تمكنت حرب أكتوبر 1973 من تحطيم نظرية الأمن الإسرائيلي والتي بنيت في جزء منها على الترويج لامتلاك إسرائيل جيشًا لا يهزم، وعلى التمسك بالحدود الآمنة، وهو ما ثبت عدم مصداقيته بعد أن اتخذت مصر وسوريا قرار الحرب. كما تعد تلك الحرب فشلًا للاستخبارات الإسرائيلية ونموذجًا لتعميتها عن مصادر التهديد بعد أن عجزت عن توقع الحرب في ظل النجاح الساحق في تنفيذ خطة الخداع الاستراتيجي التي نجحت في أحد جوانبها في إخفاء توقيت الحرب على جميع دول العالم بأجهزتها المخابراتية، كما تشكل الحرب مثالًا لكيفية إفشال الاستخبارات المعادية ومعاونيها.
ومن ثَمّ، ليس من قبيل المبالغة القول إن الانتصار في تلك الحرب المجيدة لا يعدو كونه انتصارًا عبقريًا بالمقاييس الاستراتيجية العسكرية وأدبياتها المعروفة؛ فقد تمكن الجيش المصري من كسب أغلب المعارك، وحقق الهدف من الحرب طبقًا للتوجيه السياسي-العسكري للرئيس الراحل “أنور السادات”. فقد تمكنت تلك الحرب من تحرير جزء محتل من أرض الوطن، ومحو هزيمة عام 1967 (التي كانت هزيمة بلا حرب)، وإعادة فتح قناة السويس لخدمة التجارة الدولية وكمصدر مهم للدخل القومي.
أولًا: نظرية الأمن الإسرائيلية
يتأسس الأمن القومي الإسرائيلي على جملة من المبادئ التي لا تعدو كونها توجيهات عامة للقيادة السياسية الإسرائيلية على تعاقبها. ومن أبرز تلك المبادئ ما يلي:
- ستتصرف دولة إسرائيل بشكل عام على أساس استراتيجية دفاعية تهدف إلى ضمان وجودها.
- شن حملة بين الحروب والحفاظ على استعدادات عالية بهدف تحقيق نصر واضح خلال الحرب.
- تجنب الحرب وتأجيل المواجهات وعدم الرغبة في خوض معارك عسكرية وتأجيل الصراعات كلما أمكن.
- محدودية الموارد المادية والبشرية، والخلل بين قدرات الخصوم، ووجود إسرائيل في وضع غير مؤات مقارنة بأعدائها، ولا بد من تعويض ذلك بالتفوق النوعي.
- نقل المعركة إلى أراضي العدو جراء غياب العمق وتزايد احتمالية استهداف الأصول الاستراتيجية والبنى التحتية الحيوية بفعل تركزها على طول الخط الساحلي.
- أساليب الحرب القصيرة الحاسمة بالنظر لصعوبة استمرار التعبئة لفترات طويلة، وتقليص مدة القتال وتحقيق أهداف المعركة في أقصر وقت ممكن.
- قابلية الحدود الدفاع عنها اعتمادًا على السيطرة الأمنية المستقلة بالكامل.
- ضرورة تمتع الجيش بتفوق نوعي على الجيوش العربية في عدة مجالات منها؛ أنظمة التسليح والتنظيم والتدريب وأساليب الاستخدام القتالي للقوات.
- اتباع أساليب استخدام قتالي تحقق اختراقاً سريعاً لدفاعات وأراضي الخصم والوصول إلى عمقه، بالاعتماد على أنظمة تسليح هجومية (ثنائي الطائرة والدبابة) ووفقًا لأساليب الاقتراب غير المباشر والعمل من خطوط داخلية (نقل الحرب من اتجاه لآخر طبقًا لأسبقية التهديد).
- خلق عمق صناعي من خلال شبكة المستعمرات والمستوطنات التي أقامتها على حدودها وداخلها وفي الأراضي العربية المحتلة.
- التحالف مع قوة دولية كبرى تدعم إسرائيل قبل وفي أثناء وبعد الحرب، خاصة إذا ما خرجت نتائج العمليات العسكرية عن الحسابات التي افترضتها إسرائيل وأوشكت على الهزيمة أو كانت في حاجة ماسة لكبح سياسي وعسكري لخصومها يفوق قدراتها.
ويستخلص من ذلك أن الأمن القومي الإسرائيلي له خصوصية تجعله شاذًا عن تعريفات الأمن القومي للدول عمومًا؛ كونه يشمل كل الأنشطة والفاعليات الحيوية، مثل: القوة العسكرية، وبناء مؤسسة الجيش، ومشاركة كل سكان الدولة في ذلك الجيش كجيش احتياط، مع تشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وتوسيع دائرة الاستيطان، وتخفيف الهجرة إلى الخارج، وتقوية الاقتصاد القومي، والنشاط الدبلوماسي الخارجي لتأمين متطلبات الأمن، إضافة إلى التربية والتعليم، وتقوية الجبهة الداخلية. ونتيجة لانعدام العمق الاستراتيجي، تولي القيادة الإسرائيلية اعتبارات “الأمن العسكري” قدرًا كبيرًا من الاستقلال الذاتي، وتعطي المؤسسة العسكرية حرية كبيرة في العمل، مما يمكّنها من استخدام إمكانياتها المتاحة لأغراض تتجاوز التحذير والإحباط والضربة الوقائية، وصولًا إلى تحقيق “الردع”.
فوفقًا لرئيس الوزراء الإسرائيلي السابق “دافيد بن غوريون”، فإن الأمن القومي الإسرائيلي بني على مبدأين مركزيين؛ هما: جيش الشعب، والثالوث الأمني؛ إذ يتحقق الأول من خلال فرض التجنيد الإجباري على جميع الإسرائيليين كجنود احتياط، فيما تأسس الثاني على ثلاثة أسس؛ هي: الردع، والإنذار، والحسم. ويتحقق الردع بشن هجمات انتقامية مدمرة تستهدف الخصم، مما سيردعه عن مهاجمة إسرائيل تجنبًا لرد فعلها. فيما يتحقق الإنذار المبكر بإيجاد قوة استخبارية متفوقة يمكنها التنبؤ بنوايا الخصم وإحباط خططه قبل أن يقدم على تنفيذها. فيما يتحقق الحسم بتقصير مدة الاشتباك من خلال توجيه ضربة قوية وحاسمة للعدو.
وقد اتجه الخبراء الاستراتيجيون ومراكز الدراسات والبحوث المتخصصة إلى مراجعة مبادئ ومفهوم الأمن الإسرائيلي، وفي هذا الإطار حدد تقرير “مريدور” (الذي أُعدّ في العام 2006) تسعة مبادئ لعقيدة الأمن القومي الإسرائيلي؛ وهي: منع أي تهديد أمني، والمزج بين المنع وتحقيق الردع باستخدام الدفاع والهجوم، والمحافظة على القوة العسكرية، والاعتماد على الذات الإسرائيلية، وتمتين العلاقة مع الولايات المتحدة، مع السعي لبناء علاقات استراتيجية مع القوى الدولية المؤثرة، ومراعاة الاعتبارات القانونية والأسس الأخلاقية عند استخدام القوة، والاستمرار في تبني مبدأ جيش الشعب، والسعي إلى تطوير القدرات الإدارية والتكنولوجية للجيش، والموازنة بين الجانب التنموي والاجتماعي والجانب الأمني.
ويمكن القول إن هناك مبادئ ومرتكزات جديدة طرأت على نظرية الأمن الإسرائيلي ودخلت في سياق الصياغة الشاملة للعقيدة الأمنية الإسرائيلية، مثل مبدأ الاستيعاب أو الامتصاص كبديل لمصطلح الدفاع؛ ويشير إلى منع المقاومة من استخدام القوة لفترة زمنية طويلة للحد من الأضرار المحتملة، وهو ما يتحقق من خلال استخدام الجيش الإسرائيلي لمختلف وسائل الدفاع الجوي الحديثة مع امتلاك قدرات هجومية مركّزة تحول دون أي عدوان مفاجئ، بجانب حرمان المقاومة من إمكانياتها العسكرية لا سيما على صعيد القوة الصاروخية. هذا إلى جانب مبدأ الإعاقة لمنع فصائل المقاومة من تطوير قدراتها العسكرية النوعية، ومبدأ التقويض أو الإحباط المركّز بمعنى تدمير قدرات باتت موجودة بالفعل لدى الخصوم، ومبدأ الشلل بمعنى اتخاذ قرار البدء بهجوم عسكري ضد الخصوم لحرمانهم من قدراتهم الأساسية، وغير ذلك.
ثانيًا: تداعيات حرب أكتوبر 1973 على نظرية الأمن الإسرائيلي
كان من المفترض أن تقدم أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية تحذيرًا قبل يومين على الأقل من وقوع الحرب، كي يتمكن الجيش من استدعاء قوات الاحتياط وتعبئتها ونشرها على الجبهات من ناحية، وتقييم مدى الحاجة إلى هجوم جوي وقائي لتعطيل الاستعدادات العربية للحرب من ناحية أخرى. وقد سبق أن أقرت الاستخبارات العسكرية ووعدت القيادة السياسية لإسرائيل في عام 1972 بأن يكون التحذير قبل 5-6 أيام من وقوع أي هجوم محتمل، لكنها لم تقدم تحذيرًا مبكرًا قبل الهجوم، على الرغم من المعلومات المقدمة من بعض العناصر المعاونة بشأن الاستعدادات، ووجود الكثير من المؤشرات الاستخباراتية التي أظهرت الحشد المكثف للجيوش العربية. إن حجم الفشل الاستخباراتي الإسرائيلي في عام 1973 لا يزال مذهلًا بعد مرور أكثر من خمسين عامًا، فقد تزامنت الحرب مع أقدس يوم في السنة اليهودية (أي يوم الغفران). ولذا، وعلى مدى أكثر من خمسين عامًا، تعددت الكتابات التي فسرت كيفية حدوث وأسباب ذلك الفشل الذي أدى إلى هدم نظرية الأمن الإسرائيلى، حتى إن إسرائيل لم تتمكن من تجنب الهزيمة القاسية إلا عندما قدمت الولايات المتحدة إمدادات عاجلة ضخمة من المعدات والأسلحة.
كانت حرب أكتوبر1973 هي بداية تدمير نظرية الأمن الإسرائيلي، نظرًا لفاعلية خطة الخداع الاستراتيجي. فقد واكب الإعداد والتخطيط القتالي للحرب وحتى صباح يوم الحرب خطة موازية للخداع الاستراتيجي على الأصعدة السياسية العسكرية والاقتصادية والاجتماعية داخليًا وخارجيًا. ويمكن القول إن النجاح الكبير الذي حققته هذه الخطة كان هو أول مفاتيح النصر، فقد ظلت القيادة الإسرائيلية غير متيقنة من حدوث حرب شاملة حتى مساء يوم 4 أكتوبر، حين قدم مدير المخابرات العسكرية آنذاك “إلي زاعيرا” تقريره بأن ما يحدث على قناة السويس هو شبيه بمناورة شهر مايو 1973 بعد متابعاته لأعمال التنصت المتقدمة، وأوصى المجلس برفع درجة الجاهزية القتالية لأجزاء من القوات الجوية احترازيًا.
بنيت خطة الخداع الاستراتيجي على عدة أمور؛ منها قبول زيارة وزير الدفاع الروماني لمصر في 8 أكتوبر، وإرسال ممثل للرئيس السادات إلى الولايات المتحدة للتباحث، والاجتماع السري لمجلسي الدفاع الوطني المصري والسوري في الإسكندرية، وإخفاء توقيت الحرب عن الدول العربية الداعمة، والتنسيق السياسي لإغلاق باب المندب، وتأخير إغلاق المجال الجوي فوق مصر لآخر لحظة، وتأخير إطفاء شعلات حقول الغاز لآخر لحظة، واستيراد ماكينات ضخ مياه فتح السواتر الرملية، والتركيز على المراد توصيله إلى العدو، مثل إعلانات الحج والعمرة في بداية رمضان للضباط والمتطوعين وأسرهم، والتركيز على الصحف التي تحصل عليها السفارات الإسرائيلية في أوروبا وخاصة لندن وباريس، والاحتفاء بمن عادوا من الاستدعاء التدريبي السنوي الكبير لمناورات الخريف من سلسلة تحرير (1) و(2) و(3) حتى أكتوبر عام 1973، وغير ذلك.
نتيجة نجاح خطة الخداع الاستراتيجي، خسرت إسرائيل عناصر المفاجاة والمبادأة والحرب الخاطفة، وأُجبرت على حرب ترهقها اقتصاديًا نظرًا لكبر نسبة التعبئة في الجيش الإسرائيلي إلى قوة العمل، فهي الأعلى دوليًا بنسبة (16٪) للذكور وحتى (25٪) بإدخال الإناث، علمًا بأن المعدل الدولي هو (1-1.5)٪ من عدد السكان، ولم يتبق لإسرائيل إلا مبدأ الحليف القوي المتمثل في دعم الولايات المتحدة سياسيًا وعسكريًا الذي وصل في صورة معدات وإمدادات عسكرية اعتبارًا من يوم 10 أكتوبر إلى مطار العريش بسيناء.
ختامًا، إن انتصارات حرب أكتوبر أثبتت هزيمة نظرية الأمن الإسرائيلي، فقد خسرت إسرائيل عناصر المفاجأة والمبادأة والحرب الخاطفة، وأُجبرت على حرب ترهقها اقتصاديًا، وقد سبقتها حرب الاستنزاف التي أدت لاهتزاز نظرية الأمن الإسرائيلي. تلك النظرية التي بنيت على أساس التخويف النفسي والسياسي والعسكري ليست درعًا من الفولاذ. والآن وعقب طوفان الأقصى، تبحث إسرائيل عن بديل لنظرية الأمن الإسرائيلي، نتيجة تدمير مرتكزاتها بعد تطويرها؛ فهي بصدد البحث عن “نموذج جديد” وبناء نظرية أمن جديدة.
مستشار مركز الدراسات الاستراتيجية للقوات المسلحة
أكاديمية ناصر العسكرية العليا


