أوجدت سياسات الإدارة الأمريكية الجديدة مشهدًا جديدًا تنهار فيه كل الأسس والمسلمات التي بنت منظومات وسياسات الدفاع والأمن الأوروبية أو العبر أطلسية عليها. لم يعد من الممكن الاعتماد على “الضمانة النووية الأمريكية” ولا حتى افتراض أن الولايات المتحدة ستقدم أي شكل من أشكال الدعم لأوروبا إن واجهت أزمة كبرى، بل لا يمكن استبعاد احتمال انحياز الولايات المتحدة إلى أعداء أوروبا وإلى روسيا تحديدًا. إضافة إلى ذلك قد يدفع السلوك الأمريكي الجديد المستهين تمامًا بقواعد القانون الدولي وبالالتزامات التي تترتب على المعاهدات والأحلاف بعض الدول إلى التصعيد العدواني وربما العسكري إما ضد دول أوروبية أم ضد دول مجاورة لها.
أي أن أوروبا تواجه المجهول، لا أحد يعرف كيف ستتصرف إدارة ترامب والسيناريو الأفضل بات اكتفاؤها بالابتزاز الوقح، لا أحد يعرف كيف سيستغل الروس الموقف الأمريكي الجديد، هل يقبلون بتهدئة مؤقتة تسمح له بادعاء صناعة السلام أم يواصلون التصعيد، ولا أحد يعرف إن كانت الجبهة الداخلية الأوكرانية ستظل صامدة مع تبني الأمريكيين لمقولة الروس عن وجوب الإطاحة بزيلنسكي والادعاء أن وجوده هو العائق، ولا أحد يعرف إن كان من الممكن إقناع الرئيس ترامب بتعديل موقفه، إما بقبول التزامات أوروبية جديدة وبتقديم تعهدات فيما يخص تقاسم الأعباء، وإما بمطالبة مهلة، وعلى أي حال لا يمكن استبعاد حدوث طلاق نهائي عبر أطلسي، ولا أحد يعرف ما مصير الناتو، ولا ما مصير أوكرانيا، ومدى استعداد الشعوب الأوروبية على تحمل تضحيات، وحدود قدرة أوروبا على التعامل الفعال مع الكم الهائل للتحديات السياسية والدفاعية والبيئية والاقتصادية.. إلخ. وأخيرًا وليس آخرًا لا أحد يعلم إن كانت الدول المشتركة ستعمل معًا أم ستحاول كل منها التفاهم على انفراد مع الكبار. في كل ملف من الملفات المطروحة نجد عشرات من الاجتهادات ومن المواقف.
أول سؤال هو: هل تستطيع أوروبا تحمل أعباء دعم أوكرانيا لوحدها؟ وثانيهم: هل تستطيع أوروبا الدفاع عن نفسها بدون دعم أمريكي وهل تستطيع بناء منظومة دفاعية مستقلة بسرعة؟ وثالثهم: هل يمكن تحقيق الهدفين معًا؟ وهناك عدد من الأسئلة المتصلة، هل نحن بصدد طلاق مع الولايات المتحدة أم يمكن إصلاح ما فسد؟ هل تقبل الدول الأوروبية خيارًا “فنلنديًا” – أي حياد مهادن للروس وودي تجاههم؟ هل يمكن بناء رادع نووي أوروبي أم خاص بدول الجوار الروسي؟ هل يمكن التقارب مع الصين وتحسين العلاقات معها مقابل التقارب الأمريكي الروسي؟
لا نزعم أننا نستطيع الرد على كل هذه الأسئلة، والجديد في المشهد أنه لا يمكن استبعادها لكونها “كلام قهاوي”.
نبدأ بما هو واضح. ماليًا تستطيع الدول الأوروبية إن رغبت ورغم الأزمة الحالية حل محل واشنطن، المشكلة هي في الدعم العسكري. يمكن إيجاد المال لشراء أسلحة، ولكن.. هل الأسلحة موجودة؟ الرد.. المصانع الحربية الأوروبية لا تستطيع سد الفراغ. إنشاء مصانع جديدة لا يتم في يوم وليلة، المستثمرون لن يجازفوا بهذا ما لم يضمنوا استمرار الطلب على الأسلحة على مدى عقود، وفي عدة مجالات لا توجد العمالة المدربة، ولا المواد الأولية الضرورية، السؤال هو هل يمكن شراء الأسلحة التي تحتاج إليها أوكرانيا؟ الشراء من الولايات المتحدة ستكون مكافأة لوقاحة السلوك الأمريكي ويفترض أن الولايات المتحدة ستقبل البيع. هناك طبعًا مصادر أخرى –كوريا الجنوبية مثلًا- ولكن الرد على السؤال ليس سهلًا، لا سيما أن أوكرانيا تشكو أساسًا من تعدد “جنسيات” سلاحها، قواتها مضطرة إلى التدرب على عدة منظومات في آن واحد. وإلى جانب هذا لن تستطيع أوروبا القيام بدور واشنطن في بعض المجالات العسكرية، الاستخبارات والرقابة عن طريق الأقمار الصناعية مثلًا. وهناك احتمال قيام الولايات المتحدة بحرمان أوكرانيا من منظومة ستار لينك الحيوية، نظريًا يمكن الرد على مثل هذا الإجراء بقيام الاتحاد الأوروبي بالاستغناء عن ستار لينك في كل القارة، وبعقوبات ضد الشركات الكبرى للتكنولوجيا الأمريكية، ولكننا لا نعرف إن سترغب في هذا التصعيد.
يجب إدراك أن متطلبات بناء منظومة دفاع تستطيع أن تعمل في استقلال عن واشنطن وتصميم أسلحة المستقبل تختلف عن متطلبات دعم أوكرانيا. إيجاد قوة أو قوات عسكرية قادرة على العمل المستقل سيتطلب مجهودًا ضخمًا مستديمًا، لن توجد مثل هذه القوة قبل ٢٠٣٥ إلا لو حدثت معجزة. إنتاج وتوفير السلاح أمر وتدريب الجنود واكتساب المهارات العملياتية أمر آخر قد يكون أصعب، ويلاحظ أن روسيا التي تجيد فنون الحرب الهجينة وتتحكم في أدواتها ستعمل على تعطيل أي جهد حربي. وأن أوروبا متأخرة في الملفات التكنولوجية وتفتقر إلى المواد الأولية. والسؤال هو.. هل يمكن تحقيق نهضة عسكرية مع مواصلة الدعم لأوكرانيا في آن واحد، وهل التخلي عنها –إلى جانب الدلالات السلبية لمثل هذا التوجه- يولد من الأخطار ما يفوق القدرة على التحمل أم هو شر لا بد منه لعدم تشتيت الجهود.
التطورات الأخيرة أعادت إلى الصدارة ملف الضمانة النووية، من ناحية “القدرة” تستطيع فرنسا ردع روسيا، والجديد في هذا الملف أن ألمانيا باتت مقتنعة باستحالة الاعتماد على الولايات المتحدة، وطلب المستشار الألماني الجديد طرح مسألة قيام المملكة المتحدة وفرنسا بالتقدم بضمان نووي لسلامة القارة، ويلاحظ في هذا الصدد أن المملكة المتحدة لا تتمتع بحرية حركة فرنسا في هذا المجال لأن رادعها النووي ليس مستقلًا عن الرادع الأمريكي، والسؤال ما هو المقابل الذي ستطالب به فرنسا التي تريد تحميل غيرها أعباء سفهها المالي أو جزء منها. سؤال آخر هو مدى الثقة في باريس، وهل ستفضل دول الجوار الروسي أن تمد نفسها بالنووي رغم صعوبة هذا؟ ويلاحظ في هذا الصدد أن أغلب الدول الأوروبية قامت بشراء أسلحة أمريكية في السنوات الماضية؛ مما يحد من القدرة على الاستقلال التام عن الولايات المتحدة.
الخيار الفنلندي مستبعد حاليًا في ظل التوازنات السياسية في الدول الأوروبية الكبرى، ولكنه لم يعد من الممكن استبعاد احتمال وصول أحزاب يمينية متطرفة مهادنة لروسيا و/أو مؤيدة لتوجهات الرئيس ترامب إلى سدة الحكم في نهاية هذا العقد أو بعده، وعندئذ سيطرح سؤال الحياد الودي تجاه موسكو بجدية.. يزيد منها عدم وجود استعداد نفسي للتضحية في الشعوب الأوروبية، وطبعًا قد يتغير هذا في المستقبل، على سبيل المثال لا أحد يعرف تأثير مشهد توبيخ زيلنسكي على النفوس وهل هو مستديم أم لا. أما الخيار الصيني –وسمعت بعض الخبراء يتحدثون عنه- فمن شأنه دعم اقتصاديات أوروبا، ولكن الثمن سيكون باهظًا وأستبعد تبني هذا الخيار قبل حدوث قطيعة شبه كاملة مع واشنطن.
السيناريو الأفضل حاليًا بالنسبة لأوروبا هو توزيع الأدوار بين قاداتها، وتكليف قادة الدول التي ترتبط بعلاقات وثيقة مع الولايات المتحدة –المملكة المتحدة وإيطاليا وبولندا- بالعمل على رأب الصداع مع واشنطن واقناعها بضرورة مواصلة الدعم لأوكرانيا وإعطاء مهلة لأوروبا، أو بإعادة صياغة العلاقات دون اللجوء إلى الطلاق، مع عدم استبعاد دخول باريس وبرلين على الخط منذ البداية أو في وقت ما، وسيسعى القادة الأوروبيون إلى صياغة مشروع أوروبي أوكراني وربما أمريكي لوقف الحرب في أوكرانيا، وإلى الاتفاق السريع حول وسائل رفع العراقيل البيروقراطية وحول سياسات التسليح وحول الاستثمار الكثيف في التكنولوجيا وفي الصناعات الحربية.. إلخ.
ولكننا لا نستطيع استب عاد احتمال بحث عدد من الدول عن تفاهم منفرد مع واشنطن (أو مع موسكو)، ونستطيع أن نؤكد أن روسيا أساسًا وربما الولايات المتحدة والصين ستعمل على تعميق الخلافات بين الدول الأعضاء، والاستقطاب الداخلي في كل منها، وعلى استغلال عدم تمتع النخب الليبرالية الأوروبية بظهير شعبي كافي. ولا نريد الاستفاضة هنا في شرح تقييمنا السلبي لأداء أغلب القيادات الأوروبية –الليبرالية منها والشعبوية- وشكوكنا في قدرتهم على الارتقاء ليكونوا على مستوى التحدي.
أغلب السيناريوهات متشائمة، أتصور شخصيًا أن الرئيس الأمريكي حسم أمره وأنه لن يتراجع عن خياراته، قد يؤجل تفعيلها إن كان الثمن مغريًا، ولكنه لن يتخلى عنها، ما يمكن تغيير المشهد هو ارتكاب الرئيس بوتين لخطأ يدفع ترامب إلى تغيير سياساته، أو خسارة الجمهوريين الانتخابات النصفية القادمة.