير التعليم، وتشجيع البحث العلمي. المشكلة ليست فى معرفة المطلوب تحقيقه، ولكن فى الطريقة التى نحاول تحقيقه بها، والتى يبدو أن الحكومات السابقة فشلت فى العثور عليها. المواطن المصرى لا ينتظر من الحكومة أن تعيد على أسماعه ما يعرفه بالفعل، لكنه يتطلع إلى حكومة لديها خريطة طريق واضحة تقود، ولو بعد حين، إلى تحقيق أهداف التقدم والنهوض الوطنى.
الكلام عن الأهداف وخريطة الطريق يظل عموميا ونظريا، يصعب الحكم عليه وتقييمه إلا بعد فترة كافية، أما على المدى المباشر فالحكومة تحتاج إلى استعادة ثقة الرأى العام من خلال العمل وفقا لأساليب وروح جديدة تختلف عما عهدناه فى حكومات سابقة، وهذه بعض الأفكار التى قد تجد فيها الحكومة الجديدة بعض الفائدة.
اختصار الحديث عن الأهداف، والتركيز على الحديث عن الوسائل. نريد أن نعرف خطة الحكومة لزيادة الاستثمار، والنهوض بالإنتاج الصناعى والصادرات، وسد النقص فى المدرسين، وتقليل كثافة الفصول، واستعادة التلاميذ إلى المدارس، وإدخال مصر إلى عالم إنتاج الرقائق الإلكترونية، وتطوير تطبيقات الذكاء الاصطناعى وليس مجرد استيرادها.
الدولة لا تنافس القطاع الخاص، لكن تزيل المعوقات من أمامه.
أقرت الحكومة السابقة سياسة تخارج الدولة وشرعت فى تطبيقها، ونريد من الحكومة الجديدة الالتزام بنشر أسباب دخول الدولة وأجهزتها فى أى مشروعات إنتاجية أو خدمية جديدة، وأن يصبح الإعلان عن هذه الأسباب شرطا ملزما لجميع جهات الدولة.
المواطنون، بمن فيهم المستثمرون، يشكون من التعقيدات التى يواجهونها فى التعامل مع جهات حكومية.
لقد حدث تبسيط كثير فى الإجراءات، لكن مازالت مصر من بين الدول التى ينفق فيها المواطنون وقتا أطول لدفع الضرائب، واستخراج التراخيص لمتجر أو مصنع، وتسجيل ملكية عقارية، وتنفيذ حكم قضائى؛ المطلوب هو إلزام كل وزير بمراجعة وتخفيض الإجراءات المطلوبة لإنجاز المعاملات، من أجل خلق بيئة صديقة للاستثمار.
انطباع المواطنين عن الحكومات المتعاقبة هو أن لديها أسرارا تخفيها، وأن ما تقوله لهم هو فقط جزء من الحقيقة. أضر هذا كثيرا بمصداقية الحكومة، وحد من قدرتها على كسب تعاون المواطنين عندما كان التعاون ضروريا لإنجاح السياسات العامة. الكلام المرسل والعبارات الإنشائية المحفوظة تضر بالمصداقية، والمطلوب بيانات دقيقة، وتقييم دورى بمعايير منضبطة يبين للرأى العام مدى التقدم الذى نحققه فى اتجاه تحقيق الأهداف.
أتمنى لو تظهر الحكومة الجديدة قدرا أكبر من الثقة فى المواطن، وتقر بحقه فى متابعة الشئون العامة فى بلده، وبقدرته على فهم الحقائق والتعامل معها بمسئولية. تحتاج الحكومة إلى إعادة بناء كامل لأدوات تواصلها مع المواطنين. بدءا بمستشارين ومتحدثين إعلاميين محترفين، وتطوير شامل لمواقع الحكومة على شبكة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعى، بحيث تصبح مصدرا موثوقا ومنظما للمعلومات والبيانات.
تأخر نشر البيانات الحكومية الكاملة والسليمة بسرعة كافية هو أحد أسباب أزمة الثقة التى عانتها حكومات سابقة. اكتفت الحكومات السابقة، فى أحيان كثيرة، بنشر ما اعتبرته أخبارا سارة، لكن غياب الصورة الكاملة قلل حماس المواطنين للتفاعل مع الأخبار السارة حتى عندما كانت سليمة تماما. سياسة نشر البيانات الحكومية تحتاج إلى تحديث كامل، بحيث تنشر الحكومة بيانات كاملة، يسهل الوصول إليها، وبطريقة يمكن فهمها عن كل شيء، ولنبدأ بإصدار قانون تداول المعلومات الذى طال انتظاره.
فى البدايات فرصة ثمينة لخلق قوة دفع وروح جديدة، ولدينا مع بداية عهد الحكومة الجديدة فرصة يجب الإمساك بها.