منذ نهاية ولاية الرئيس بوش الابن الثانية، تتوالى التحذيرات الأمريكية لأوروبا، ومفادها “مع صعود الصين علينا التفرغ لمسرح المحيطين الهادي والهندي، وعلى الدول الأوروبية أن تضاعف جهودها في مجال الدفاع والجيوش، وأن تضطلع بدور أكبر وربما رئيسي في الدفاع عن نفسها”. ورغم تكرار هذه التحذيرات –أحيانًا بلغة دبلوماسية وأحيانًا أخرى بلغة خشنة- ظلت الدول الأوروبية تقلل من إنفاقها على الدفاع إلى أن قامت روسيا بغزو جزيرة القرم سنة ٢٠١٤، وإلى أن تولى الرئيس دونالد ترامب الرئاسة في مطلع سنة ٢٠١٧، الذي أكثر من التصريحات الكاشفة عن رغبة في التخلي عن الالتزامات التي تترتب على المادة الخامسة من معاهدة الحلف الأطلسي، ولكنه –أيامها- لم يتخذ خطوات مؤثرة في هذا الاتجاه، مكتفيًا بالضغط الشديد على أوروبا لترفع من النسب المخصصة للإنفاق العسكري، وفي ظل ما يبدو واضحًا اليوم لم يستطع الرئيس ترجمة رغباته إلى أفعال، إما لأنه اضطر إلى الاعتماد على كوادر جمهورية لا ترى رأيه، وإما لأنه رغب في ولاية ثانية ولأن سيطرته على الحزب الجمهوري لم تكن محكمة كما هي اليوم.
مالت القيادات الأوروبية إلى اعتبار الولاية الأولى للرئيس ترامب حادثًا استثنائيًا لن يتكرر، وأبدت إدارة الرئيس بايدن مرونة ملحوظة في بعض الملفات (نور ستريم مثلًا)، وبدت أكثر تفهمًا وربما قبولًا للمواقف الأوروبية، وتصور الأوروبيون أن الأمور عادت إلى مسارها العادي، تعاون أمني وعسكري وتنافس تجاري واقتصادي وود وتقدير؛ كل ذلك مصحوب بخلافات وربما توتر، وبذلوا مجهودًا كبيرًا لمواجهة جائحة الكوفيد، ولقضايا اجتماعية أخرى، منها الهجرة وتبعات التغير المناخي، ثم فوجئ الكل –باستثناء الولايات المتحدة- بالغزو الروسي لأوكرانيا، وفي نهاية شهر فبراير ٢٠٢٢ أي بعد أقل من أسبوع من بداية الغزو أعلن المستشار الألماني أولاف شولتز أن أوروبا دخلت حقبة تاريخية جديدة، وساد الرعب في برلين، لا سيما بعد أن كشف رئيس الأركان عن مدى عدم جاهزية قواته، التي يمكن أن توصف بالهزلية، وأعلن المستشار شولتز عن تأسيس صندوق ومائة مليار يورو للإنفاق الدفاعي، ولكن الرعب تلاشى –وإن بقي القلق- بعد أن أوقفت أوكرانيا –على عكس التوقعات- التقدم الروسي؛ مما حث الدول الغربية على دعمها بقوة، لمزيج من الاعتبارات الأخلاقية والقانونية والاستراتيجية، واستنزاف الجيش الروسي.
في نهاية سنة ٢٠٢٢ وبعد ارتكابه لعدة أخطاء أوشك الجيش الروسي على الانهيار؛ مما دفع الكل إلى الخوف من لجوء موسكو إلى السلاح النووي التكتيكي، ففرمل الغربيون التقدم الأوكراني، واستطاع الجيش الروسي أن يعيد تنظيم نفسه، والتعلم من أخطائه، ولكن نقطة التحول الكبرى كانت فشل الهجوم الأوكراني في صيف ٢٠٢٣؛ مما أتاح لموسكو استرداد المبادرة على مسرح العمليات، ساعدها في ذلك تردد الدول الغربية لا سيما الولايات المتحدة وألمانيا وخوفها من تصعيد لا يمكن ضبطه، إن تجاوزن ما افترض أنه خطوط حمراء روسية، وأمدن كييف بمنظومات أسلحة معينة، وحرص الغربيون على وضع قيود على استخدام أوكرانيا للسلاح الغربي، ثم عطل الكونجرس الأمريكي – وأغلبيته الجمهورية- للدعم العسكري لأوكرانيا لمدة فاقت الستة أشهر، ومن ناحية أخرى أثرت الخلافات في القيادة الأوكرانية على أداء القوات، ورفضت القيادة السياسية الأوكرانية خفض سن التجنيد. ويتلخص حصاد سنة ٢٠٢٤ في تقدم الجيش الروسي تقدمًا ملحوظًا، دون احراز انتصار حاسم، ومع خسائر فادحة في الأرواح والمعدات وإنهاك اقتصادي للدولتين.
ووصل الرئيس ترامب إلى سدة الحكم للمرة الثانية، وكان مركزه أقوى، لأنه حقق انتصارًا كبيرًا (ليس ساحقًا على عكس ما يدعيه) في انتخابات الرئاسة، ولأنه قدر على تشكيل إدارة همش فيها الكوادر الجمهورية التقليدية، ومكن فيها أجنحة وتيارات مختلفة إما انعزالية أم إمبريالية، تمثل بعض فصائل الرأسمالية الكبيرة، وتيارًا شعبيًا تكره المدن الكبرى ونخبها المؤمنة بدور عالمي للولايات المتحدة.
هناك اجتهادات كثيرة تحاول استخلاص المنطق الحاكم لسياساته الخارجية، ولا أزعم أنني اطلعت على كل المنشور، هناك من يرى أن سياساته بلا منطق، قائمة على انفعالات عصبية وتصورات سطحية لا تدرك ولا تفهم تعقد المنظومات لا سيما التجارية والصناعية والشبكات والواقع، وتسعى إلى تصفية حسابات حقيقية أو متخيلة، وهناك من يقول أن الرئيس يري أن تحقيق الاستقرار العالمي يقتضي توافقًا أو على الأقل تواطؤ الدول الكبرى –الولايات المتحدة وروسيا والصين- على تقسيم العالم إلى مناطق نفوذ، لكل منها منطقتها، وكل منها حر إلى حد ما في منطقته، ومن يذهب إلى أنه يتصدى لصعود الصين، وأنه يريد لذلك تقليل أعباء الدفاع عن أوروبا والوصول إلى توزيع جديد للمهام، والتفرغ لمسرح المحيطين الهادي والهندي، ويريد تفكيك الشراكة الصينية الروسية، و/أو في الوقت ذاته يسعى إلى تفكيك الاتحاد الأوروبي وتمكين حكومات شعبوية تنتمي إلى أقصى اليمين في كل دول أوروبا، وهناك من يكتب أنه يريد تدمير منظومة الاقتصاد العالمي والتجارة الحرة ودعم التنمية في العالم وإضعاف المنظومات العالمية للتعليم الجامعي وللبحث العلمي وللناشطية الحقوقية لأنها أضرت –وفقًا له- بالولايات المتحدة أو على الأقل بناخبيه، و/أو أنه يتعمد تخفيض قيمة الدولار على أمل أن هذا يدعم إعادة التصنيع في الولايات المتحدة والصادرات الأمريكية ويقلل من العجز التجاري الأمريكي، كل هذا تحسبًا لمواجهة حتمية مع الصين، وهناك من يرى أنه يريد فقط إرضاء قاعدته الانتخابية وبث الرعب في صفوف الشركاء ليقدموا تنازلات مهمة للولايات المتحدة، أو أنه يطبق منهجًا هو منهج التظاهر بالجنون ليسعى الكل إلى اتقاء شره بتقديم تنازلات.
وأيًا كان التفسير الأرجح يرى أغلب المحللين أن سياساته شديدة الخطورة، وأنها على أحسن الفروض مقامرة قد تنجح ولكنها غالبًا فاشلة، وعلى أسوئها وصفة مضمونة للفشل الذي سيفقر الكل بدءًا بالأمريكيين أنفسهم، أميل شخصيًا إلى القول أن الرئيس يتقدم بحلول خاطئة وشديدة الخطورة لمشكلات حقيقية فضل أسلافه تجاهلها، أو عجزوا عن التعامل معها، وأنه يتصرف وكأنه لا يعي أن مواجهة دولة عملاقة كالصين تقتضي ضمان وجود حلفاء أقوياء إلى جانب واشنطن، وكأنه لا يدرك أن رفع الرسوم الجمركية لن يكفي لوحده لإعادة توطين الصناعات في البلاد على فرض أن هذا أمر مطلوب ومحمود –ولا أرى هذا- وأن هذه العملية لو تمت ستستغرق سنوات طويلة، ولا يتسع المجال لبيان أوجه فساد كل هذه الخيارات، إما لأنها تسعى إلى تحقيق أهداف فاسدة و/أو غير واقعية، أم لأنها ليست الوسيلة التي تسمح بتحقيق أهداف نافعة تحقق الصالح الأمريكي ويريدها الرئيس.
وأيًا كانت الحقيقة، هناك إجماع أوروبي على أن سياساته تتعمد الإضرار بدول الاتحاد، هو يتكلم عن ضرورة ضم الجرينلاند، هو ومعاونوه شديدو الكراهية للليبرالية الأوروبية وأسسها، وأوضحت التسريبات في فضيحة سيجنال مدى احتقارهم لأوروبا وكيف يتحدثون عنها في المناقشات غير العلنية، والمسئولون الأمريكيون لا يحبون لا الاتحاد ولا منظومة التجارة ولا المعايير والقيود التي يضعها الاتحاد، الخاصة بحماية البيئة وبضوابط تقيد كيفية استخدام التكنولوجيا الجديدة ..إلخ، وهم يرون أن كل هذه الدول الأوروبية أو أغلبها راكب صفيق كثير الكلام ولا يدفع التذكرة، ويربح بفضل تجارته مع الصين وتفاديه لكلفة الدفاع، ويلاحظ الأوروبيون أن المسئولين الأمريكيين لا يثنون عليها أبدًا، وأنهم يتصرفون وكأن أوروبا العدو الرئيس، ويدعون أنها –ومعها أوكرانيا- تسببت في حرب مع روسيا وورطت الولايات المتحدة فيها، وهم يرون أنها عاشت على استغلال طيبة واشنطن وغباء أسلافهم، وأن الدفاع عنها ليست من مهام إدارتهم، والكثير منهم –في مقدمتهم الرئيس بنفسه ومبعوثه ويتكوف يتبنى روايات الخطاب الروسي، رغم مخالفتها الواضحة للحقيقة، وقال وزير الدفاع الأمريكي ما معناه أن الدفاع عن أوروبا لم يعد من أولويات الإدارة، وقال نائب الرئيس فانس في كلمته في مؤتمر ميونخ أن أوروبا لم تعد تؤمن بقيم الحرية وأنها تقمع خطاب الشعبويين يمينيين كانوا أم يساريين، وتلغي الانتخابات إن جاءت بما لا تشتهيه النخب (في إشارة إلى الحالة الرومانية)، وأن هذا الوضع أشد خطورة على أوروبا من أي تهديد خارجي –كون الإدارة الأمريكية الحالية ليست في موقع يسمح لها بالحديث عن الأخلاق وعن الديمقراطية وعن التسامح مع المخالف في الرأي.. لا يعني أن كلام نائب الرئيس ليس في محله ولو جزئيًا.
أما أفعال الإدارة فليست أحسن بكثير من وجهة نظر الأوروبيين، فهو شن حرب تجارية شديدة الضراوة عليها، ويعادي بوضوح سياسات التحول إلى اقتصاد بيئي ويرى فيها حيلة أوروبية لمناوئة الولايات المتحدة. وآهان الرئيس الأوكراني على الهواء مباشرة ثم عاقبه بقطع كافة المساعدات –بما فيها المد بمعلومات استخباراتية- عن أوكرانيا قطعًا مؤقتًا ولكنه سهل سعي الروس إلى تصفية نتوء كورسك، وفيما يتعلق بالحلف الأطلسي قدم وزير الدفاع الأمريكي تصورًا متماسكًا ومنطقيًا في خطاب رسمي له، قال فيه: إن الولايات المتحدة متمسكة بالحلف، وستواصل توفير “حماية نووية” لأوروبا، ولكن الدفاع بالوسائل والأسلحة التقليدية (غير النووية) بات مسئولية الدول الأوروبية بالأساس، وهذا التصريح يمثل تطورًا كبيرًا ومقلقًا، فهو يعني أن الولايات المتحدة ستقلل من أعداد قواتها المنتشرة في أوروبا، دون تحديد كم القوات التي ستنسحب، ومن ناحية أخرى لم يصدر هذا التصريح من الرئيس ترامب نفسه؛ مما يقلل من وزنه، ولم يزِل الشكوك في رغبة الرئيس ترامب في اللجوء إلى السلاح النووي للدفاع عن أي دولة أوروبية لا سيما إن كانت صغيرة مثل دولة من دول البلطيق. ومن المعروف أن للردع (النووي أو غيره) مكونًا نفسيًا، وأن الحلف -أي حلف- يقوم على عدة أركان منها الثقة، وأن هذه الثقة انهارت، وستتضح الأمور عند انعقاد قمة الناتو في الصيف المقبل، وسيترقب الجميع تصريحات وخطب و”لغة جسد” الرئيس ترامب.
حاليًا الخوف والشك أسياد الموقف في أوروبا، وبات مستحيلًا استبعاد بعض السيناريوهات المجنونة، أسوأها قد يكون تزامن هجوم روسي على دولة جوار وهجوم أمريكي على الجرينلاند، وهناك سيناريوهات محتملة تقوم فيها روسيا بعمليات محدودة نسبيًا لتختبر متانة الحلف وقدرة الأوروبيين على التعامل الفعال، وهناك مخاوف حقيقية حول مصداقية الحماية النووية الأمريكية ومن قيام الولايات المتحدة بتعطيل استخدام الأسلحة الأمريكية الصنع أو التي تعتمد على مكون أمريكي التي اشترتها وتملكها دول أوروبية، وهناك تساؤلات حول عمليات تبادل المعلومات الاستخباراتية، ففي الإدارة الأمريكية وفي الرئاسة أفراد وثيقي العلاقة بروسيا، وأظهر وزير الدفاع الأمريكي استهتارًا بالغًا بأبسط قواعد تأمين المعلومات، ومن ناحية أخرى يتجاهل الكلام عن ترك مجال المواجهات غير النووية لأوروبا حقيقة عجز جيوش هذه الدول عن تدوير واستخدام بعض كثير من منظومات الأسلحة –الصواريخ دقيقة التوجيه مثلًا- دون دعم أمريكي، وهو عجز لن يتم سده قبل النصف الثاني من العقد المقبل على أحسن الفروض، وأخيرًا وليس آخرًا تسهم الإدارة الأمريكية في تصعيب مهام الدول الأوروبية، لم يتعاف اقتصادها بعد من صدمة الاستغناء عن مصدر رخيص للطاقة، ومن التبعات المالية لأزمة جائحة الكوفيد، وعليها التعامل مع حرب تجارية تشنها الولايات المتحدة ومع حروب هجينة تشنها روسيا ومع غزوات صينية لأسواقها، ومع تحديات إعادة البناء في أوكرانيا وربما في الشرق الأوسط، إلى جانب تبعات إدارة هزيمة محتملة لأوكرانيا وتزايد حاد في التهديدات الروسية، قد يدعمها تعافٍ مؤقت لاقتصاد روسيا إن تحسنت علاقاتها مع الولايات المتحدة.
وتتعامل أوروبا مع عدة تحديات أو معضلات؛ منها أن إعادة التسليح واسترداد الجاهزية لن تتم في يوم وليلة، بل هي عملية ستستغرق ما لا يقل عن عقد كامل، وهي عمليات تقتضي بناء قوات واكتساب مهارات وتطوير كبير جذري للصناعات الحربية، ولا يوجد ما يضمن استرداد الشعوب لثقافة عسكرية وللشروط النفسية التي يجب توافرها في شعب يواجه أخطار، ولا يوجد ما يسمح بالاعتقاد أن الاحتقان الداخلي في أغلب الدول ستخف حدته، أو أن هيكل البنية السكانية سيتغير إلى الأحسن، إلى جانب كل هذا هناك أم المعضلات، إعادة بناء القوات واسترداد القدرات أمر ضروري، ولكن التقدم على هذا الطريق قد يحث الأعداء على الإسراع في الهجوم –قبل أن تكتمل الاستعدادات. ومن المعروف أن النخب الروسية تميل إلى الاستهتار بأغلب الدول الأوروبية، ولكنها تخشى ألمانيا خوفًا تفسيره في الماضي كما هو في الحاضر.
في الدراسات القادمة نخوض في بعض تعقيدات المشهد، وفي كيفية إدارة الدول الأوروبية له، وفي تحديات عملية إعادة التصنيع واسترداد جيوش، وفي تأثير كل هذا في التوازنات في القارة.
مصطلحات: الرئيس ترامب، الإدارة الجمهورية الجديدة، الاتحاد الأوروبي، الناتو، الحماية الأمريكية لأوروبا، روسيا، التعاون العسكري والاستخباري الغربي، الصناعات الحربية