الشرق الأوسط هو الإقليم الأكثر اضطرابا فى العالم. هناك توتر فى المحيط الهادى، وهناك حرب دائرة فى القارة الأوروبية، لكن فى الشرق الأوسط فقط يوجد كل هذا العدد الكبير من الصراعات المسلحة دفعة واحدة. الحرب الأكثر خطورة فى المنطقة هى الحرب الدائرة بين إسرائيل وجماعة حماس الفلسطينية، وهى الجولة الأحدث والأكثر دموية، ضمن جولات الصراع من أجل السيطرة على فلسطين التاريخية، وكفاح التحرر الوطنى الذى يخوضه الشعب الفلسطينى ضد الاحتلال الإسرائيلي. الصراع فى فلسطين ينطوى على صراع آخر فى صفوف المقاومين الفلسطينيين، المنقسمين بين راديكاليين إسلاميين يستخدمون أساليب الصراع المسلح، ومعتدلين وطنيين يفضلون استخدام أساليب الكفاح غير العنيف. لقد شكل الصراع الفلسطينى-الإسرائيلى الشرق الأوسط على مدى العقود الثمانية الماضية، وهو مازال قادرا على تشكيل المنطقة بسبب قابليته للانتشار إلى مناطق بعيدة فى الشرق الأوسط والعالم، محمولا على تاريخ مشحون بالمشاعر، وعلى الانتماءات الدينية،والتحالفات الدولية لأطرافه.
بالإضافة إلى حرب التحرر الوطنى بين الفلسطينيين والإسرائيليين، فإن بعض حروب الشرق الأوسط هى حروب أهلية بين أطراف تحت مستوى الدولة (حالة ليبيا).البعض الآخر من حروب المنطقة يدور بين أطراف تحت مستوى الدولة، وأطراف أخرى تمثل الدولة، لكن فقط اسميا، بعد أن فقدت الأخيرة جانبا كبيرا من شرعيتها ومواردها واستقلالها (حالات سوريا واليمن والسودان). هناك حالات أخرى ضعفت فيها الدولة إلى حد بعيد جدا، ففقدت احتكار الحق الشرعى لاستخدام القوة المسلحة، وانتقل هذا الحق بصورة إجبارية إلى جماعات متنوعة تتصرف باستقلالية كبيرة، وصولا إلى اتباع سياسة خارجية وشن عمليات عسكرية خارج الحدود باستقلال يكاد يكون تاما عن الدولة (حالات لبنان والعراق).
العامل المميز لصراعات الشرق الأوسط هو ضعف الدولة الوطنية، وانتزاع وظائفها من جانب جماعات مسلحة ذات طابع مذهبى أو طائفى أو أيديولوجى، وفى الأغلب خليط من كل هذه العوامل. هذا وضع شديد الخطورة، يضاعف من خطورته هو أن كل صراعات المنطقة تجرى على خلفية صراعات دائرة بين دول تمثل قوى رئيسية فى المنطقة، يحاول كل منها التلاعب بكل هذه الصراعات المختلفة لتعظيم مصالحه الوطنية.
صراعات الشرق الأوسط هى صراعات عالم ثالثية بامتياز. فأغلب صراعات المنطقة هى صراعات أهلية، تعكس عجز المجتمعات والدول عن بناء صيغ فعالة للتعايش المشترك وإدارة المصلحة العامة، وعجزها عن إقامة دول فعالة، قابلة للحياة، غير فاشلة وغير هشة. الصراعات الأهلية فى الشرق الأوسط تتحول بسرعة إلى صراعات بالوكالة، حيث تتدخل الأطراف من داخل وخارج الإقليم لتحقيق مصالحها. بعض هذه المصالح مباشر ومادى، كوضع اليد على منجم للذهب هنا أو مورد للمياه هناك؛ وبعضه الآخر استثمار لفرصة سياسية أظهرها ضعف السلطة الشرعية، وبعضها الثالث هو محاولة لمنع منافسين من تحقيق مكسب يحسن مواقعهم فى المنافسة الجارية بين أطراف عدة فى الإقليم وخارجه. صراعات الشرق الأوسط تغرى حتى الدول المعروف عنها التصرف بطريقة متجاوزة لسياسات القوة التقليدية، تغريها بتجربة مهاراتها المهجورة فى منطقتنا. فحتى الدول الأوروبية التى تتصرف بطريقة فيها قدر من التعقل رأيناها تتنافس بحدة فى ليبيا، ولم لا والبلد متاح للصراع على المغانم والمصالح بلا تكلفة كبيرة يتحملها المتدخلون. صراعات الشرق الأوسط تنطوى على مخاطر التحول إلى حرب كبيرة بين جيوش نظامية تعد من بين أقوى جيوش العالم.الإشارة هنا إلى الصراع الدائر بين إيران وإسرائيل، والذى قد يتحول إلى مواجهة عسكرية مباشرة بينهما بسبب التوتر المسلح على الجبهة الإسرائيلية-اللبنانية، والمرتبطة بتطورات الحرب فى غزة. الأخطر من ذلك هو أن حربا بين إيران وإسرائيل ستجذب إليها حتما الولايات المتحدة، بسبب علاقة التحالف العضوى الإسرائيلى الأمريكي. فى ظروف الانقسام الدولى الراهن فإن حربا كهذه قد تتطور بشكل يجذب إليها آخرين من الدول الكبرى، ناهيك عما قد يطلقه من موجات تطرف وإرهاب جديدة.
صراعات الشرق الأوسط تبدأ لكن يصعب إنهاؤها. الحروب ذات الطابع الأهلى التى بدأت قبل أكثر من عقد من الزمان تحت وهم الربيع العربى مازالت مستمرة. الجولة الحالية من الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين فاقت فى طولها والخسائر المترتبة عليها كل جولات الصراع السابقة بين العرب وإسرائيل. كوابح الصراع التى كانت موجودة فى المنطقة فى فترات ماضية لم تعد تعمل بالكفاءة نفسها.
الشرق الأوسط هو «مفاعل صراعات»، يمتد من وسط آسيا حتى منطقة الساحل الإفريقي. لمفاعل الصراعات هذا قلب جيوسياسى مهدد بالانصهار، يحتل المنطقة الممتدة من إيران شرقا إلى ليبيا غربا، ومن بحر قزوين شمالا إلى بحر العرب جنوبا. هذه هى المنطقة التى نسميها الشرق الأوسط، والتى تقع مصر فى قلبها. لقد انصهر جزء كبير من قلب هذا المفاعل بالفعل عندما تفككت الدول المكونة له. الحرب الدائرة فى قطاع غزة منذ عدة شهور، وتعطيل حرية الملاحة التجارية فى البحر الأحمر، وهجمات الميليشيات العابرة للحدود، كلها مفاعيل تسرع من عملية انصهار ما بقى سليما من قلب المفاعل الشرق أوسطي. قد يحدث الانصهار الكامل للقلب الجيوسياسى لمفاعل الصراعات هذا حال انفجار مواجهة عسكرية مباشرة وشاملة بين جيشين نظاميين ودولتين كبيرتين، أو بسبب انفجارات الجماهير الغاضبة، أو بسبب موجات جديدة من التطرف والإرهاب، لذا لزم الحذر.