مقدمة
يواجه قطاع التعليم في غزة تحديات غير مسبوقة بعد موجات الدمار التي طالت البنية التحتية للمدارس؛ مما جعل استئناف العملية التعليمية مهمة شاقة تتطلب حلولًا عاجلة ومستدامة. ومع تصاعد الحاجة إلى إعادة الإعمار، يصبح من الضروري وضع خطط مدروسة تستند إلى تحليل جغرافي دقيق للمدارس الأقل تضررًا والقابلة للتعافي، إلى جانب دراسة التجارب الدولية الناجحة التي يمكن الاستفادة منها في تسريع وتيرة الإعمار.
في ظل هذه الظروف، تبرز الفرصة لإعادة بناء قطاع التعليم بطريقة أكثر كفاءة واستدامة، ليس فقط عبر ترميم المدارس، ولكن من خلال تطوير نموذج تعليمي قادر على الصمود أمام الأزمات المستقبلية. ومن هنا، تأتي أهمية وضع خطة تنفيذية متكاملة تستهدف تحقيق مكاسب سريعة، وتضمن استمرارية التعليم كحق أساسي لكل طفل في غزة.
خريطة التعافي: من أين تبدأ خطط إعادة الإعمار؟
تعتمد جغرافية إعادة إعمار المدارس في غزة على تحليل التوزيع الجغرافي للبنية التحتية للمدارس بحسب حجم الضرر، بهدف تحديد أولويات التدخل السريع واستئناف العملية التعليمية بأسرع وقت ممكن؛ إذ تتباين جغرافيًا مستويات الضرر التي لحقت بالمدارس بحسب البيانات المستندة إلى تقييمات الأقمار الصناعية Insecurity Insight والجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني PCBS، والتي تم تطويرها ضمن لوحة بيانات SDGs Today باستخدام أدوات Esri GIS، شكل (1).
شكل (1): لوحة البيانات الجغرافية حول الهجمات على المرافق التعليمية في قطاع غزة مايو 2021-يوليو 2024
تُظهر قواعد البيانات الجغرافية السابقة اختلافًا في تمركز الضرر جغرافيًا تبعًا لمناطق الاستهداف؛ حيث تتركز المدارس القابلة للتعافي في المناطق الأقل تعرضًا للضربات المباشرة، مثل بعض أحياء وسط غزة وخان يونس. أما المدارس المتضررة جزئيًا، فهي تنتشر في مناطق قريبة من مراكز الاستهداف العسكري؛ حيث تعرضت البنية التحتية لأضرار جزئية في الفصول والمرافق الأساسية. في المقابل، توجد المدارس المدمرة كليًا في المناطق والأحياء التي شهدت أعنف الهجمات كما هو الحال في مدينة غزة وجباليا، لذا يجب أن تركز خطط التعافي على نهج مرحلي، يبدأ بإعادة تأهيل المدارس المتضررة جزئيًا، ثم الانتقال إلى إعادة بناء المدارس المدمرة بالكامل.
وفقًا لما تقدم، يمكن تصنيف المدارس وفقًا لدرجة الضرر الذي لحق بها إلى ثلاث فئات رئيسية؛ هي: المدارس الأقل تضررًا والقابلة للتعافي بسرعة، المدارس المتضررة جزئيًا والتي تحتاج إلى إصلاحات متوسطة، والمدارس المدمرة كليًا التي تتطلب إعادة بناء شاملة، وبتحليل عدد الهجمات الأقل نسبيًا على المدارس والمرافق التعليمية، يمكن تحديد المناطق الأكثر جاهزية لاستئناف العملية التعليمية على النحو التالي:
- المناطق الريفية والضواحي الأقل تضررًا
- دير البلح والمغازي وبيت لاهيا والمناطق المحيطة بها: حيث تُظهر الخريطة عددًا أقل من الهجمات مقارنةً بمدينة غزة وخان يونس؛ مما يعني أن المدارس لا تزال قائمة نسبيًا ويمكن إعادة تشغيلها بشكل أسرع.
- المناطق التي لم تشهد تدميرًا كليًا للبنية التحتية
- شرق غزة (مناطق قريبة من الحدود الشرقية): رغم وقوع بعض الهجمات، فإن قلة الكثافة السكانية الكبيرة مقارنة بمركز مدينة غزة يقلل من تعقيدات إعادة التعليم.
- المناطق التي تمتلك مباني بديلة صالحة للاستخدام
- المرافق الحكومية والمباني العامة التي لم تتضرر بشدة يمكن تحويلها إلى صفوف دراسية مؤقتة مثل:
- المراكز المجتمعية والمساجد.
- بعض الجامعات أو المدارس غير المتضررة بشكل كامل.
- المرافق الحكومية والمباني العامة التي لم تتضرر بشدة يمكن تحويلها إلى صفوف دراسية مؤقتة مثل:
وبشكل تفصيلي وأكثر دقة، دشنت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) لوحة بيانات تفاعلية UNICEF GIS، لتوفر تحليلًا جغرافيًا مستندًا إلى البيانات المكانية حول تأثير الصراع في التعليم في قطاع غزة بالاعتماد على صور الأقمار الصناعية والتقييمات الميدانية لتحديد حالة المنشآت التعليمية ومستويات الضرر التي تعرضت لها عبر تصنيف خماسي على النحو التالي: شكل (2).
- إصابة مباشرة: استهداف مبنى مدرسة واحد على الأقل بشكل مباشر، وتحديد مبنى مدرسي واحد على الأقل متضرر داخل حرم المدرسة.
- أضرار محتملة: تحديد موقع متضرر واحد على الأقل على بعد 70-100 متر من مباني المدرسة (قد يشير ذلك إلى أضرار طفيفة في أبنية المدرسة)، شكل (3).
- أضرار محتملة بشكل كبير: تحديد موقع متضرر واحد على الأقل على بعد 30-70 مترًا من مباني المدرسة (قد يشير ذلك إلى أضرار متوسطة في أبنية المدرسة).
- متضررة: تحديد موقع متضرر واحد على الأقل على بعد أقل من 30 مترًا من مباني المدرسة (قد يشير ذلك إلى أضرار جسيمة في أبنية المدرسة).
- غير محدد: مباني المدارس التي لم يتم الإبلاغ عن مواقع متضررة ضمن نطاق 100 متر (قد يشير ذلك إلى أن أبنية المدرسة لم تتعرض لأضرار).
شكل (2): لوحة البيانات الجغرافية حول تأثير الصراع في التعليم في قطاع غزة
المصدر/ UNICEF GIS
شكل (3): لوحة بيانات جغرافية حول تصنيف حجم الضرر (أضرار محتملة) بمدرسة الزيتون الإعدادية بنين بمدينة غزة
المصدر/ UNICEF G4IS
بغض النظر عن كون تصنيف المدارس وفق مستوى الضرر ثلاثيًا أو خماسيًا، فإن إتاحة البيانات الجغرافية تتيح رسم خريطة لتعافي التعليم في غزة، من خلال وضع خطط عاجلة تركز على توجيه الموارد بفاعلية وتعزيز استمرارية التعليم عبر التعاون الدولي لضمان استعادته بكفاءة.
تجارب وفرص: ركائز وممكنات الخطط العاجلة
هناك العديد من التجارب الدولية الناجحة في إعادة إعمار المدارس واستئناف العملية التعليمية في مناطق النزاعات والكوارث، ففي رواندا، خلفت الإبادة الجماعية عام 1994 دمارًا كبيرًا في البنية التحتية التعليمية، وبالرغم من ذلك نجحت الحكومة الرواندية، بدعم من اليونيسف والبنك الدولي، في إعادة بناء المدارس وإطلاق برامج تدريب مكثفة للمعلمين؛ مما ساعد على تحقيق نسب التحاق مرتفعة وتحسين جودة التعليم في العقود اللاحقة.
وفي أفغانستان، وتحديدًا بعد سقوط نظام طالبان عام 2001، كانت نسبة التحاق الفتيات بالمدارس شبه معدومة، ومعظم المدارس كانت مدمرة؛ لذا أطلقت الحكومة الأفغانية، بالتعاون مع اليونسكو والبنك الدولي، برامج إعمار تضمنت بناء مدارس جديدة، وتوفير فصول دراسية مؤقتة، وإدخال مناهج تعليمية جديدة، علاوة على حملات مخصصة لاستقطاب الفتيات وإعادتهم للمدارس، بالإضافة إلى الاستفادة من التعليم عن بعد عبر الراديو والتلفزيون للوصول إلى المناطق النائية والمحرومة من التعليم في أفغانستان حينها.
في سياق شبه مماثل، تعرضت العراق لدمار واسع في بنيتها التحتية التعليمية بعد الغزو الأمريكي 2003، وتفاقم الأمر مع ظهور تنظيم داعش، ولتخطي ذلك تم تنفيذ عدد من البرامج الدولية بالشراكة مع البنك الدولي واليونيسف لإعادة بناء المدارس في العراق، وتحسين تدريب المعلمين، واستخدام حلول تعليمية متنقلة مثل الفصول الدراسية المتنقلة والمدارس الذكية.
على صعيد الكوارث الطبيعية، تبرهن تجربة اليابان بعد زلزال وتسونامي 2011 على فرص إعادة إعمار المدارس، فقد تسبب الزلزال في تدمير آلاف المدارس، إلا أن الحكومة اليابانية تمكنت بسرعة من إنشاء مدارس مؤقتة مجهزة بالتكنولوجيا، ووفرت خططًا تعليمية طارئة تعتمد على التعلم الرقمي، كما ركزت على برامج الدعم النفسي لمساعدة الأطفال والمعلمين على تجاوز آثار الكارثة.
تحمل كل تجربة من التجارب السابقة بصمتها الخاصة؛ حيث تلعب العوامل الجغرافية، والتغيرات السياسية، والتفاوت الزمني، دورًا أساسيًا في تشكيل استراتيجيات وخطط إعادة الإعمار، إلا أنه يمكن ملاحظة وجود قواسم مشتركة أهمها: الاستفادة من الدعم الدولي، وتوظيف التكنولوجيا الحديثة، وتطبيق النماذج المبتكرة. ومع ذلك، فإن مقارنة هذه التجارب بالمشهد في غزة اليوم يجب أن يأخذ بعين الاعتبار التحولات السياسية والاقتصادية العالمية من ارتفاع معدلات التضخم التي ستؤثر حتمًا في تكاليف إعادة البناء، علاوة على تعقيدات موازين القوى السياسية والتي ستحدد فرص التعاون الدولي والدعم المالي.
لذا من الضروري أن تتضمن الدراسة المعيارية للاستفادة من التجارب السابقة مراعاة السياق الخاص بغزة في ضوء عدد من المرتكزات والممكنات لبناء وتنفيذ خطط إعادة الإعمار العاجلة، ومنها:
- تقييم الأضرار والاحتياجات: يجب إجراء مسح شامل لتحديد حجم الأضرار التي لحقت بالمنشآت التعليمية وتحديد الأولويات لإعادة الإعمار عبر دراسة تحليلية دقيقة للوضع الراهن تتضمن إعداد ملف تفصيلي لكل منطقة وربما لكل مدرسة.
- إعادة بناء وتأهيل المباني المدرسية: يتطلب ذلك تصميم وبناء مدارس جديدة وترميم المتضررة، مع مراعاة معايير السلامة والجودة لضمان بيئة تعليمية مناسبة.
- توفير المواد التعليمية والمعدات: يشمل ذلك توفير الكتب الدراسية، الأدوات التعليمية، والأثاث اللازم لضمان استمرارية العملية التعليمية.
- دعم الصحة النفسية: نظرًا للآثار النفسية السلبية التي خلفتها الحروب على الطلاب والمعلمين، يجب تقديم برامج دعم نفسي واجتماعي للإسهام في التعافي النفسي.
- تطوير البنية التحتية للتعليم عن بُعد: في ظل التحديات المستمرة، يعد تعزيز قدرات التعليم الإلكتروني أمرًا ضروريًا لضمان استمرارية التعليم في حالات الطوارئ.
- التعاون الدولي والمحلي: يتطلب إعادة الإعمار تنسيقًا مشتركًا بين الجهات الحكومية، المنظمات الدولية، والمؤسسات المحلية لضمان توفير التمويل والخبرات اللازمة.
- تأمين التمويل المستدام: يجب حشد الموارد المالية من الدول المانحة، المؤسسات الخيرية، والقطاع الخاص لضمان استمرارية عمليات إعادة الإعمار.
- إزالة القيود اللوجستية: تسهيل دخول مواد البناء والمعدات إلى غزة يعد أمرًا حيويًا لتسريع عمليات إعادة الإعمار.
- مشاركة المجتمع المحلي: إشراك المجتمع المحلي في عملية التخطيط والتنفيذ يضمن تلبية الاحتياجات الفعلية وتعزيز الشعور بالملكية والمسئولية.
- الشفافية والمساءلة: ضمان وجود آليات رقابة فاعلة لمتابعة تنفيذ المشاريع والتأكد من استخدام الموارد بشكل صحيح وفق مؤشرات أداء واضحة يمكن قياسها وتتبع تقدمها نحو المستهدف.
- الاستقرار السياسي والأمني: تجدر الإشارة إلى أن نجاح جهود إعادة إعمار المدارس في غزة يعتمد بشكل كبير على الاستقرار السياسي والأمني في المنطقة، بالإضافة إلى التزام المجتمع الدولي بتقديم الدعم اللازم.
في الختام: يبقى الاستثمار في التعليم هو المفتاح الأساسي لمستقبلٍ أكثر استقرارًا وازدهارًا لأطفال غزة؛ مما يستوجب تضافر الجهود لضمان حقهم في التعلم ضمن بيئة آمنة ومجهزة، قادرة على دعم تطورهم الأكاديمي والنفسي، وعليه فإن نجاح الخطط العاجلة لإعادة إعمار المدارس في قطاع غزة مرهون بإنهاء الحرب، ومدى القدرة على تأمين التمويل المستدام، وتعزيز التعاون الدولي، مع ضمان الشفافية والمساءلة في تنفيذ المشاريع ذات الصلة.


