على وقع الحرب الإيرانية الإسرائيلية والتي استمرت اثني عشر يومًا قبل صدور قرار وقف إطلاق النار والتزام طرفي النزاع بالامتثال إليه. وما شاب تلك الفترة من تصعيد غير مسبوق، والذي اتخذ أبعادًا عسكرية بالغة الخطورة، خاصة بعد استهداف المنشآت النووية الإيرانية وصدور تهديدات متبادلة بالتصعيد، وجدت القوى الدولية نفسها أمام منعطف حرج يُهدد الاستقرار الإقليمي والدولي على حد سواء. وفي هذا السياق، برزت روسيا كلاعب رئيسي، لكن من موقع المراقب المتفاعل لا المتدخل. فقد اكتفت موسكو بالتنديد السياسي والدبلوماسي، وأبدت قلقها العميق من الانزلاق نحو مواجهة شاملة، دون أن تُقدِم على خطوات عملية أو عسكرية داعمة لحليفتها الاستراتيجية طهران، رغم ما يجمع الطرفين من شراكات في ملفات حساسة كالأمن والدفاع والطاقة النووية.
وهذا التباعد بين خطاب الدعم السياسي وبين غياب الفعل الميداني، أثار تساؤلات عميقة حول طبيعة وحدود الموقف الروسي، وهل يعكس تحوّلًا في أولويات السياسة الخارجية الروسية؟ أم أنه ناجم عن حسابات دقيقة تتعلق بتوازنات المصالح مع أطراف النزاع، خصوصًا إسرائيل والولايات المتحدة؟ وهل يشير هذا إلى ضعف القدرة الروسية على مجابهة واشنطن عسكريًا في ساحة الشرق الأوسط، خاصة في ظل انشغال موسكو بالحرب في أوكرانيا؟ هذه الأسئلة تمثل مدخلًا ضروريًا لفهم تعقيدات الموقف الروسي وتفسير تموضعه الدقيق في قلب معادلة إقليمية بالغة الحساسية.
حياد محسوب
منذ الساعات الأولى للتصعيد الإيراني الإسرائيلي، اتخذت موسكو موقفًا اتسم بالحذر الشديد، عبّرت فيه عن قلق بالغ من انزلاق الأوضاع نحو مواجهة إقليمية شاملة، دون أن تتورط في أي دعم عملي لطهران. فقد أدانت وزارة الخارجية الروسية الضربات الإسرائيلية ووصفتها بأنها “انتهاك صارخ لسيادة دولة عضو في الأمم المتحدة”، ومحذّرة من أن الهجوم على المنشآت النووية الإيرانية “يهدد بكارثة نووية عالمية”، وبحسب ما صرّحت به المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية “ماريا زاخاروفا”، التي وصفت الغارات الإسرائيلية بأنها “لعبة مروّعة لا يمكن التنبؤ بعواقبها”. ومع ذلك، بقي الرد الروسي في إطار التنديد اللفظي والدعوة إلى التهدئة، دون أن يُترجم إلى دعم عسكري أو سياسي نوعي لإيران.
هذا التوجّه الروسي أثار جدلًا واسعًا حول مدى التزام موسكو باتفاق الشراكة مع طهران، خاصة أن المتحدث باسم الكرملين، “دميتري بيسكوف”، أوضح بشكل صريح أن “اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة مع إيران لا تتضمن بنودًا تتعلق بتقديم دعم عسكري متبادل”. وأضاف أن موسكو لم تتلقَ أي طلب رسمي من طهران لتقديم مثل هذا الدعم، مشددًا على أن المواقف الروسية واضحة في إدانة التصعيد لكنها لا تنسحب إلى خطوات ميدانية. وهذا التأكيد العلني بعدم وجود آلية دفاع مشترك يعكس سعي موسكو للفصل بين شراكتها السياسية مع إيران وبين انخراط مباشر في مواجهة قد تجرها إلى صدام مع إسرائيل أو حتى الولايات المتحدة.
في الوقت ذاته، سعت روسيا إلى إبراز دورها كوسيط محتمل، وركزت على اتصالاتها الدبلوماسية المتكررة مع جميع الأطراف؛ إذ أجرى الرئيس فلاديمير بوتين محادثات هاتفية مع كل من الرئيس الإيراني، ورئيس الوزراء الإسرائيلي، والرئيس الأمريكي، مؤكدًا أن “الحوار السياسي هو السبيل الوحيد لتسوية الخلافات”. كما أوضح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن “روسيا تواصل جهودها لتفادي المزيد من التصعيد”، داعيًا المجتمع الدولي إلى التحرك المشترك لاحتواء الأزمة. كل هذه التحركات تعكس تموضعًا روسيًا يهدف إلى الحفاظ على قنوات الاتصال مع مختلف الأطراف، دون الانحياز بشكل مباشر لطرف على حساب آخر، وذلك في الوقت الذي تحاول فيه موسكو اللعب بورقة التهدئة لكسب النفوذ دون كلفة استراتيجية باهظة.
على الجانب الآخر، لا يمكن إغفال الاعتبارات الأمنية الروسية المباشرة في التعامل مع هذا التصعيد. فقد أكد دميتري بيسكوف أن هناك تفاهمًا تم التوصل إليه مع إسرائيل لضمان سلامة الفنيين الروس العاملين في محطة بوشهر النووية، مشيرًا إلى أن “أمن الخبراء الروس كان محورًا أساسيًا في اتصالات بوتين مع الأطراف المعنية”. وصرّح رئيس شركة روساتوم، أليكسي ليخاتشوف، أن بعض العاملين الروس في بوشهر قد تم إجلاؤهم، وأن العمل في المحطة لا يزال جاريًا، لكن الوضع يقترب من حالة الطوارئ. هذه الإجراءات تؤكد أن موسكو وضعت في صدارة أولوياتها حماية مواطنيها ومصالحها التقنية، وهو ما قد يفسر انكفاءها الميداني واكتفاءها بالحياد النشط، باعتباره خيارًا استراتيجيًا أكثر منه تعبيرًا عن ضعف أو تراجع لدورها.
مُحددات الموقف الروسي
يتشكل الموقف الروسي من خلال شبكة معقدة من المحددات التي توازن بين المصالح والقيود منها:
- التحالف الاستراتيجي مع إيران: إذ ترتبط روسيا وإيران بعلاقات استراتيجية وطيدة، والتي تعززت مع التدخل الروسي في سوريا وامتدت لتشمل ملفات حيوية مثل الملف النووي والتعاون الدفاعي والتقني. ومع ذلك، أوضح الكرملين بشكل مباشر أن هذه الشراكة لا تعني التزامًا بدعم عسكري في حال نشوب نزاع. وهو ما يُفهم منه أنه رغبة روسية في الحفاظ على تحالفها مع إيران دون الانجرار إلى مواجهة مباشرة مع إسرائيل أو القوى الغربية، خاصة وأن الرئيس بوتين شدد على أن المعدات العسكرية التي زُوّدت بها إيران سُلّمت في وقت سابق، ولا علاقة لها بالأزمة الحالية، بما يعني رفضًا روسيًا للتورط العسكري مهما كانت متانة الشراكة مع طهران.
- الحفاظ على العلاقة مع إسرائيل: في موازاة تحالفها مع إيران، تبقي موسكو على علاقة متوازنة مع إسرائيل، وهي علاقة ضرورية في ضوء التنسيق المستمر في الأجواء السورية، وتبادل المصالح التقنية والعسكرية. حيث أظهرت موسكو حرصًا واضحًا على عدم تجاوز هذه العلاقة لأي مستوى من التصعيد، إذ صرّح بيسكوف أن روسيا “تحافظ على علاقات متوازنة وقائمة على الثقة مع إسرائيل”، وهو ما يُمكّنها من لعب دور الوسيط بين الطرفين. كما أكد السفير الروسي لدى تل أبيب أن موسكو على تواصل دائم مع الحكومة الإسرائيلية، في الوقت ذاته أوصت فيه السفارة الروسية رعاياها بمغادرة إسرائيل عبر مصر. هذا الحرص الروسي على عدم استفزاز تل أبيب يعكس مدى حساسية العلاقة معها، خاصة أن بوتين تواصل هاتفيًا مع نتنياهو في ظل الأزمة؛ مما يشير إلى أن روسيا تدير الموقف بعناية فائقة لتجنب خسارة طرف إقليمي مهم في معادلاتها الأوسع.
- الانشغال بالحرب في أوكرانيا: تأتي الأزمة الإيرانية الإسرائيلية في وقت تخوض فيه روسيا حربًا واسعة النطاق ضد أوكرانيا منذ فبراير 2022، وهو ما جعلها تستنزف موارد عسكرية واقتصادية هائلة. ومن هذا المنطلق، فإن أي انخراط مباشر في تصعيد جديد في الشرق الأوسط سيشكّل عبئًا استراتيجيًا غير محتمل. وهو ما أكد عليه الرئيس “بوتين”، خلال منتدى سانت بطرسبرغ الاقتصادي الدولي، مؤكدًا أن بلاده “لا تسعى لفرض حلول”، بل تكتفي بطرح مقترحات، في دلالة على أن الأولوية القصوى تبقى للحرب في أوكرانيا. ويبدو أن هذا الانشغال أضعف من قدرة روسيا على فرض مواقف صلبة أو الدخول في مواجهة نيابة عن حلفائها، وفرض عليها اعتماد سياسة خارجية أكثر تحفظًا في الساحات الأخرى.
- سلامة الفنيين الروس: من أبرز محددات الموقف الروسي كان القلق على سلامة الخبراء الروس العاملين في المنشآت النووية الإيرانية، وتحديدًا في محطة بوشهر. فقد أكد الكرملين أنه تم التوصل إلى تفاهم مع إسرائيل بشأن ضمان أمن المتخصصين الروس العاملين في المحطة. كما أعلن رئيس شركة روساتوم، أليكسي ليخاتشوف، أنه تم إجلاء عدد من العاملين الروس في بوشهر، وأن الشركة مستعدة للتعامل مع مختلف السيناريوهات، بما فيها الإخلاء الكامل. هذه الإجراءات تعكس أن الأولوية الروسية لم تكن في دعم حليف بقدر ما كانت منصبة على تأمين الوجود الروسي في الداخل الإيراني، خاصة في المنشآت النووية، وهو ما يُفسر تحركات موسكو السريعة للتواصل مع كل من طهران وتل أبيب لضمان عدم تعرّض مواطنيها أو بنيتها التحتية التقنية للخطر.
- التوظيف الدبلوماسي للأزمة: المُحدد الأخير أنه وفي ظل تعقيدات المشهد، سعت روسيا إلى توظيف الأزمة لتعزيز موقعها الدبلوماسي في الشرق الأوسط والعالم، في محاولة لاستعادة صورة القوة الدولية القادرة على الوساطة. فقد أعلن بوتين استعداد بلاده للاضطلاع بدور الوسيط، مؤكدًا خلال اتصالاته مع أطراف النزاع أن “الحوار السياسي هو السبيل الوحيد لتسوية الخلافات”. كما أوضح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن موسكو “تواصل جهودها لخفض التصعيد”، وفي هذا السياق، أجرت الخارجية الروسية مشاورات مع وزراء خارجية مصر وتركيا وأذربيجان، وغيرها. هذا المسار يعكس رغبة موسكو في تعويض ضعف الحضور الميداني بحضور سياسي فاعل، مستفيدة من تراجع ثقة عديدٍ من دول المنطقة في الولايات المتحدة، ومستغلة في الوقت ذاته الأزمة لتشتيت الانتباه الدولي عن ملف أوكرانيا.
لماذا لم تتدخل روسيا عسكريًا لدعم إيران؟
رغم التحالف الوثيق بين موسكو وطهران، فإن روسيا آثرت البقاء على هامش الحرب الإيرانية الإسرائيلية الأخيرة، مكتفية بردود دبلوماسية دون دعم عسكري. هذا التوجه لم يكن عشوائيًا، بل استند إلى اعتبارات استراتيجية دقيقة تحكم سلوك الكرملين في لحظة دولية معقدة. ويمكن تفسير هذا الموقف عبر ثلاثة عوامل رئيسية:
- العامل الأول: تصعيدٌ لفظي دون التزام ميداني: أظهرت موسكو، عبر تصريحات حادة من مسئولين كبار أمثال دميتري ميدفيديف، رفضها للضربات الأمريكية والإسرائيلية، ووصفتها بالخطيرة والمستفزة. إلا أن هذا التصعيد ظل محصورًا في الخطاب الإعلامي والدبلوماسي، دون أن يُترجم إلى تحرك عسكري فعلي. وبالتالي يُمكننا القول إن روسيا “وقفت إلى حد كبير متفرجة” أمام استهداف الدفاعات والمنشآت النووية الإيرانية، دون توجيه انتقادات مباشرة لإسرائيل أو واشنطن. هذا النمط من السلوك يعكس حرص الكرملين على عدم التصعيد، مع الحفاظ على صورة الحليف المتضامن سياسيًا.
- العامل الثاني: تفادي الصدام مع الغرب للحفاظ على هامش المناورة: يرتبط تجنّب روسيا من التدخل لصالح إيران عسكريًا ارتباطًا وثيقًا برغبتها في عدم قطع قنوات التواصل مع واشنطن. ففي ظل الانشغال الأمريكي بالصراع الإيراني، ترى موسكو فرصة لتخفيف الضغوط الغربية عليها في ملف أوكرانيا، وربما المساومة لاحقًا على ترتيبات إقليمية أو انسحاب جزئي غربي. ويُدرك الكرملين أن أي دعم صريح لإيران قد يُفسد التوازن القائم مع الإدارة الأمريكية، وهو ما عبّر عنه بيسكوف عندما أكد أن روسيا تدعم إيران سياسيًا، لكنها لا تعتزم اتخاذ خطوات قد تُستفز منها واشنطن أو تُستنزف بها موسكو.
- العامل الثالث: دور وسيط وأرباح استراتيجية: بدلًا من الاصطفاف الكامل مع طهران، اختارت روسيا أداء دور الوسيط، ساعيةً إلى تعزيز حضورها الإقليمي. وفي هذا السياق أجرى الرئيس بوتين اتصالات موسعة مع قادة إيران وإسرائيل وأمريكا، وعقد لقاءً معلنًا مع وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي في موسكو. وتمثل هدف موسكو من هذه التحركات في احتواء التصعيد. ويُمكننا القول إن الكرملين ينظر للأزمة كفرصة لتعزيز مكانته كقوة ضامنة، وتحقيق مكاسب سياسية يمكن توظيفها لاحقًا في المساومات مع الغرب بشأن الملفات الدولية العالقة، وعلى رأسها أوكرانيا.
ماذا عن زيارة عراقجي إلى موسكو؟
جاءت زيارة وزير الخارجية الإيراني “عباس عراقجي” إلى موسكو، كمحاولة إيرانية واضحة لحشد موقف داعم من موسكو، التي تُعد أحد أبرز الشركاء الاستراتيجيين لطهران. وقد رافق الزيارة إعلان عن توافق سياسي في ملف الضربات الغربية على المنشآت النووية الإيرانية؛ حيث وصفتها موسكو بأنها تمثل انتهاكًا خطيرًا للقانون الدولي، كما طُرح خلالها الحديث عن تقديم مشاريع قرارات إلى مجلس الأمن. غير أن المخرجات العملية للزيارة لم تتجاوز سقف الإدانة الكلامية، دون أن تُترجم إلى التزامات فعلية، سواء في المجال الأمني أو الاقتصادي؛ مما يعكس حذرًا روسيًا واضحًا في عدم التصعيد أو الانحياز الكامل لطهران.
هذا السياق يُبرز محدودية الرهان الإيراني على تحالفات مع قوى كبرى كروسيا، ويكشف عن عمق العزلة الاستراتيجية التي تواجهها طهران، حتى في لحظات التصعيد القصوى. إذ حرصت موسكو على استثمار الزيارة لتعزيز موقعها كوسيط دولي، دون أن تغامر بأي خطوة قد تضعها في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة أو إسرائيل. في المقابل، بدت طهران أقرب إلى استعراض سياسي هدفه كسر العزلة، أكثر من كونه محاولة لتغيير قواعد التوازن الإقليمي. ويُفهم هذا التحرك في إطار استنزاف متزايد لمحور إقليمي تقوده إيران، يعتمد على جماعات مسلحة غير حكومية، باتت هي الأخرى تحت ضغوط متصاعدة؛ مما يجعل قدرة إيران على الردع أو المبادرة محدودة ومرهونة بحسابات غير خاضعة لإرادتها وحدها.
في الأخير، فقد حرصت روسيا على اتباع نهج متوازن يجمع بين الحفاظ على المصالح، وتفادي التورط في صراعات مفتوحة. فهي تسعى لتثبيت صورتها كقوة مسؤولة قادرة على التهدئة، دون الانزلاق إلى مغامرات عسكرية قد تُضعف موقفها الدولي، خصوصًا في ظل استنزافها في الحرب الأوكرانية. كما تعمل على حماية علاقاتها الثنائية مع كل من طهران وتل أبيب، دون الإخلال بتوازناتها في الملف السوري أو النووي. وبالتوازي، تحاول موسكو انتهاز اللحظة لتعزيز موقعها كفاعل محوري في الإقليم، في مواجهة تراجع الحضور الأمريكي. هذا الموقف، الذي يتصف بـ”الحياد الحذر”، لا يُعدّ تراجعًا بقدر ما هو تعبير عن إدراك استراتيجي لحدود القوة وأولويات المصالح.
باحث أول بوحدة الدراسات الأسيوية