تُمثّل الخلافات الراهنة بين النخب السياسية الصومالية امتدادًا لصراع سياسي طويل ومتجذر، لم تنجح أي من الحكومات المتعاقبة منذ سقوط نظام سياد بري مطلع التسعينيات في معالجته بشكل جذري. وفي ظل إدارة الرئيس حسن شيخ محمود، برزت هذه الانقسامات مجددًا بصورة أكثر حدة، كاشفةً عن عمق الأزمة البنيوية التي تعاني منها الدولة الصومالية ومشروعها السياسي.
فقد أثار الطرح الذي يقوده الرئيس الحالي، والقائم على استبدال نظام التصويت العشائري التقليدي بنظام الاقتراع العام المباشر، حالةً من الجدل السياسي الواسع. ورغم أن هذا التوجه يُعَدّ خطوة نحو بناء دولة مدنية تتجاوز الولاءات القبلية، فإنه في الوقت ذاته سلّط الضوء على الانقسامات العميقة بين النخب، وعلى غياب التوافق حول أسس العملية السياسية. وانعكس هذا التباين بشكلٍ جليّ في ” منتدى التشاور الوطني”، الذي تغيّب عن حضوره الكثير من ممثلي المعارضة، بما فيهم رؤساء ولايتي بونتلاند وجوبالاند.
رؤى متباينة
تم تأجيل اجتماع ” المجلس الاستشاري الوطني” (NCC) إلى 15 يوليو 2025، بعد أن كان مقررًا عقده في 19 يونيو 2025، في أعقاب انعقاد ” منتدى التشاور الوطني”، في محاولة لتحقيق أكبر قدرٍ من التوافق بين مختلف النخب السياسية، التي تتحفظ على القضايا المطروحة للنقاش.
أولًا: منتدى التشاور الوطني
انطلق “منتدى التشاور الوطني” الذي انعقد بالعاصمة مقديشيو، (16-18 يونيو 2025)، دون مشاركة المعارضة السياسية الصومالية، رغم الإجراءات التمهيدية، والاجتماعات الممتدة لبناء التوافق، منذ أن دعا “شيخ محمود” في 29 مارس، إلى إنشاء منصة للقيادات السياسية وقادة المجتمع المدني للتشاور حول جهود مكافحة الإرهاب وتعزيز بناء نظام ديمقراطي وفيدرالي عبر الانتخابات المباشرة، وهي الخطوة التي رحب بها المجتمع الدولي في السابع من إبريل الماضي، لما قد تحدثه من أثر في بناء التوافقات السياسية في الصومال.
وفي الأول من يونيو، وبعد أسابيع من المشاورات المغلقة مع قادة وطنيين وسابقين ورؤساء الولايات الفيدرالية وزعماء الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، أعلن شيخ محمود عن انعقاد المنتدى التشاوري في منتصف الشهر، ليناقش قضايا رئيسية تتضمن: ” الأمن القومي ومكافحة الإرهاب، التحول الديمقراطي والعملية الانتخابية، استكمال الدستور، الوحدة الوطنية وتعزيز المصالحة”، وذلك لفتح مسار سياسي جديد مع المعارضة، التي تتحفظ على الإصلاحات السياسية لحوكمة النظام الانتخابي، التي تضمن: التعديل الدستوري، القانون الانتخابي، إعادة هندسة الحياة السياسية والحزبية، فيما يرى مؤيدو تلك الإصلاحات أنها تدعم شفافية العملية الانتخابية ويدعم التصويت المباشر قيم المواطنة، في ظل عملية إعادة بناء الدولة الصومالية ومؤسساتها الدستورية.
ويعد المنتدى خطوة نحو مأسسة التوافق على آليات الإصلاح السياسي، إلا أن إجراءات عقد المنتدى والاجتماعات التحضيرية في الأسابيع السابقة لعقد المنتدى، بعد تشكيل لجنة خاصة برئاسة وزير العدل والشئون الدستورية “حسن معالن محمود، للإشراف على التحضيرات الفنية والتنظيمية، توحي بتجذر الخلافات على نحوٍ قد يعيق التوصل لحسم التباينات وتقريب الرؤى.
ثانيًا: تحفظات المعارضة السياسية
كشفت ردود أفعال القوى السياسية المعارضة عن حجم التباين والانقسام داخل الساحة الصومالية حيال المشروع السياسي الذي يتبناه الرئيس حسن شيخ محمود. فقد وجّه “منتدى الإنقاذ الوطني”، الذي يضم نخبة من رموز المعارضة بقيادة الرئيس الأسبق شريف شيخ أحمد، انتقادات لاذعة إلى الرئيس، متهمًا إياه بتقويض أسس بناء الدولة، والسعي إلى تركيز السلطة في يده، وتهيئة البيئة السياسية بما يخدم مصالحه في الاستحقاقات الانتخابية المقبلة.
وعلى الرغم من تحفظ قوى المعارضة على التحول نحو التصويت المباشر، قفد أعلن منتدى الإنقاذ عن رفضه للنموذج الانتخابي الذي جرى تطبيقه عام 2022، وهو نموذج التصويت غير المباشر بعد أن أخفق نظام فرماجو في تمرير الإصلاحات السياسية المعززة لنظام التصويت المباشر والتخلي عن نموذج المحاصصة العشائرية آنذاك؛ إذ طالب المنتدى في هذا الشأن بتطبيق التصويت المباشر، الذي أقره الدستور المؤقت لعام 2012، والتشريعات المؤكدة لهذا المسار؛ مما يعكس التباين داخل صفوف القوى المعارضة نفسها.
وفي السياق ذاته، جاء تأسيس الرئيس حسن شيخ محمود لحزب سياسي جديد ليفجّر موجة إضافية من التوتر، ويعمّق فجوة انعدام الثقة بين الحكومة الفيدرالية والولايات الإقليمية. فقد اعتبر رئيس ولاية بونتلاند، سعيد عبد الله دني، أن هذه الخطوة تؤشر إلى انسداد في الأفق السياسي، واتهم الحكومة الفيدرالية بالسير في “طريق مغلق” يفتقر إلى التوافق الوطني. كما أبدى رئيس ولاية جوبالاند، أحمد محمد إسلام “مادوبي”، قلقه إزاء هذا المسار، ودعا الحكومة والمجتمع المدني إلى تحمل مسئولياتهم التاريخية في حماية وحدة البلاد واستقرارها. وتلاقت هذه المواقف مع تحذيرات “منتدى الإنقاذ الوطني”، الذي شدد على ضرورة عقد مشاورات سياسية عاجلة، معتبرًا أن المسار الحالي ينذر بتقويض فرص الإنقاذ السياسي، ويفرض على مختلف الأطراف الوطنية البحث عن أرضية مشتركة لإنهاء حالة الاستقطاب المتصاعدة.
خلافات ممتدة
بعد فترة من التوترات السياسية والانقسامات الواضحة، انتهج الرئيس شيخ محمود نهجًا منفتحًا على المعارضة السياسية، التي تشكو من التهميش والنهج الأحادي للرئيس فيما يتعلق بفرض الإصلاحات السياسية دون توافق، خصوصًا بعد انسحاب رئيس جوبالاند من اجتماعات “المجلس الاستشاري الوطني” (NCC) في أكتوبر 2024، رفضًا لنتائجه التي أقرت العودة للانتخاب المباشر في سبتمبر 2025.
ورغم استمرار الاجتماعات التشاورية، في محاولة لتجسير الهوة بين الفرقاء السياسيين، يُنظر إلى خطوة انفتاح حسن شيخ محمود على المعارضة بنوع من الشك والتحفظ، على اعتبار أنها تهدئة مرحلية لا تتضمن توافق أو إصلاح حقيقي، خاصة مع استمرار الفجوة مع المعارضة السياسية وتمرير الإصلاحات السياسية دون إجماع يضمن استدامتها. وباستثناء الإجماع على ضرورة استعادة الأمن في البلاد، تتباين الرؤى بشأن التوافقات السياسي، وفيما يلي مسار التباين الذي أعاق عمل منتدى التشاور الوطني، بعد غياب تمثيل ولايتي بونتلاند وجوبالاند ومنتدى الإنقاذ الوطني، التي اشترطت لمشاركتها، استمرار العمل بالدستور المتفق عليه عام 2012، وإجراء انتخابات وطنية متوافق عليها، وفيما يلي أبرز نقاط الخلاف الجوهري:
أولًا: التعديلات الدستورية
تُعد التعديلات الدستورية واستكمال عملية صياغة دستور دائم إحدى أبرز أولويات المشروع السياسي لأي قيادة صومالية منذ سقوط نظام سياد بري في أوائل التسعينيات، وظل هذا الملف محورًا للنقاشات السياسية المستمرة منذ تشكيل أول حكومة فيدرالية انتقالية عام 2004. وقد تعاقبت الحكومات الانتقالية على مهمة صياغة دستور دائم للدولة، إلى أن تم اعتماد دستور مؤقت في عام 2012، شكل لاحقًا الإطار القانوني الأساسي لعملية إعادة بناء الدولة.
وفي فبراير 2012، بادر الرئيس آنذاك شريف شيخ أحمد بعقد مشاورات مع عدد من القوى السياسية لوضع خارطة طريق تنهي المرحلة الانتقالية وتُفضي إلى انتخاب رئيس جمهورية ضمن ترتيبات دستورية مكتملة. غير أن الانتخابات التي جرت في عامي 2017 و2020 شهدت استمرار العمل بنظام الاقتراع غير المباشر، في ظل مقاومة سياسية لمحاولات الانتقال إلى نموذج التصويت الشعبي العام، وهي المحاولات التي قادها الرئيس السابق محمد عبد الله فرماجو دون أن يُكتب لها النجاح نتيجة ممانعة داخلية من قوى سياسية فاعلة.
وفي إطار تجديد المسعى لترسيخ شرعية دستورية تؤسس لنظام انتخابي مباشر، أقر البرلمان الصومالي في مارس 2024 سلسلة تعديلات دستورية جوهرية، تمثلت في تغيير نظام الحكم من صيغة برلمانية إلى رئاسية، واعتماد مبدأ الاقتراع العام المباشر، وتمديد الفترة الرئاسية من أربع إلى خمس سنوات. ورغم ما حملته هذه التعديلات من تطلعات نحو تجاوز نظام المحاصصة العشائرية، فقد قوبلت بموجة من التحفظات والرفض السياسي من قبل ولايتي جوبالاند وبونتلاند، اللتين اعتبرتا أن التعديلات جرت في غياب توافق وطني شامل؛ مما يهدد بتعميق حالة الانقسام داخل النظام السياسي الفيدرالي.
ثانيًا: القانون الانتخابي
في خطوة أثارت جدلًا واسعًا داخل الأوساط السياسية الصومالية، أقرّ البرلمان الفيدرالي في 20 نوفمبر 2024 مشروع “قانون المنظمات والأحزاب السياسية”؛ حيث صوّت لصالحه 169 نائبًا من أصل 172، بالتوازي مع تمرير “قانون إنشاء لجنة الانتخابات والحدود المستقلة”، كجزء من حزمة الإصلاحات السياسية التي تروج لها الحكومة الصومالية، تمهيدًا للانتقال إلى نظام التصويت المباشر في الانتخابات العامة المزمع إجراؤها في عام 2026، وهو النظام الذي كان سائدًا حتى عام 1968 قبل انهيار الدولة الصومالية.
ويُمثل هذا التحول القانوني محاولة لتفكيك البنية السياسية القبلية التي أرست دعائمها ترتيبات ما بعد عام 2000، والتي كرّست نظام المحاصصة العشائرية بوصفه إطارًا توافقيًا لإعادة بناء الدولة؛ حيث تولى شيوخ العشائر اختيار ممثلي البرلمان الذين يقومون بدورهم بانتخاب رئيس الجمهورية.
غير أن إقرار هذه القوانين دون توافق وطني شامل، وبخاصة في ظل معارضة حادة من ولايتي جوبالاند وبونتلاند، أعاد تأجيج التوترات بين المركز والأقاليم. ففي 25 نوفمبر 2024، أقدمت جوبالاند على تنظيم انتخابات إقليمية بشكل أحادي، أُعيد خلالها انتخاب أحمد محمد إسلام “مادوبي” رئيسًا للولاية، دون اعتراف رسمي من الحكومة الفيدرالية في مقديشو. وردًا على ذلك، أعلنت الولاية تعليق كافة أشكال التعاون مع السلطة المركزية، وتبعه تصعيد غير مسبوق تمثل في إصدار محكمة كسمايو مذكرة توقيف بحق الرئيس حسن شيخ محمود، متهمة إياه بإشعال فتنة تهدد الوحدة الوطنية.
وفي المقابل، ردت محكمة إقليم بنادر التابعة للعاصمة بإصدار مذكرة اعتقال بحق مادوبي، بدعوى انتهاكه الدستور الصومالي وإجراء انتخابات خارج الإطار القانوني الوطني. ويعكس هذا التصعيد القضائي المتبادل دخول العلاقة بين الحكومة الفيدرالية وبعض الولايات إلى مرحلة حرجة من الانقسام المؤسسي، الذي ينذر بمفاقمة حالة الانسداد السياسي.
ثالثًا: المشهد السياسي
تمثل البنية الدستورية والتشريعية الركيزة الأساسية لإعادة تأسيس الدولة الصومالية، بما يشمله ذلك من إعادة هندسة المجال العام، على نحوٍ متجاوز الانقسامات العشائرية؛ إذ تتمثل أبرز التحديات في هذا المسار في بلورة توافق وطني حول طبيعة النظام الفيدرالي، في ظل تعقيدات ترتبط بمسألة انفصال “أرض الصومال”، والاختلافات العميقة بين الحكومة الفيدرالية وولايات رئيسية مثل جوبالاند وبونتلاند حول توزيع الصلاحيات وتفسير الترتيبات الفيدرالية.
وفي سياق هذا الواقع السياسي المتشظي، بدلًا من التوجه نحو توافق سياسي واسع، اتخذ الرئيس حسن شيخ محمود خطوة مثيرة للجدل؛ حين أعلن في 13 مايو 2025 عن تأسيس حزب جديد حمل اسم “العدالة والتضامن”، ضم في عضويته عددًا من قيادات الحكومة الفيدرالية وبعض رؤساء الولايات، مع استثناء ملحوظ لرئيسي ولايتي جوبالاند وبونتلاند، اللذين لا يزالان على خلاف حاد مع الحكومة المركزية، ويُتوقع أن يترشح الرئيس شيخ محمود ممثلًا عن هذا الحزب في الانتخابات العامة المقرر تنظيمها عام 2026.
وقد تزامن الإعلان عن تأسيس الحزب الجديد مع إطلاق عملية تسجيل الناخبين منتصف أبريل 2025 في العاصمة مقديشو، على أن تعقبها لاحقًا عمليات تسجيل مماثلة في بقية الولايات، ضمن التحضيرات الفنية للانتقال نحو نظام الاقتراع المباشر. غير أن هذا المسار يواجه تحديات مزدوجة؛ أمنية ولوجستية من جهة، وسياسية من جهة أخرى. فمن ناحية، لا تزال الأوضاع الأمنية الهشة تعيق التمدد المؤسسي للدولة في بعض المناطق، خاصة تلك الخاضعة لنفوذ حركة الشباب أو التي تعاني من انعدام السيطرة الحكومية. ومن ناحية أخرى، تثير مسألة تسجيل الناخبين إشكالات سياسية حادة، خصوصًا في الولايات التي ترفض المسار الحالي وترى أنه يُجرى فرضه بشكل أحادي دون توافق وطني؛ مما يُنذر بإمكانية عرقلة الانتخابات في مناطق واسعة أو التشكيك في شرعيتها، حال المضي في تنفيذها من طرف واحد.
في الأخير:
في ظل التعقيدات البنيوية التي تهيمن على المشهد السياسي الصومالي، يظل مشروع بناء الدولة الوطنية محاطًا بعقبة مركزية تتمثل في غياب التوافق السياسي حول القواعد الدستورية والمؤسسية الناظمة للعملية السياسية، وهو ما يعيق بلورة عقد اجتماعي جديد يعيد صياغة العلاقة بين الحكومة المركزية والولايات الفيدرالية، ويمنح النظام السياسي شرعية وطنية شاملة ومستقرة. وفي هذا السياق، تبدو الإصلاحات السياسية التي يتبناها الرئيس حسن شيخ محمود مهددة بتكرار سيناريو الإخفاق الذي صاحب محاولات سلفه محمد عبد الله فرماجو، حينما قوبلت سياساته الرامية إلى فرض نظام انتخابي مباشر برفض واسع من المعارضة، وانتهت بخروجه من المشهد والإبقاء على نظام ” التصويت غير المباشر”.
وفي موازاة هذا التعثر على مستوى الإصلاحات، تلوح أزمة هيكلية أعمق في بنية النظام الفيدرالي ذاته، مع تصاعد التوتر بين المركز وولايتي بونتلاند وجوبالاند، خصوصًا مع اتجاه الأخيرة لعقد انتخابات محلية دون التنسيق مع الحكومة الفيدرالية. وتشير هذه التباينات إلى احتمال دخول النظام الفيدرالي الصومالي في مرحلة حرجة، قد تنتهي بتقويض أسسه إذا لم تُبادر القيادة السياسية إلى بناء توافق شامل يضمن استقرار المسار السياسي، ويحول دون انزلاق البلاد إلى مزيد من التفكك والانقسام المؤسسي.