تُعد قضية الإيجار القديم من أقدم وأعقد المشكلات الاجتماعية التي تواجه صناع السياسات في مصر، لما تحمله من أبعاد متشابكة تتداخل فيها الحقوق القانونية مع الأبعاد الاقتصادية والعدالة الاجتماعية. ورغم تكرار الدعوات من حين إلى آخر لتعديل القوانين، بما يضمن التوازن بين طرفي العلاقة، ظلّ الجدل محتدمًا بين من يدافع عن حق المستأجر “التاريخي” في السكن بأسعار منخفضة، باعتباره بعدًا من أبعاد العدالة الاجتماعية، ومن يطالب بتحرير العلاقة الإيجارية، كحق للمالك وضمان لاستدامة العمران.
في هذا السياق، تصاعد الجدل مرة أخرى منذ تقدم الحكومة للبرلمان بمشروع لتعيد قانون الإيجار القديم الذي جاء في 8 مواد لتفادي “البطلان الدستوري” للقانون الحالي، مما أثار بعض المخاوف الاجتماعية رغم تأكيد الحكومة تحقيق توازن بين حقوق طرفَي الخصومة (الملاك والمستأجرين)، وهو ما يستدعي تحليل أبعاد التعديلات الأخيرة للقانون، وتجارب الدول في تعديل قوانين الإيجار القديمة، وما أفضت إليه من دروس بهدف استخلاص ما يمكن مواءمته مع الحالة المصرية.
تطور تاريخي وقانوني
مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، توقفت حركة البناء والتشييد في معظم البلدان نتيجة لعدم توفر مواد البناء مثل حديد التسليح والأسمنت، فقلّ المعروض من المساكن، وارتفعت قيمة الإيجارات، وتحول الأمر إلى مشكلة اجتماعية حادة. انعكس ذلك على مصر آنذاك، مما جعل الحكومة تستغل حالة الطوارئ التي كان قد تم إعلانها بسبب الحرب، لتصدر قرارًا عسكريًا بتجميد القيمة الإيجارية للعقارات المؤجرة، وامتداد العلاقة الإيجارية، وعدم أحقية المالك في استرداد منشأته بعد نهاية عقد الإيجار، وكان أثر هذه السياسات مؤقتًا مرتبطًا بفترة الحرب، وتم إلغاؤها بعد انتهائها.
عقب ثورة 1952، تبنى الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر توجهًا اشتراكيًا يهدف إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، فتدخلت الدولة لضبط أسعار الإيجارات، لكن تلك المرة باعتبار أن السكن “حق اجتماعي” تكفله الدولة وليس مجرد علاقة تجارية بين المستأجر والمالك. تطبيقًا لهذا المبدأ صدرت عدة قوانين تخفض القيمة الإيجارية، وإخراج تحديد القيمة الإيجارية من نطاق التفاوض بين المالك والمستأجر، ووضعها في يد لجان حكومية، ومنع تحديد عقد الإيجار بمدة زمنية معينة، وإتاحة توريثه.
ترتب على هذه القوانين الإحجام عن الاستثمار في البناء، وظهور أزمة سكن حادة، مما دفع الدولة لإدخال إصلاحات تستهدف حل المشكلات المترتبة على هذه التدخلات. غير أن المشكلة كانت قد أصبحت شديدة التعقيد بسبب الطابع الاجتماعي لمشكلة السكن، والمراكز القانونية والمكاسب الاقتصادية التي رتبتها القوانين الاشتراكية لفئات اجتماعية واسعة. ثم جاء القانون رقم 49 لسنة 1977 ليلغي القوانين السابقة، ويمنح المؤجرين مزايا إضافية، دون تأثير على عقود الإيجار التي حُررت وفق القوانين السابقة، والتي ظلت سارية، باعتبار أنه لا يوجد قانون يُطبق بأثر رجعي. وفي عام 1981، صدر القانون رقم 136 ليؤكد على نفس بنود القانون السابق ويستمر التجميد الإيجاري، حتى أصبحت القيمة الإيجارية للعقار -في كثير من الأحيان- أقل من قيمة صيانة العقار نفسه.
كانت نقطة التحول الرئيسية، حينما صدر القانون 4 لعام 1996، والمعروف بـ”قانون الإيجار الجديد” والذي نص على تحرير العلاقة الإيجارية بالكامل في العقود الجديدة التي أبرمت بعد تاريخ هذا القانون. لقد حرر هذا القانون العلاقة بين المالك والمستأجر من التدخلات الإدارية، الأمر الذي شجع الاستثمار العقاري، وخفف من حدة أزمة السكن. غير أن المساكن المشمولة بالقوانين السابقة ظلت تمثل مشكلة اجتماعية واقتصادية.
فروق جوهرية بين قانون الإيجار القديم والجديد | ||
القانون القديم | القانون الجديد | |
سريان القانون | ما قبل عام 1996 | ما بعد عام 1996 |
مدة العقد | غير محددة وممتدة | تحدد بناء على الاتفاق بين الطرفين |
القيمة الإيجارية | ثابتة وغير قابلة للزيادة | تحدد بالاتفاق بين الطرفين حسب القيمة الإيجارية للمكان |
التوريث | مسموح التوريث لجيل أو أكثر | ممنوع التوريث ويتم تجديد العقد بناء على رغبة الطرفين |
الإخلاء | لا يمكن الإخلاء إلا في ظروف نادرة وبناء على حكم محكمة | ممكن وفقًا لشروط العقد |
خريطة البنايات السكنية
وفقًا لتعداد 2017، والذي يُلقي الضوء على حجم وتوزيع الوحدات المؤجرة بنظام الإيجار القديم، سواء كانت سكنية أو غير سكنية، بالإضافة إلى رصد عدد الوحدات المغلقة وأسباب غلقها، فقد بلغ إجمالي عدد الوحدات المؤجرة بنظام الإيجار القديم في مصر حوالي 3 ملايين وحدة، وتتوزع الوحدات كما يلي:

ووفقًا للتوزيع الجغرافي، يظهر تفاوت ملحوظ بين المناطق الحضرية والريفية في عدد الوحدات المؤجرة، حيث تتركز غالبية الوحدات المؤجرة بنظام الإيجار القديم في المدن، خاصة “القاهرة – الجيزة – الإسكندرية – القليوبية”.

وتظهر بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء خللًا هيكليًا في منظومة الإيجار القديم، حيث أشارت إلى أن هناك أكثر من 513 ألف وحدة مغلقة رغم استمرار عقود الإيجار، بما يمثل إهدارًا للثروة العقارية.

ملامح مشروع القانون
تتمثل أبرز ملامح مشروع قانون الإيجار القديم الذي أحالته الحكومة للبرلمان في عام 2025، فيما يلي:
- زيادة القيمة الإيجارية الشهرية للأماكن السكنية، حيث ستصبح 20 ضعف القيمة الإيجارية الحالية، على ألا تقل عن 1000 جنيه للوحدات الموجودة في المدن والأحياء، و500 جنيه للوحدات في القرى.
- زيادة القيمة الإيجارية الشهرية للأماكن المؤجرة لغير غرض السكن لتصبح خمسة أمثال القيمة الإيجارية الحالية للأماكن المؤجرة للأشخاص الطبيعيين لغير غرض السكن.
- زيادة سنوية للقيم الإيجارية بنسبة 15 في المائة لمدة 5 سنوات، بدءًا من تاريخ سريان مشروع القانون الجديد.
- منح فترة انتقالية مدتها خمس سنوات، وبعد انتهاء هذه الفترة تعود الوحدة المؤجرة إلى مالكها الأصلي، إلا إذا اتفق الطرفان على تمديد العقد بشروط جديدة.
- منح المستأجرين الذين ينطبق عليهم القانون وحدات سكنية (إيجارًا أو تمليكًا) من الوحدات المتاحة لدى الدولة، وذلك وفقًا للقواعد والشروط والإجراءات التي يحددها رئيس مجلس الوزراء بناءً على عرض من وزير الإسكان.
تجارب دولية
مصر ليست فريدة في وجود قانون يقيد إيجارات العقارات، ولا يتركها لتفاعلات العرض والطلب في السوق. ففي بلاد كثيرة وجدت قوانين مشابهة للقانون المصري، جاءت جميعها للتعامل مع آثار أزمة اقتصادية واجتماعية حادة من ذلك النوع الذي يلي الحروب، خاصة الحرب العالمية الثانية التي دفعت عددًا كبيرًا من الدول لإصدار تشريعات تتدخل في العلاقة بين المالك والمستأجر. اللافت أنه في جميع التجارب الدولية قد تم تجاوز هذه التشريعات في فترة مبكرة نسبيًا، عبر إصدار تشريعات جديدة تضع حدًا لها، في حين واصلت قوانين تحديد الإيجار العمل بها في مصر، وهو ما تستعرضه التجارب التالية:
- لبنان: بعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، صدر قانون في عام 1992 ينص على تمديد عقود الإيجار تلقائيًا، مما منح المستأجرين حق البقاء في الوحدة المؤجرة حتى بعد انتهاء مدة العقد الأصلية. كذلك، مكّن القانونُ المستأجرين القدامى من دفع إيجارات زهيدة لا تتغير مع الزمن. ولمعالجة تلك المسألة صدر قانون الإيجارات السكنيّة المعدل عام 2014 الذي أمهل المستأجرين تسع سنوات، يمكنهم خلالها البقاء في الوحدة المؤجرة. وخصّ المستأجرين من ذوي الدخل المحدود بالحق في البقاء بالمساكن المؤجّرة بعد انتهاء المدّة لثلاث سنوات إضافيّة، لتصل مهلة البقاء في الوحدات المؤجرة إلى 12 عامًا.
ورافق تعديل القانون في لبنان سياسات منها التحرير التدريجي، أي زيادات سنوية متصاعدة في الإيجار لتصل إلى القيمة السوقية بنهاية الفترة الانتقالية. كما تم إنشاء صندوق خاص للإيجارات السكنية المشمولة يتبع وزارة المالية، ويهدف إلى مساعدة المستأجرين المعنيين بهذا القانون الذين لا يتجاوز معدل دخلهم الشهري ثلاثة أضعاف الحد الأدنى للأجور، وذلك عن طريق المساهمة في دفع الزيادات، كليًا أو جزئيًا، حسب الحالة التي تطرأ على بدلات إيجاراتهم. ورغم تعديل القانون فقد استمرت النزاعات بين المالكين والمستأجرين بسبب تأخر إنشاء صندوق دعم المستأجرين، وعدم تفعيل اللجان المختصة. هذا التأخير أدى إلى تراكم بدلات الإيجار، مما أثار قلق المستأجرين من ذوي الدخل المحدود.
- الهند: عانت الهند منذ استقلالها من أزمات متكررة في سوق العقارات والإسكان، خاصة في المدن الكبرى مثل مومباي وكلكتا ودلهي، مما دعا الدولة إلى فرض قوانين إيجارات مشددة مثل قانون مراقبة الإيجار في عام 1947، والذي ثبت الإيجار عند المستويات التي كانت عندها عام ١٩٤٠ أو أقل. وفي عام 1996، تم تعديل القانون للسماح بزيادات سنوية بنسبة 10% لمدة خمس سنوات، ثم تحرير الإيجارات بعد ذلك.
- وكانت السياسات المصاحبة للقوانين تتمثل في تطبيق التعديلات تدريجيًا، بحيث تُمكّن الولايات من تطبيق القانون الجديد بالتوازي مع الإبقاء على الحماية لبعض الفئات. فضلًا عن إنشاء محاكم إيجارات خاصة لتسريع الفصل في المنازعات وإلغاء التثبيت الإجباري، حيث لا يسمح القانون بتثبيت الإيجار إلا في حالات نادرة. وكنتيجة للقانون بدأت المدن الكبرى في جذب استثمارات في قطاع الإيجارات، خاصة في مشروعات الإيجار الرسمي المنظم. كما أسهمت التعديلات في تقليل النزاعات القضائية في بعض الولايات.
- – ألمانيا: تعتمد ألمانيا نموذج الإيجار المرجعي، وهو نظام مرن لتحديد الإيجارات، حيث يتم إعداد “مؤشر الإيجار المرجعي” لكل مدينة بناءً على بيانات حقيقية من السوق، ويُحدَّث دوريًا. وبناء عليه، يسمح القانون الألماني بزيادة الإيجار بنسبة تصل إلى 20% خلال ثلاث سنوات (و15% في بعض الولايات) شريطة ألا يتجاوز الإيجار قيمة المؤشر. كما يُسمح لأصحاب العقارات بإجراء زيادات إضافية حال إجراء تحسينات جوهرية على العقار.
– فرنسا: اعتمدت فرنسا أيضًا مؤشر الإيجار المرجعي (IRL)، الذي يُستخدم لتحديد الزيادة السنوية القصوى في الإيجارات، والتي ترتبط بمعدل التضخم. بالإضافة إلى ذلك، طبقت الحكومة الفرنسية في بعض المدن الكبرى، مثل باريس وليون، نظامًا يُحدد الحد الأقصى للإيجارات حسب المنطقة وجودة العقار، وهذا النظام يُعتبر مثالًا على محاولة السيطرة على أسعار الإيجارات دون فرض تجميد كامل.
– الإمارات: اعتمدت إمارة دبي في عام 2013 وفقًا لقانون رقم 43، مؤشر مؤسسة التنظيم العقاري، وهو أداة أساسية لتحديد الانخفاض أو الزيادة المسموح بها في الإيجار، ويحدث المؤشر سنويًا، وفقًا لاتجاهات السوق وظروفه، كما يُوفر مرجعًا لقيم الإيجارات. ويحمي هذا المؤشر سوق الإيجارات في دبي من الممارسات غير العادلة، مُوفرًا منصة آمنة لكل من المستأجرين والمُلّاك.
دروس مستفادة
توفّر دراسة التجارب الدولية رصيدًا مهمًا من الدروس المستفادة لمصر حول كيفية تحقيق التوازن بين العدالة الاجتماعية وحقوق الملكية، وتعزيز جودة العمران، وضمان العدالة في توزيع أعباء الإسكان بين الدولة والأفراد، لذلك في ضوء ما سبق يُوصَى بما يلي:
- تحديث البيانات العقارية من خلال إنشاء قاعدة بيانات شاملة للإيجارات والأسعار العقارية في المناطق المختلفة، لتسهيل تطبيق السياسات وتحديد المناطق ذات الحاجة للتدخل.
- وفقًا لقاعدة البيانات العقارية يمكن بسهولة تطبيق نظام الإيجار المرجعي استنادًا إلى تجارب ألمانيا وفرنسا، حيث يمكن لمصر تبني نظام يحدد الإيجارات بناءً على متوسطات السوق في كل منطقة، مع مراعاة جودة العقار وموقعه.
- تحرير تدريجي للإيجارات بدلًا من التحرير الفوري، حيث يمكن تطبيق زيادات سنوية محددة للإيجارات القديمة، مما يمنح المستأجرين والمالكين وقتًا للتكيف.
- دعم المستأجرين محدودي الدخل من خلال توفير برامج دعم مالي أو وحدات سكنية بديلة للمستأجرين غير القادرين على تحمل الزيادات. وتأسيس صندوق لدعم المستأجرين المتضررين من التعديلات، خاصة كبار السن وذوي الدخل المحدود.
- إنشاء محاكم إيجارات خاصة: لتسريع الفصل في المنازعات.
- إضافة مهلة أخرى فوق عدد السنوات الخمس لتقنين أوضاع المستأجرين من محدودي الدخل.
- تقديم حوافز ضريبية أو تمويلية للمستثمرين في قطاع الإيجارات، خاصة في المناطق ذات الطلب المرتفع. وتحفيز الإسكان الاجتماعي لتوفير بدائل مناسبة.