توجت الزيارة التي قام بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى المغرب الأسبوع الماضي التقارب بين الدولتين، وفي هذه الزيارة، وهي الأولى منذ ٢٠١٨، أكّد الرئيس التحول الجديد (تم في أواخر يوليو الماضي) في موقف دولته من قضية الصحراء، وهو موقف يؤكد السيادة المغربية على الصحراء، إذ قال إن “حاضر ومستقبل الصحراء الغربية يتمان في إطار السيادة المغربية”.
هذا التحول يسمح بفتح صفحة جديدة من العلاقات الفرنسية المغربية، ومن العلاقات الفرنسية الجزائرية، ويعكس تخلي الرئيس ماكرون -ولو مؤقتًا- عن هدف رئيس من أهداف سياسته الخارجية وهو تحسين العلاقات مع الجزائر والمضيّ قدمًا في طريق مصالحة تاريخية بين البلدين، ويتبادل الطرفان الفرنسي والجزائري الاتهامات حول أسباب تدهور العلاقات.
في منتصف ٢٠٢٣، كانت العلاقات بين قيادات كل من فرنسا والدولتين المغاربيتين سيئة ومرشحة لمزيد من التدهور، رغم عمق وتنوع الصلات والروابط بين النخب السياسية والثقافية والفنية والاقتصادية والأمنية والعسكرية وبين الشعوب. وقررت القيادة الفرنسية أن إصلاح العلاقات مع المغرب أسهل. وتأسس هذا التقييم على عدة عوامل منها الفوارق بين ذاكرة الماضي الاستعماري في المغرب والجزائر، وطبيعة النظام الاقتصادي في كل منهما، ودوائر الاهتمام المشترك ونقاط الالتقاء بين باريس والرباط فيما يخص القضايا الثقافية والفرانكفونية من ناحية والأمنية من ناحية أخرى، ومركزية العداء لفرنسا في الرواية الوطنية الجزائرية، في حين أن الرواية الرسمية المغربية تشدد على الجمع بين الاحتفاظ والتباهي بالموروث والانفتاح على الآخر، وأخيرًا وليس آخرًا لا تُثير العلاقات مع المغرب الاستقطاب والتوترات في الداخل الفرنسي الذي تثيره العلاقات مع الجزائر، وأبدت المملكة من ناحيتها حرصًا كبيرًا على تنمية وتوثيق العلاقات مع المجتمع ومع النخب والفئات المؤثرة الفرنسية
عن عمق العلاقة بين البلدين
في فرنسا هناك ما بين ٨٥٠ ألفًا إلى مليون ونصف من حاملي الجنسية المغربية أو من ذوي الأصول المغربية، إلى جانب الفرنسيين الذين ولدوا في المغرب، ولهذه الفئات تواجد ملحوظ في النخب، منهم على سبيل المثال لا الحصر رئيس الوزارة السابق دومينيك دو فيلبان، من مواليد الرباط، وجان لوك ميلانشون زعيم حزب فرنسا العصية اليساري (مواليد طنجة)، ورشيدة داتي وزيرة الثقافة الحالية (والدها مغربي)، وأودري أزولاي مديرة عامة اليونسكو والوزيرة السابقة من أصول يهودية مغربية، والدها أندريه أزولاي صحفي فرنسي مغربي أحد مستشاري العاهلين المغربي حسن الثاني ومحمد السادس، وكان في وقت ما رئيس مؤسسة أنا ليند للحوار، ونجاة بلقاسم (فرنسية مغربية من مواليد المغرب) وزيرة التعليم السابقة، ونعيمة موتشو نائبة الرئيسة الحالية لمجلس الأمة الفرنسي، وإيريك بيسون وزير الصناعة السابق (من مواليد مراكش)، وعثمان نسرو وزير الدولة للمواطنة ومناهضة التمييز في الوزارة الحالية، وكريم بوعمران نجم صاعد في الحزب الاشتراكي. ومن الأدباء والمفكرين: طاهر بن جلون، وصفية عز الدين، وليلى سليماني، وفاطمة مرنيسي، وليلي بحسين. ومن الممثلين المعروفين: جمال دبوز، وجاد المالح، وجان رنو، والباريتون ديفيد سريرو، والدي.جي العالمي ديفيد جيطة، والمذيعة اللامعة روث إلكريف. وهناك عدد من رجال الأعمال والصناعة النافذين من أصول مغربية مثل ريشار عطية زوج طليقة الرئيس ساركوزي وغبريال بانون. وفي دائرة المقربين من الرئيس إيمانويل ماكرون بعض الفرنسيين من أصول مغربية، منهم ياسين بلعطار الذي صاحبه في زيارته الأخيرة للمغرب، مما أثار جدلًا في فرنسا لأسباب يطول شرحها. نكتفي هنا بالإشارة إلى أن الرئيس ومستشاريه يستمعون إليه في عدد من الملفات الخاصة بالضواحي ذات الأغلبية المسلمة وعلاقاتها بالدولة، ومنها ملف تبعات حرب غزة على الداخل الفرنسي، ويلاحظ ارتفاع نسبة المغتربين المغاربة أو الفرنسيين من أصل مغربي في القطاعات والشركات الفرنسية التقنيات الجديدة، وأن جامعة محمد السادس تكون عددًا كبيرًا من الكوادر الموهوبة.
وإلى جانب هؤلاء هناك العديد من أفراد النخب المرتبطين بالمغرب عبر الارتباطات الزوجية والصداقات والمصالح والتوجهات والتعاون الجامعي والثقافي والإداري.
وهناك أكثر من خمسين ألف فرنسي مقيم في المغرب (مقابل ٢٠ ألفًا في لبنان على سبيل المثال)، ويقطن أغلبهم المدن الساحلية والمناطق السياحية، ويلعب الطقس الدافئ دورًا هامًا في جاذبية المغرب، إلى جانب رخص تكاليف المعيشة، وتشريعات ضريبية جاذبة، وتعدد فرص العمل في الإدارات المغربية والشركات المغربية والأجنبية، ولا سيما في مجالات الطاقة والطيران وصناعة السيارات والسياحة. فرنسا تُعد المستثمر الأجنبي الأول في المغرب، ومقدار استثماراتها يفوق ١٥ مليار يورو، وهناك ألف شركة صغيرة ومتوسطة الحجم فرنسية تعمل هناك، و٧٠٠ شركة تابعة لشركات فرنسية كبيرة، والتواجد الفرنسي يخلق أكثر من مائة ألف وظيفة.
وبصفة عامة، تتمتع المملكة بسمعة طيبة للغاية في أغلب الأوساط السياسية والاقتصادية والثقافية والجامعية والاستخبارية والعسكرية الفرنسية (باستثناء عدد من فصائل اليسار صاحبة خطاب حقوقي)، لأسباب عديدة، منها التاريخي، عراقة المملكة، ومنها دور السلطان محمد الخامس في حماية اليهود أيام الحرب العالمية الثانية، ومنها عدد أفراد النخب المغربية المتقنين للفرنسية المتابعين للشئون الداخلية الفرنسية والمطلعين عليها، ومنها الميل إلى تجنب إلقاء الاتهامات حول الماضي الاستعماري، ومنها أن النخب الفرنسية حريصة على توصيل رسالة إلى الرأي العام المسلم بأن علاقات وثيقة وبناءة وقائمة على الصداقة بين الشعوب وليس فقط على المصالح ممكنة مع دول إسلامية، ومنها طبعًا أن المغرب وجهة سياحية في متناول الجميع، ومنها اتسام الخطاب الديني للمملكة بالاعتدال والانفتاح على الآخر، ودور المملكة في الدبلوماسية السرية والاتصالات والحوار الفلسطيني العربي الإسرائيلي، وتمد الأجهزة المغربية نظيراتها الأوروبية بمعلومات هامة عن الخلايا والشبكات الإرهابية العاملة أو النائمة في أوروبا.
وهناك تعاون عسكري، وفقًا لموقع وزارة الخارجية الفرنسية، حيث تقوم فرنسا، وفقًا لنصوص اتفاقية التعاون العسكري، بتنسيق وتنشيط أوجه وعمليات التعاون من خلال التشاور والتدقيق من أجل دعم عمليات تحديث القوات المسلحة الملكية. وبالإضافة إلى ذلك، توفر فرنسا فرص التدريب لأفراد القوات المغربية في فرنسا والمغرب. وهناك أيضًا توسع في تدريس اللغة الفرنسية في الأوساط العسكرية. وتعتمد فرنسا بشكل خاص على بعثتها العسكرية، ووحدة لدعم التعاون الدفاعي، فضلًا عن شبكة من الخبراء المبعوثين للعمل في/مع القوات الملكية.
تدريجيًا على مر السنين، شملت هذه الشراكة التاريخية بعدًا عملياتيًا استهدف رفع القدرات على التنسيق العملياتي البيني بين الوحدات، من خلال تبادل الخبرات والمعارف وتطوير القدرات على الاستجابة المشتركة في حالة حدوث أزمة. وتم تنفيذ التمرين القتالي الجوي الثنائي “تافيلالت” سنة 2019 فيما يتم تنظيم التمرين البحري المشترك سنويًا. ولكنه يبقى أن الجيش المغربي بات يعتمد أساسًا على شراكة تتجذر مع الولايات المتحدة، وأن المملكة تطور صناعتها الحربية بالشراكة مع الولايات المتحدة والهند، أي أن الدور الفرنسي تراجع إلى حد ما.
تدهور العلاقات في السنوات الماضية
يقر الصحفيون والخبراء المتابعون للعلاقات الفرنسية المغربية صعوبة تأريخ تدهور العلاقات أثناء السنوات الست الأولى من ولاية الرئيس ماكرون، إذ تبادل الطرفان اللوم والاتهامات، ما يمكن قوله إن المملكة لم تسترح لمحاولات الرئيس الفرنسي فتح صفحة جديدة في العلاقات الجزائرية الفرنسية، قائمة على ما يُسمى بسياسات الذاكرة، أي على اعتراف بخطايا فرنسا في الماضي، وبدورها في قتل أو اغتيال رموز من الثورة الجزائرية، والسعي إلى التوصل إلى كتابة مشتركة أو تصور مشترك للتاريخ. وسياسات الذاكرة تثير مشكلات أهمها فيما يخص هذه الدراسة هي تسببها في زيادة الاحتقان الداخلي والخارجي لقيامها بفتح ملفات وجروح قديمة، وحول مسألة تحديد التبعات القانونية والسياسية لهذا الإقرار بارتكاب خطايا، أي هل هذا الإقرار يرتب التزامات بتعويضات أو باصطفاف.. إلخ، وأخيرًا أي إقرار بخطايا تجاه بلد يولد طلبات بإقرارات مماثلة من قبل دول أخرى.
إلى جانب تحول ملف علاقات فرنسا مع كل من الجزائر والمغرب إلى مباراة صفرية، فأي تحسن في العلاقات مع إحداهما بات حاملًا لتدهور في العلاقات مع الأخرى، انفجرت عدة أزمات بين الدولتين، أهمها في نظر الرئاسة الفرنسية قيام المخابرات المغربية بالتنصت على التليفون المحمول للرئيس ماكرون، وهو كثير الاستخدام له في إدارة شئون الدولة، وقيام نواب حزبه في البرلمان الأوروبي بالتصويت لصالح قرارات تنتقد وتشجب أداء النظام المغربي، وجدير بالذكر أن رئيس المجموعة البرلمانية للحزب في البرلمان الأوروبي لعب دورًا في الحشد ضد المغرب، ثم أصبح فيما بعد سكرتيرًا عامًا للحزب ثم وزيرًا للخارجية، خلفًا لوزيرة كانت معروفة بعلاقاتها الجيدة مع المملكة.
وفي السنوات الماضية (ما بين ٢٠١٧ و٢٠٢٣) تم التحقيق في فرنسا وبلجيكا وإيطاليا حول قضايا تتعلق بنشاط المملكة في أوروبا، بعضه استخباري، يتعلق بتجنيد كوادر أمنية وبمكافحة الإرهاب من ناحية وبمراقبة التحركات الجزائرية من ناحية أخرى، وبعضه مالي سياسي؛ إذ تم التحقيق في قضايا فساد في البرلمان الأوروبي وفي قيام كل من قطر والمغرب بدفع أموال غير معلن عنها للتأثير على مواقف وخيارات وعمل مؤسسات الاتحاد الأوروبي، فيما يخص مسألة الصحراء الغربية واتفاقيات صيد الأسماك في البحار والزراعة.
ومن أهم مظاهر وأسباب التوتر قيام السلطات الفرنسية في خريف ٢٠٢١ بتخفيض حاد في عدد التأشيرات الممنوحة للمغاربة، وقالت إن هذا يعود إلى عدم تعاون السلطات المغربية في عمليات ترحيل من يصدر في حقه أمر بإجباره على مغادرة فرنسا من المواطنين المغاربة وتسهيل عودتهم إلى بلدهم، واعتبر هذا القرار “كارثيًا فيما يخص العلاقات الثنائية” (وفقًا لمقالات صحفية فرنسية) و”مهينًا” في المغرب، واضطرت السلطات الفرنسية إلى التراجع في نهاية سنة ٢٠٢٢، ولكن القرار ترك آثارًا وجروحًا لآثاره على العلاقات العائلية في الأسر المتواجد أفرادها في البلدين، وأعربت المملكة عن استيائها بوسائل وأدوات مختلفة أبرزها تجاهل عرض الحكومة الفرنسية بالمساعدات الإنسانية بعد زلزال سبتمبر ٢٠٢٣، والتأخر في تعيين سفير للمغرب في باريس.
في أكتوبر ٢٠٢٣ تم تعيين سفيرة مغربية في باريس، وسيادتها إعلامية بارزة وليست دبلوماسية محترفة، حاملة للجنسيتين المغربية والفرنسية، وفهم الإعلام الفرنسي هذا التعيين على أنه يعكس رغبة في عدم حصر التواصل على الدوائر السياسية والدبلوماسية، وعلى فتح صفحة جديدة في العلاقات.
رأب الصدع بين فرنسا والمغرب
تُفسر عدة عوامل الرغبة المشتركة في تدفئة العلاقات، ومنها تدهور العلاقات مع الجزائر بصفة عامة، والتصريحات الجزائرية أيام “انتفاضة الضواحي” في فرنسا (في صيف ٢٠٢٣) بصفة خاصة، والتقارب بين الجزائر وكل من روسيا والصين وإيطاليا، ومنها تراجع التواجد الفرنسي واهتزاز صورتها في القارة الأفريقية بصفة عامة وفي الساحل والصحراء وليبيا بصفة خاصة، حيث خسرت عددًا من الحلفاء، وتدهورت علاقاتها مع تونس، أما فيما يخص المملكة فهي لا تريد وضع كل البيض في سلة أمريكية إسرائيلية، وتريد جذب الاستثمارات الفرنسية، والنخب المغربية تعرف فرنسا ولغتها ونخبها وثقافتها وفصائلها وتجد أن التعامل معها أسهل إلى حدٍّ ما.
لم يؤدِّ تعيين وزيرة خارجية معروفة بروابطها مع المغرب من سنة ٢٠٢٢ إلى بداية ٢٠٢٤ إلى تحسن واضح في العلاقات، ولكن الوزير الذي تولى المنصب بعدها قام بزيارة رسمية للمغرب في نهاية فبراير ٢٠٢٤ وقال إن فرنسا تُريد تعميق وتطوير علاقاتها مع المغرب، وقبل هذه الزيارة بعشرة أيام أرسل العاهل المغربي شقيقاته إلى باريس حيث التقين وحرم رئيس الجمهورية الفرنسي وتناولن معًا غداء عمل. ووفقًا لمصادر صحفية لعب كل من مستشار الرئيس الدبلوماسي إيمانويل بون، ومستشار الملك فؤاد عالي الهمة، دورًا محوريًّا في عمليات التقارب، شأنهما شأن وزير الاقتصاد والمالية آنذاك برونو لومير ووزيرة الثقافة الفرنسية رشيدة داتي، وتقول المصادر نفسها إن تغيير القيادة في الاستخبارات الفرنسية أفقد الجزائر نصيرًا قويًّا.
وفي نهاية يونيو، تمّ إعلان موقف فرنسا الجديد من قضية الصحراء الغربية، تبنت فيه موقف المغرب وقالت إن هذا الموقف سيحدد تحركها مستقبلًا، وجاء في البيان الرئاسي: “إن حاضر ومستقبل الصحراء الغربية يتحددان في إطار السيادة المغربية”، ويُضيف البيان: “بالنسبة لفرنسا، فإن الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية هو الإطار الذي يجب من خلاله حل هذه المسألة. إن دعمنا لخطة الحكم الذاتي التي اقترحها المغرب عام 2007 واضح وثابت”. وأكد أن الخطة المغربية “تشكل الآن الأساس الوحيد للتوصل إلى حل سياسي عادل ودائم ومتفاوض عليه وفقًا لقرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة”. وقال البيان: “إن التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستمرة لهذه المنطقة أمر ضروري، وأنا أرحب بكل الجهود التي يبذلها المغرب في هذا الصدد، وستدعمه فرنسا في هذا النهج لصالح الساكنة المحلية”. ورحب الديوان الملكي، في بلاغ صحفي، قائلًا إن “هذا الإعلان الصادر عن الجمهورية الفرنسية، العضو الدائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، يُشكل تطورًا مهمًّا وهامًّا لدعم السيادة المغربية على الصحراء”.
زيارة الرئيس الفرنسي للمغرب
ثم جاءت الزيارة التي قام بها الرئيس الفرنسي للمملكة في آخر أسبوع من أكتوبر، وصاحب الرئيس وفد كبير، قوامه أكثر من مائة وعشرين فردًا، منهم رئيسا مجلسي الأمة والشيوخ، ومنهم تسعة وزراء، منهم وزراء الداخلية والحربية والمالية، وأربعون رئيس شركة ورجال أعمال، ولفيف من نجوم الفن والرياضة، وعدد من الجامعيين، والناشط الفرنسي المغربي ياسين بلعطار. وأثار وجود بلعطار في الوفد انتقادات فرنسية وأخرى مغربية، ففي فرنسا هو محكوم عليه بالسجن مع إيقاف التنفيذ وفي المغرب ظهر أمام جلالة الملك بثياب غير لائقة.
ألقى الرئيس كلمةً أمام البرلمان المغربي في يوم ٢٩ أكتوبر، كرر فيها موقفه من مسألة الصحراء الغربية، وتم توقيع العشرات من العقود خلال هذه الزيارة بقيمة تناهز العشرة مليار يورو، هذه العقود تتعلق بقطارات فائقة السرعة والبنية المرافقة لها، وبمحطات تحلية المياه، وبمجال الطاقة الخضراء، وببيع قمر صناعي، وإقامة مواقع لصيانة وإصلاح موتورات الطائرات، وتطوير ميناء.
في بدايات شهر أكتوبر، أي قبل الزيارة بأسابيع، سادت مخاوف من تدهور جديد في العلاقات بعد أن قال وزير الداخلية الفرنسي الجديد، السيد برونو روتايو، إنه قد يعود إلى سياسة تقليل عدد التأشيرات ما لم يتم تحقيق تقدم في ملف طرد المهاجرين غير الشرعيين وفي تجاوب السلطات المغربية مع المطالب بتسهيل ترحيلهم، ولكنه عدل عن هذا الخطاب في النصف الثاني من الشهر، وأشاد بالمملكة ووصفها بالبلد الكبير والآمن وبالدولة الصديقة. ومن ناحيته وفي الفترة نفسها دعا وزير الخارجية الفرنسي، السيد جان نويل بارو، إلى “استخلاص الدروس من أخطاء الماضي”، وأضاف: “يجب علينا معالجة قضية (الهجرة) هذه في إطار شراكة دائمة وحوار دولي”، وعلق نائب فرنسي (من أحد أحزاب الوسط) على الملف قائلًا إن عهد “لي الذراع” ولّى ولم يعد هذا الأسلوب ممكنًا.
وكان الوزير روتايو في الوفد الذي صاحب الرئيس، وقابل نظيره المغربي، ووزير الشئون الإسلامية، السادة عبد الوافي لفتيت وأحمد التوفيق، ووفقًا لجريدة “لوفيجارو” وعد المسئولون من البلدين بالعمل معًا على “تقصير المدد” و”القيام بعمل أفضل” فيما يتعلق بعمليات الترحيل. وأوضح مساعدو الوزير الفرنسي قبل الاجتماع أن “الهدف هو إنشاء إطار للمناقشة يسمح لنا بأن نكون أكثر فاعلية”. مع توفير، على سبيل المثال، القدرة على إرسال قائمة بأسماء المواطنين الذين سيتم ترحيلهم بشكل عاجل إلى كبار المسئولين المغاربة، وأوضحت الرئاسة الفرنسية أن فرنسا تريد العمل على “تسهيل التنقل القانوني” من ناحية و”مكافحة الهجرة غير الشرعية” من ناحية أخرى.
ونجح الطرفان في تفادي إفساد أجواء المصالحة بخلاف علني حول هذا الملف الشائك، وتمت الإشارة إلى موضوع الهجرة في إعلان مشترك وقّعه إيمانويل ماكرون ومحمد السادس يوم الاثنين ٢٨ أكتوبر.
وتطرق الوزراء إلى ملف شائك آخر هو مكافحة المخدرات، حيث قال وزير الداخلية الفرنسي في تصريحات لفتت الأنظار في الشهر الماضي إن فرنسا تواجه “نقطة تحول” أو “نقطة انزلاق” فيما يتعلق باقتصاد وتجارة المخدرات، إذ اتسع نطاقهما وحجم الأموال المنخرطة فيه، وتقول التقارير الرسمية –منها تقرير لمجلس الشيوخ صدر في مايو الماضي- إن شبكات المخدرات باتت عابرة للدول، متعددة الجنسية، ومتواجدة في المدن والأرياف، ومالكة لأسلحة ثقيلة، وتجند أعدادًا متزايدة من الشباب القاصر، وعلى العموم قال الوزير روتايو في تعبير صادم إن فرنسا في طريقها إلى “المكسكة”، أي تتحول إلى مكسيك آخر. وهناك في فرنسا من يقلل من جسامة المشكلة ويزعم أن الوزير يوظف الملف لأغراض سياسية، ولكن مجلس الشيوخ – وهو مجلس يحاول تفادي الانزلاق إلى وحل المناورات السياسية الرخيصة- أصدر تقريرًا مطولًا حول هذه القضية في مايو الماضي، قال فيه إن عددًا من الدول منها دول عربية في الخليج وفي المغرب العربي باتت بمثابة “قاعدة خلفية” لهذه التجارة، وعلى العموم أشاد الطرفان بمتانة التعاون بينهما في هذا الملف، ولكن المقالات الصحفية التي تناولت هذه القضية قبل الزيارة لا تؤيد هذا التشخيص.
وقبل العاهل المغربي دعوة رسمية إلى زيارة فرنسا.
خاتمة
العلاقات الفرنسية المغربية متشعبة، وأسسها متينة، وهي نسبيًّا سلسلة على المستويين الحكومي والشعبي، لا يعني هذا أن الخلافات مستحيلة، بل يعني في آن واحد أنها قد تحدث وقد تتفاقم بسرعة، وقد تكون عميقة، ولكن تجاوزها ممكن دائمًا، لوجود قواعد اجتماعية عريضة نسبيًا وهامة ومتنوعة لها مصالح وتوجهات سياسية وفكرية وهوياتية تدفعها إلى العمل على رأب الصداع.
تقول بعض التيارات اليسارية إن النظام المغربي يحسن تنظيم شبكات وحملات علاقات عامة في باريس وعواصم أوروبية أخرى تروج له وتدافع عن مصالحه، و/أو أن الجماهير العريضة في المغرب لا تستفيد بالقدر الكافي من عوائد هذه العلاقات الوثيقة مع دول الغرب، و/أو أن دعم المملكة هو دعم لممارسات قمعية، ولكن هذا الكلام يفترض من ناحية أن الأصل أن العلاقات الخارجية تفيد كل فئات الشعب أيًّا كان بدرجات متساوية، ومن ناحية أخرى أن نقاط التلاقي ستختفي وتزول إن اختفى هذا الدعم الملكي والحكومي، ولا يوجد ما يؤكد صحة هذا الكلام.
لا شك أن الزيارة الأخيرة فتحت بابًا جديدًا في طريق العلاقات الفرنسية المغربية، وأن المستقبل واعد، وأن الطرفين يملكان معارف وأدوات وموارد تدفع إلى توازن محمود في التعامل، وقد تتطور العلاقة لتكون استراتيجية وخاصة جدًّا، ولكن التعقيدات البيروقراطية وقصور الأجهزة في تعاملها مع المشكلات اليومية التي تعتري الطريق واستحالة توقع سلوك النخب الفرنسية المتقلبة، واحتمال وجود مستجدات في العلاقات الفرنسية الجزائرية، كل هذا يعني أنه لا يمكن استبعاد انفجار أزمات أخرى.