في نهاية يوليو 2024، حظرت إريتريا الخطوط الجوية الإثيوبية من مجالها الجوي، بدءًا من 30 سبتمبر 2024، بدعوى إساءة معاملة الركاب وقضايا التشغيل، المرتبطة بالرحلات الخمس الأسبوعية بين البدلين، وفقًا لهيئة الطيران المدني الإريترية، التي نصحت المسافرين بالبحث في خيارات بديلة مناسبة، بعد هذا التاريخ. وردًا على ذلك، أعلنت الخطوط الجوية الإثيوبية تعليق رحلاتها المباشرة إلى العاصمة الإريترية أسمرا، بدءًا من 3 سبتمبر، نظرًا للظروف التشغيلية الصعبة التي تواجهها شركة الطيران الإثيوبية في إريتريا.
جاء هذا القرار، في ضوء التوتر بين البلدين، المرتبط بمساعي إثيوبيا للوصول إلى البحر من جهة، والتوترات المتعلقة باتفاق سلام بريتوريا لتسوية الحرب في تيجراي من جهة أخرى، وعقب استئناف الرحلات الجوية بينهما عام 2018، في ضوء اتفاق السلام، الذي أسهم في حصول آبي أحمد على جائزة نوبل للسلام. وقد أسهم هذا الاتفاق في تحقيق اختراق دبلوماسي، أدى لاستئناف خدمات النقل البري والتجارة والاتصالات، التي كانت متأثرة بالصراع. ويفرض هذا التوتر بدوره، ضرورة البحث في أبعاد التوترات الإثيوبية الإريترية الراهنة.
أبعاد التوتر وجذوره
جاء التوتر بين البلدين في سياق عدد من التطورات المتلاحقة، التي يمكن إيرادها على النحو التالي:
المخاوف من الوصول الإثيوبي للبحر
رغم عودة العلاقات بين البلدين، في أعقاب اتفاق السلام الذي جرى عام 2018، وبشّر بإعادة صياغة العلاقات الإقليمية في منطقة القرن الأفريقي، بعد عقود من التوتر، وهيمنة حالة اللا حرب واللا سلم؛ فإن بذور التوتر ظلت كامنة تحت السطح، والتي سرعان ما أججها تعارض المصالح المتجذر في العقيدة الاستراتيجية للبلدين، والتي اختبرتها القضايا المتشابكة، التي وضعت حدًا لخطى التقارب، وأعادت التصعيد إلى الواجهة كمحدد للعلاقات بين الطرفين.
وعلى الرغم من بزوغ هذا التوتر مع سعي الحكومة الإثيوبية للاتفاق مع جبهة تحرير التيجراي، فإن الكشف عن مساعي الوصول إلى البحر كان المحفز الأبرز لبروز هذا التوتر على السطح، حينما كشف آبي أحمد عن طموحاته التاريخية، في 22 أكتوبر 2023، وربطها بالحقائق التاريخية وبالضرورات الاقتصادية والأمنية والديموغرافية، التي تتعارض مع تطلعات الدولة البالغ عدد سكانها 120 مليون نسمة. ورغم التقليل حينها من توظيف الأداة العسكرية في تحقيق ذلك الطموح، فإنه عاد في نوفمبر 2023، أمام البرلمان الإثيوبي، ليشير إلى أن الفشل في حل القضية من خلال المفاوضات قد يؤدي إلى الصراع، إذ تعد هذه المسألة وجودية بالنسبة لبلاده، كما ألقى باللوم كذلك على الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي، التي سمحت باستقلال إريتري؛ مما ترك إثيوبيا في وضع الدولة الحبيسة.
فقال آبي في خطابه: إن الوصول إلى البحر هو محور طموحات بلاده التي لا ينبغي ترك الأجيال القادمة للدخول في الصراع من أجلها، وأن هذا الطموح يمكن معالجته من خلال مناقشة خيارات الاستثمار والأسهم سواء عبر الشراء أو التأجير أو أي ترتيب متبادل يمكن الاتفاق عليه، مع أي دولة واقعة على البحر، حتى لا يمكن حصر هذا الهدف في ميناءي عصب ومصوع الإريتريين، في مسعى لرفع الحرج عن خوض تلك المناقشات.
وعلى الرغم من تعدد الخيارات التعاونية، لترجمة الرؤية المتعلقة بتبادل المنافع والموارد، إذ إن هناك تعاونًا قائمًا بالفعل مع كينيا عبر ميناء لامو، وكذلك مع جيبوتي التي اعتمدت 90% من تجارة إثيوبيا لنحو 20 عامًا، وكذلك الصومال خلال فترة القطيعة مع إريتريا، فإن تكلفة الاعتماد على جيبوتي باتت عالية، في وقت يعد فيه وصول إثيوبيا للبحر وإعادة بناء أسطولها البحري وتأمين طرق التجارة، بات على رأس الأولويات الاستراتيجية، ورغم طرح خيارات بديلة لموانئ إريتريا، فإن الحديث عن مسألة السيطرة السيادية على البحر، التي كشفت عنها الوثيقة الإثيوبية الصادرة في أكتوبر 2023، أثارت مخاوف إريتريا من التفكير في مسألة إعادة ضمّ أراضيها مرة أخرى لإثيوبيا.
وقد قام آبي أحمد بزيارة موانئ إريتريا والطرق والبنية التحتية الرابطة بين عصب ومدينة بوري في إثيوبيا، في الزيارة الثانية له عام 2018، التي شهدت اجتماعًا ثلاثيًا ضمّ إثيوبيا وإريتريا والصومال، حيث تم استئناف التعاون عبر موانئ عصب ومصوع مرة أخرى، وذلك بعد القيام بافتتاح سفارة إريتريا في إثيوبيا في 16 يوليو 2018، كذلك تم افتتاح الحدود بين البلدين لكنها أغلقت مرة أخرى، حيث أغلق معبر زالامبيسا نهاية 2018.
وتزامنت تلك التصريحات، مع قيام إثيوبيا بحشد عدد من القوات في منطقة زالامبيسا، التي تبعد عن مدينتي عصب وأسمرا بنحو 100 كم، في نوفمبر 2023. وردًا على هذا الخطاب من جانب إريتريا، جاء ذلك التصريح الذي يحمل الاستنكار لذلك الخطاب وما يحمله في طياته من طموحات لاستعادة الهيمنة، حيث جاء التصريح الإريتري كالتالي: “الخطابات -الفعلية والمفترضة- حول المياه والوصول إلى البحر والموضوعات ذات الصلة التي تم طرحها في الآونة الأخيرة عديدة ومفرطة بالفعل. لقد حيرت هذه القضية جميع المراقبين المعنيين”. وأضاف البيان الإريتري:” إنه لا يجب الانجرار إلى مثل هذه المنابر الإعلامية والأحاديث والاستفزازات”.
وعلى الرغم من اشتراك إريتريا مع كل من الصومال وجيبوتي في التحفظ العلني على المطامح الإثيوبية، فإن إريتريا كانت هي الأكثر تخوفًا من بين بلدان المنطقة؛ نظرًا لكونها الأكثر عرضة لترجمة دوافع الهيمنة الإثيوبية، عبر السيطرة على موانئها كجزء من النظرة التاريخية لإريتريا باعتبارها جزءًا من الإمبراطورية الإثيوبية، بخلاف الصومال وجيبوتي، التي قد تنظر إليهما إثيوبيا على سبيل التعاون والانتفاع، لا استعادة السيطرة بهدف الوصول للبحر.
فالخبرة الصراعية لإريتريا مع إثيوبيا تاريخيًا، تزيد من مخاوف المواجهة في العقلية الاستراتيجية الحاكمة للعلاقات بين البلدين، إذ إنه على الرغم من اعتماد إثيوبيا على موانئ الجيران وتحديدًا جيبوتي والصومال، فإن انفصال إريتريا في عقلية القوميين الإثيوبيين، كان العامل الذي أدى إلى حرمان الأخيرة من امتياز الوصول للبحر، التي تمتعت به خلال الفترة من 1952 حتى عام 1993، قبل أن تنفصل إريتريا في أعقاب نضال التحرير.
وتزامن التوتر الإريتري مع إثيوبيا، بتوترات مع الأخيرة من جانب الصومال، إذ أرسلت سلطة الطيران الصومالية في 21 أغسطس الماضي، خطابًا إلى شركة الخطوط الجوية الإثيوبية وسلطة الطيران المدني، طالبت فيها بحذف اسم صوماليلاند من مطار هرجسيا ووضع اسم الصومال، لكن الشركة اكتفت بإزالة صوماليلاند دون وضع الصومال، بل اكتفت بوضع كود المطار؛ الأمر الذي لم يلقَ قبول السلطات الصومالية.
التحفظات على بنود اتفاق بريتوريا
رغم أن اتفاق السلام بين البلدين بداية، جاء مدفوعًا بمعالجة قضايا الحدود العالقة بينهما، فإنه أُسس على عداء مشترك للجبهة الشعبية لتحرير التيجراي، وهو ما عطله إقليم التيجراي، إلى أن شاركت إريتريا إلى جانب القوات الفيدرالية الإثيوبية في الحرب على إقليم التيجراي، وعقب وضع اتفاق بريتوريا حدًا للأعمال العدائية في الإقليم، نشبت توترات من نوع آخر مع إقليم الأمهرا، الذي يمتلك ذات التحفظات لإريتريا على الاتفاق، الذي اشترط انسحاب القوات الأمهرية ” مليشيا فانو” والقوات الإريترية من الإقليم، إذ تحتل إريتريا مناطق واسعة في شمال إقليم التجيراي، واقعة في إقليم بادمي الذي تطالب به إريتريا منذ الاستقلال عام 1993، غير أن التوتر بين الحكومة الفيدرالية وإقليم الأمهرا، وفّر مدخلًا لإريتريا للتحالف مع الأمهرا؛ نظرًا لتشاركهما في ذات المخاوف من هيمنة التيجراي، وعدم رغبتهما في تنازل الأمهرا عن الأراضي التي استولت عليها في جنوب وجنوب غرب التيجراي، في أثناء الحرب.
وينظر إلى اتفاق بريتوريا على أنه أساس التوتر بين البلدين، والذي قد يمثل شرارة اشتعال حرب حدودية بينهما مرة أخرى، في ظل استمرار القوات الإريترية التي لم تطلب منها الحكومة الفيدرالية الإثيوبية الانسحاب من المناطق التي تسيطر عليها، رغم الضغوط الدولية. فقد مثلت حرب التيجراي بنتيجتها المتمثلة في اتفاق بريتوريا، خسارة بالنسبة لإريتريا، التي عادت للمربع الأول من التوتر مع إثيوبيا، والذي يضاف إلى ذلك السبب الطموحات الإثيوبية بامتلاك قوة بحرية، للخروج من أسر الدولة الحبيسة، خصوصًا وأن التقديرات كانت تذهب نحو توفير أفورقي إمكانية الوصول إلى البحر لإثيوبيا، مقابل التحالف ضد التجيراي، كجزء من صفقة السلام بينهما.
لكن على الخلاف مما هو متفق عليه، جاء التوافق بين آبي أحمد وجبهة تحرير تيجراي على غير إرادة من الجانب الإريتري، الذي وصلت التوترات معه إلى الحد الذي أرجع إليه آبي أحمد السبب في تعطيل السلام، فعلى الرغم من استمرار إنكار الجانب الإريتري لانخراطه في الحرب، فإن الاعترافات والشواهد الدالة على ذلك، أعقبها تعرض رئيس أركان قوات الدفاع الإريترية لعقوبات من وزارة الخزانة الأمريكية في أغسطس 2021، وفي منتصف نوفمبر عام 2022، صرّح مسئول بوزارة الخزانة الأمريكية بإمكانية فرض عقوبات على كامل إريتريا إذ لم تكف عن عرقلة اتفاق السلام، الذي أبدت كل من حكومة أديس أبابا وممثلي التيجراي، كامل استعدادهما لتطبيقه، ما يعني أن الجانب الإريتري هو من يقف حائلًا أمام تطبيق اتفاق السلام.
وكما أسهمت إعادة صياغة النظام السياسي داخليًا في إثارة التوترات العرقية في البلاد، فإن مساعي إثيوبيا لإعادة صياغة النظام الإقليمي، على نحوٍ يحقق طموحاتها السياسية في الهيمنة، ينذر بعودة التوترات الإقليمية التي قد تصل إلى حد المواجهة المباشرة، خاصة أن جذور التوترات بينها وبين إريتريا تاريخيًا لا تزال متجذرة في العلاقات الثنائية بينهما.
ويبدو أن التسوية النهائية لحرب التيجراي، التي لم يشهد الاتفاق الذي وضع حدًا لها، مشاركة وفود ممثلة للصوت الإريتري وكذلك الأمهري الذين شاركوا الحكومة الإثيوبية في الحرب، مثّلت خيبة توقعات بالنسبة لأسمرا، التي بدت أكثر حرصًا على تلك الحرب من الحكومة الإثيوبية، حيث يشار إلى قيام حكومة أسمرا حينها بإعلان التعبئة العامة للجيش، الذي انتشر على كامل الحدود، ليس فقط التي تتماس على إقليم التيجراي، وإنما أيضًا إقليم العفر؛ وهو الأمر الذي قوبل بالإنكار الإريتري تارة والتعبير عن مساعيها في الدفاع عن السيادة في مواجهة الانتهاكات التي يمارسها التيجراي، التي تسعى لضم أقاليم إريترية، بما يتناقض مع اتفاق السلام.
عدم صمود اتفاق سلام 2018
على الرغم من الآمال التي علقت على استئناف العلاقات، وفتح السفارات والرحلات الجوية، فإن الصفقة التجارية المتعلقة بمنح إثيوبيا حق الوصول إلى البحر باتت شأنها شأن فتح الحدود بين البلدين، وهو ما اعتبر حينها أن قادة البلدين بحاجة لمزيد من محادثات السلام، خاصة أن إدارة ملف السلام بين البلدين يتطلب إشراك إدارة التيجراي، التي تدير الحدود، التي ظلت مغلقة رغم الاتفاق المبرم بين البلدين عام 2002، وأنهى عامين من الصراع، بعد تشكيل بعثة أممية عام 2000 استمرت ثماني سنوات في عملها، قبل أن تعرقلها إريتريا، التي استولت على أراضي حدودية مع تيجراي، زعمت أن لجنة الحدود منحتها إياها عام 2002.
وفي سبتمبر 2024، انسحبت قوات الدفاع الإثيوبية من أغلب المناطق في بلدة زالامبيسا، التي تزعم إريتريا أنها تنتمي إلى منطقة ديبوب، بينما تزعم إثيوبيا أنها تنتمي إلى منطقة ميسكاراوي بإقليم تيجراي. وغالبًا ما تشكل الحدود بين البلدين، مصدرًا للنزاع والتوتر، الذي أدى إلى نشوب الحرب عام 1998، وهو ما يثير المخاوف من أن تؤدي التوترات الحدودية إلى مواجهات واسعة النطاق.
ولعل في التفاهمات التي جرت بين إقليم التيجراي وإريتريا عام 2021، انعكاس على مساحات التداخل بين الأخيرة والإقليم الذي ينتمي لإثيوبيا، إذ جرت جولتان من التفاوض في ذلك العام؛ الأولى كانت في دبي، حيث شارك فيها جيتاشو رضا، رئيس الإدارة الإقليمية المؤقتة لتيجراي، ممثلًا عن جبهة تحرير التيجراي، بينما جرت الجولة الثانية بمشاركة ديبريتسيون جبريمايكل، زعيم جبهة تحرير التيجراي، وذلك لمناقشة قضايا اختطاف المواطنين والأنشطة التي تقوم بها القوات الإريترية، بما يسمح بخلق أجواء إيجابية.
وعلى الرغم من تأييد رئيس الوزراء الإثيوبي لتلك الخطوة، التي تبعها اتفاق وقف الأعمال العدائية بين الحكومة الإثيوبية وجبهة تحرير التيجراي، في نوفمبر 2022 ببريتوريا بجنوب أفريقيا، الذي تضمن ضمن بنودٍ عديدة لإجراءات بناء الثقة، فكان القرار بانسحاب جميع قوات الدفاع الوطني غير الإثيوبية، بما في ذلك القوات الإريترية والمليشيات الإثيوبية المتحالفة مع الحكومة الإثيوبية.
وكان ينظر إلى التقارب الإثيوبي الإريتري، على خلفية اتفاق السلام، بأنه تحالف ضد عدو مشترك “جبهة تحرير التيجراي”، حيث بلغت مستويات التقارب بين ” آبي أحمد” و ” أسياس أفورقي” درجة اعتبر معها البعض أن الأخير بمثابة الأب الروحي للأول، الذي يسير على حذوه في إحكام السيطرة على البلاد. وبذلك نظرت إريتريا لاتفاق بريتوريا، باعتباره نقضًا لاتفاق 2018، الذي جاء بوساطة إماراتية، الذي نظر إليه في جوهره باعتباره تقاربًا مدفوعًا بمجابهة خصم مشترك. وبناءً عليه، يرى هذا التقدير، أن التحالف الكونفدرالي الذي سعى آبي أحمد إلى تشكيله، كان يبتغي الوصول إلى البحر بمباركة إريتريا؛ مما يعنى أن التخوف من الوصول إلى البحر ليس هو المحفز لمخاوف إريتريا من طموحات إثيوبيا.
إذ تحالفت إريتريا مع إثيوبيا في حربها على جبهة تحرير التيجراي؛ نظرًا لكون الأخيرة مهددًا مشتركًا لكل من أديس أبابا وأسمرا، إذ على الرغم من اتفاق السلام الذي أبرمه البلدان في 2018، لم تتنازل جبهة التيجراي عن الأراضي الحدودية التي يزعم كلا البلدين تبعيتها، علاوة على مساعي جبهة التيجراي لإعلان الانفصال، حال جاءت ترتيبات الحكم على نحوٍ يتعارض مع السيطرة النسبية التي تمتعت بها جبهة التيجراي لقرابة ثلاثة عقود، وهو ما انتهى في النهاية بالمواجهة العسكرية بين الجبهة الشعبية لتحرير التيجراي والقوات الفيدرالية الإثيوبية، بمشاركة إريتريا، التي تخشى من مساعي انفصال إقليم التيجراي؛ نظرًا لما تحمله قومية التيجراي من أحلام بإنشاء دولة للتجيراي، تضم أجزاء للتجراي ممتدة في إريتريا.
وعلى الرغم من العزلة الدولية التي كان يعاني منها نظام أفورقي، فإن تقاربه مع إثيوبيا كان يحظى بدعم إقليمي ودولي، وصل إلى حد رفع العقوبات المفروضة على بلاده، لما كان لها من دورٍ في إعادة هندسة الإقليم، تلعبه ليس فقط في قضايا الأمن البحري في البحر الأحمر، ولكن أيضًا في دعم التصورات الإثيوبية والإسرائيلية حول معادلة الأمن الإقليمي للبحر الأحمر، غير أن التدخل الإريتري في التيجراي، أسهم في عودة التوتر مرة أخرى، مع القوى الغربية، التي اتجهت نحو فرض عقوبات على الأشخاص والجهات الأمنية الإريترية لانخراطها في حرب التيجراي.
وعلى الرغم من تمسك نظام أفورقي بخيار الحرب في تيجراي والبقاء على توافقه مع آبي أحمد، كأساس لترجمة طموحاتهما الإقليمية، التي كانت مدعومة دوليًا، لاعتبارات تتعلق بدور البلدين في إرساء الأمن الإقليمي، فإن التسوية التي ذهبت إليه الحرب، دون إرادة أفورقي، أسهمت في تخلي الأخير عن تحالفه مع آبي أحمد، والاتجاه نحو إعادة النظر في حسابات التوازن في المنطقة.
طموحات إثيوبيا الإقليمية
ارتبطت التوترات الراهنة بين إثيوبيا وإريتريا، وكذلك بين الأولى ودول القرن الأفريقي، بطموحات إثيوبيا الإقليمية، التي سعت لتحقيقها بإعادة هندسة الإقليم منذ عام 2018، لكن يبدو أن مسار الهندسة الإقليمية، يأخذ منحى تصادميًا مع دول الجوار الإثيوبي:
هندسة إقليمية
كان اتفاق السلام الإثيوبي الإريتري، جزءًا من رؤية إقليمية أوسع لآبي أحمد لإعادة صياغة تحالفات وتوازنات المنطقة، إذ جرى بالتوازي تهدئة الموقف بين إريتريا وجيبوتي، فكانت التفاعلات الإقليمية في المنطقة، مغلفة بالتوتر، إذ كان هناك توتر بين إريتريا وجيبوتي، عائد إلى الأزمة الحدودية بينهما عام 2008، والتي توسطت فيها قطر عام 2010 حتى قامت بسحب قواتها التي كانت تراقب الحدود عام 2017.
ورغم انخراط جيبوتي في عملية الهندسة الإقليمية للقرن الأفريقي، فإنها كانت تحمل مخاوفها المتعلقة باحتمالات فقدان نسبة من التجارة الإثيوبية التي تسهم في 75% من حصة البضائع التي تمر عبر الموانئ في جيبوتي، في ظل حجم الاستثمارات في البنية التحتية والموانئ والامتيازات الممنوحة لشركات الشحن الإثيوبية، مما يجعل أي تقارب إثيوبي مع دول المنطقة هو بمثابة فقدان جيبوتي لميزة احتكار حق العبور الإثيوبي للبحر التي تتمتع بها، رغم ما توفره من امتيازات تتعلق بانخفاض تكلفة الشحن البحري مقارنة بالمعدل العالمي، إذ كانت الموانئ في كل من جيبوتي وإريتريا وجيبوتي وأرض الصومال، تقع جميعها ضمن الخيارات الإثيوبية للنفاذ للبحر.
وفيما يتعلق بالصومال، فعلى الرغم من أن الموقف الإريتري الراهن يأتي متصلًا بذات الموقف الصومالي من المساعي الإثيوبية للوصول للبحر، فإن الصومال أيضًا في عهد الرئيس السابق محمد عبد الله فرماجو، بارك الاتفاق الثنائي الإثيوبي- الإريتري، وانضمّ الصومال لتحالف ثلاثي، يستهدف إعادة صياغة توازنات القرن الأفريقي، في وقت كان يمارس فيه كلٌ من آبي أحمد وأسياس أفورقي نفوذًا في الداخل الصومالي.
وارتكز هذا التحالف الثلاثي، إلى تعزيز التعاون الإقليمي وإعادة صياغة توازنات المنطقة، إذ عقدت اتفاقية أمنية عام 2018، سمحت بقيام إريتريا بتدريب قوات صومالية، وكذلك قيام إثيوبيا بتوقيع اتفاقية استثمارية لتطوير أربعة موانئ بحرية في الصومال، كجزء من مساعي أديس أبابا لتخفيف اعتمادها الكلي على موانئ جيبوتي.
ولعل تبني رئيس الوزراء الإثيوبي ” آبي أحمد”، سياسة إقليمية تستند إلى سياسة ” صفر مشاكل”، كجزء من إعادة بناء النفوذ والدولة الإثيوبية صاحبة الريادة الإقليمية، كانت اتفاقات السلام أحد تجلياتها. وترجمة لمساعي إثيوبيا لإعادة بناء قوتها البحرية، أجرى آبي أحمد حوارات مع رئيسي جيبوتي والصومال، على هامش القمة السعودية الأفريقية، والتي أعقبها مذكرة تفاهم دفاعية مع جيبوتي في نوفمبر 2023، غير أن تفاهمات مماثلة كتلك لم تكن مطروحة مع إريتريا.
ونظرًا لبراعة أسمرا في توظيف التناقضات، فإنها على الرغم من تشاركها مع إثيوبيا في ممارسة نفوذ في الداخل الصومالي، انقلب إلى النقيض مع التوتر في العلاقات بين إثيوبيا وإريتريا، إذ كان ينظر إلى مباركة الغرب لاتفاق السلام الإثيوبي الإريتري، على أنه مباركة لمزيد من الدور الإقليمي لإثيوبيا، الذي حتمًا كان يؤثر في معادلة الأمن بالصومال، إلى جانب ذلك التأثير الذي كانت تلعبه إريتريا، بما في ذلك على سبيل المثال، أزمة الخمسة آلاف جندي الصوماليين، الذين كان يتم تدريبهم في إريتريا للعودة للمشاركة في الحرب ضد حركة الشباب، والتي ماطلت إريتريا في إرجاعهم لبلادهم، حتى وصل الرئيس حسن شيخ محمود للحكم، وفتح هذا الملف؛ الأمر الذي ينذر باحتمالات إعادة صياغة علاقة أكثر ودًا بين الصومال وإريتريا، في ظل توتر علاقة الأخيرة بإثيوبيا، والتي بدت ملامحها بداية مع تعيين الصومال لأول سفير لها إلى إريتريا منذ استقلال الأخيرة، وذلك في نوفمبر 2023، كجزء من حلقات عديدة من إبداء المواقف التضامنية إزاء مساعي إثيوبيا الإقليمية.
وفور الإعلان عن مذكرة التفاهم الإثيوبية مع أرض الصومال، أعلن الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود، استعداد بلاده لتلقي أي دعم من أي دولة حليف، أعقبها التوجه إلى إريتريا في 8 يناير 2024، في أولى زياراته الخارجية بعد تلك الأزمة، وتكررت تلك الزيارة في 11 مارس 2024، في إطار مساعي تعزيز التعاون بين البلدين؛ الأمر الذي يعكس حجم الموقف الإريتري من تحركات إثيوبيا.
هيمنة إقليمية
لا ينفصل التوتر الحادث بين إثيوبيا وإريتريا عن ذلك القائم بين الأولى والصومال، لذات الأسباب التي أسهمت في ارتفاع مستوى المخاوف والتوترات الإقليمية، والمتعلقة بالطموحات الإثيوبية في الوصول إلى البحر، والتي بموجبها وقّعت اتفاقًا مع إقليم أرض الصومال الانفصالي، بموجبه تحصل إثيوبيا على 20 كم من ساحل أرض الصومال عبر ميناء بربرة لمدة 50 عامًا، مقابل منح الاعتراف بسيادتها.
ولم تقف حدود التوترات عند حدود إريتريا إذ تنامت تلك التوترات إلى الواجهة الرئيسية في الصومال، ودخلت جيبوتي على خط الأزمة هي الأخرى. فعلى الرغم من اتخاذ الصومال الساحة الرئيسية للمواجهة، على نحوٍ تعاد معه صياغة التفاعلات الإقليمية، كان رد الفعل الجيبوتي لا ينفصل عن ذات الخط الإقليمي الذي كشف عن التوجس من الطموحات الإثيوبية، التي كان قد عبّر عنها ” آبي أحمد” أمام البرلمان الإثيوبي عام 2021، حينما قال:” إن إثيوبيا يجب أن تصبح إحدى قوتين عظميين عالميتين بحلول منتصف القرن”، مما يكشف عن الطموحات الإقليمية والخارجية لإثيوبيا، التي ترى في نفسها ركيزة الاستقرار الإقليمي، التي لطالما حافظت على علاقات وطيدة بالقوى الكبرى، في إطار كونها حامية الاستقرار الإقليمي.
ولا يمكن فصل الطموحات الإثيوبية للوصول للبحر التي تربطها بالحاجة إلى التنمية الاقتصادية والنمو لدولة ذات عدد هائل من السكان في المنطقة، عن تلك الطموحات المتعلقة بجعل الاقتصاد الإثيوبي مكافئًا لحجم القوة والدور الذي تبتغي ممارسته، إذ كانت الحاجة إلى التنمية الاقتصادية، أحد مستهدفات الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الإثيوبية، التي ارتأت أن ضعف النمو الاقتصادي هو أحد المهددات الأمنية للدولة الإثيوبية، مما جعلها تحافظ على نمو اقتصادي قوي، لنحو عقدين، قبل أن تشهد انتكاسات، لم تكشف عنها الانقسامات العرقية داخليًا فحسب، وإنما عدم القدرة على تخليق وظائف وتحقيق تنمية مستدامة؛ مما أدى إلى التراجع السريع في المؤشرات الاقتصادية في أثناء حرب التيجراي.
وينظر إلى مذكرة التفاهم باعتبارها أحد عوامل عدم الاستقرار الإقليمي، الذي يمكن في ضوئها إعادة صياغة التوازنات في المنطقة مرة أخرى، إذ كان الوصول إلى البحر المحرك لإعادة تشكيل تحالفات القرن الأفريقي عام 2018، حينما أعلن آبي أحمد عن رغبة بلاده في إعادة تشكيل القوات البحرية الإثيوبية وإقامة قاعدة بحرية على البحر الأحمر، كانت جيبوتي المرجحة لاستضافتها، في ضوء زيارة آبي أحمد لها في أكتوبر 2019، وإعلان التقارير الإعلامية عن ذلك في ديسمبر من العام ذاته، رغم ما كان مطروحًا من خيارات إقليمية متعددة، كان ميناء مصوع الإريتري من ضمنها. وكانت إثيوبيا أعلنت في مايو 2018، أنها ستستحوذ على حصة في ميناء جيبوتي، مقابل حصول الأخيرة على حصص من شركات إثيوبية مملوكة للدولة، وتزامن ذلك مع الإعلان في الشهر عن توصل إثيوبيا لاتفاق مع السودان لتطوير ميناء بورتسودان مقابل امتلاك حصة من الميناء، وسبقها في مارس 2018 توقع اتفاق مع حكومة أرض الصومال.
ولم تقتصر المخاوف الإقليمية من مذكرة التفاهم الإثيوبية، إذ كشفت الوثيقة الصادرة عن معهد الشئون الخارجية التابع لوزارة الخارجية الإثيوبية (IFA)، في مارس 2024، التي ربطت بين الحفاظ على سيادة الدولة ودرء المخاطر وبين أهمية الحصول على منفذ على البحر، وتعزيز الاستفادة من موارد البلاد المائية، مع طرح إمكانية البحث في كافة الخيارات المطروحة لتحقيق ذلك، بما في ذلك تعزيز القدرات العسكرية.
أخيرًا، على الرغم المخاوف المتعلقة باحتمالات عودة المواجهة بين البلدين، فإن الظروف المحلية للبلدين، التي تحد من إقدامهما على مواجهة مفتوحة، نظرًا للظروف الاقتصادية، وكذلك التوترات بين الحكومات وجماعات المعارضة، على نحوٍ يعكس قدرًا من الهشاشة، يجعل هذه المخاوف في حدها المعقول. كذلك تعكس التوترات بين البلدين، أن اتفاق السلام الذي جرى، كان اتفاقًا نخبويًا لا يحظى بالتأييد الشعبي، مثلما هو الحال في السياسات الداخلية التي لا تحظى أيضًا بالإجماع؛ مما يجعل التوافقات النخبوية قد تتعارض مع مصالح فئوية في كلا البلدين، على نحوٍ قد يعيق من تحقق تقدم دون أخذ كافة التوازنات في الاعتبار.