يقدم تقرير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) لعام 2025 رؤية شاملة للآفاق الاقتصادية العالمية حتى عام 2100، مع التركيز على تحديات المناخ. يعتمد التقرير على نموذج محدث يدمج الاقتصاد العالمي بأكمله ويأخذ في الاعتبار للمرة الأولى تأثير الأضرار المناخية على الناتج الاقتصادي.
وتكمن القيمة الرئيسية للتقرير في استكشاف ستة سيناريوهات مختلفة، كل منها يقدم مسارًا محتملًا للمستقبل بناءً على افتراضات متباينة حول التحول في مجال الطاقة وتكاليفه. ويأتي هذا المقال لاستعراض أبرز ما جاء في هذا التقرير وأبرز النتائج الرئيسة.
أولًا: السيناريوهات الأساسية:
تفترض هذه السيناريوهات استمرار الجهود الحالية لتقليل الانبعاثات وتحسين كفاءة الطاقة دون تغيير جوهري، تُظهر سيناريوهات “العمل المعتاد” (BAU) ما يمكن أن يحدث إذا استمر العالم في مساره الحالي. إنها بمثابة إنذار واضح حول المخاطر الكامنة في التباطؤ في اتخاذ الإجراءات المناخية. يركز التقرير على سيناريوهين رئيسيين:
1. السيناريو الأول (BAU1): يفترض منحنى ضرر مناخي متوسط؛ هذا السيناريو هو نقطة الانطلاق للتحليل ويفترض استمرار السياسات الحالية دون تغيير جوهري، مع استمرار التحول في مجال الطاقة بنفس الوتيرة التاريخية الأخيرة، وهو ما لا يكفي لتحقيق أهداف اتفاقية باريس للمناخ. وبناء على هذا السيناريو يشير التقرير إلى عدد من التوقعات:
- تباطؤ النمو العالمي: من المتوقع أن يتباطأ نمو الناتج السنوي العالمي المحتمل بشكل تدريجي ومستمر. فبعد أن كان حوالي 2.9% في الوقت الحالي، سينخفض إلى 2.7% في أوائل ثلاثينيات القرن الحادي والعشرين، ثم إلى 2.1% في أوائل الأربعينيات. وبحلول الجزء الأخير من القرن، سيستقر النمو عند حوالي 1.3%. يُعزى هذا التباطؤ بشكل كبير إلى عوامل ديموغرافية، حيث ستتراجع مساهمة السكان في سن العمل في النمو، لتصبح سلبية في أوائل ثمانينيات القرن الحادي والعشرين.
- ديناميكيات القوى الاقتصادية؛ ستشهد المساهمات الإقليمية في النمو الاقتصادي العالمي تحولات كبيرة. فمنطقة شرق آسيا والمحيط الهادئ، التي تساهم حاليًا بأكثر من نقطة مئوية واحدة في النمو العالمي، ستشهد انخفاضًا حادًا لتصبح مساهمتها أقل من 0.2 نقطة مئوية بحلول نهاية القرن. يُعزى هذا التراجع بشكل كبير إلى الصين، التي ستنخفض مساهمتها الفردية من حوالي 0.9 نقطة مئوية اليوم (ما يقرب من ثلث النمو العالمي) إلى الصفر بحلول أواخر الخمسينيات. في المقابل، من المتوقع أن تبرز منطقة أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى كقوة اقتصادية متنامية، حيث ستزيد حصتها في الناتج العالمي من حوالي 3% حاليًا إلى حوالي 13% بنهاية فترة التوقعات. وعلى صعيد ترتيب الاقتصادات، ستظل الصين أكبر اقتصاد في العالم حتى منتصف ستينيات القرن الحادي والعشرين، ومن المتوقع أن تتجاوزها الهند.
- خسائر اقتصادية كارثية: يكشف التقرير أن عدم اتخاذ إجراءات كافية سيؤدي إلى ارتفاع درجة حرارة الأرض إلى 2.5 درجة مئوية. هذا الارتفاع سيُفاقم الأضرار الاقتصادية، حيث من المتوقع أن تزيد الخسائر في الناتج العالمي من1.75% حاليًا إلى ما يقرب إلى 9% بحلول عام 2100. يُذكر أن هذا السيناريو لا يتضمن أي تكاليف إضافية لتخفيف انبعاثات الكربون، حيث يفترض استمرار الوضع الراهن.
- لا يزال الاعتماد على المصادر القائمة على الكربون مرتفعًا، حيث يُشكل 75% من مزيج الطاقة الأولية العالمي بحلول عام 2050، وينخفض إلى أكثر من 60% فقط بحلول عام 2100. نتيجةً لذلك، من المتوقع أن تستمر الانبعاثات الصافية لغازات الدفيئة في الزيادة حتى عام 2040 تقريبًا قبل أن تبدأ في التراجع ببطء.

2. السيناريو الثاني: العمل المعتاد (BAU2) هذا السيناريو هو سيناريو بديل لـ BAU1، يُقدم سيناريو BAU2 رؤية بديلة ومقلقة لما قد يؤول إليه الحال في ظل استمرار المسار الاقتصادي الحالي. على غرار سيناريو BAU1، يفترض هذا النموذج عدم تسريع جهود التحول في مجال الطاقة، لكنه يختلف عنه في استخدام منحنى أضرار مناخية “أكثر انحدارًا”. يهدف هذا التغيير إلى تسليط الضوء على المخاطر الكبيرة التي يحملها تغير المناخ. ففي هذا السيناريو الأكثر تشاؤمًا، تُظهر التوقعات أن الأضرار المناخية يمكن أن تكون أعلى بكثير، لدرجة أنها قد تؤدي إلى خفض الناتج العالمي بنسبة صادمة تصل إلى 36% بحلول عام 2100، مما يؤكد على أهمية عدم الاستهانة بالتهديدات المحتملة لتغير المناخ.
ثانيًا: سيناريوهات التحول في مجال الطاقة:
تفترض هذه السيناريوهات أن جميع الدول تسرّع من جهود إزالة الكربون وكفاءة الطاقة، مما يؤدي إلى التخلص من الفحم بحلول عام 2050، والحد من حصص النفط والغاز في مصادر الطاقة الأولية إلى 5% و10% على التوالي. يؤدي هذا التحول إلى الحد من الاحترار العالمي إلى 1.6 درجة مئوية بحلول عام 2100، بما يتماشى مع أهداف اتفاقية باريس. توضح أربعة سيناريوهات مختلفة كيف يمكن أن يؤثر التحول على الناتج العالمي:
- ET1 (منحنى ضرر متوسط وتكاليف بطيئة الانخفاض): سيبقى الناتج العالمي في عام 2100 أقل مما هو عليه في سيناريو العمل المعتاد المقابل.
- ET2 (منحنى ضرر متوسط وتكاليف سريعة الانخفاض): سيصبح التحول إيجابيًا صافيًا للناتج العالمي بحلول عام 2085.
- ET3 (منحنى ضرر مرتفع وتكاليف بطيئة الانخفاض): سيصبح التحول إيجابيًا صافيًا للناتج العالمي في منتصف الخمسينيات من القرن الحالي.
- ET4 (منحنى ضرر مرتفع وتكاليف سريعة الانخفاض): سيصبح التحول إيجابيًا صافيًا للناتج العالمي في منتصف الأربعينيات من القرن الحالي. وفي هذا السيناريو، ستصبح جميع الدول التي شملها النموذج مستفيدة صافية بحلول عام 2080.
بشكل عام، فإن سيناريو ET2 (منحنى ضرر متوسط وتكاليف سريعة الانخفاض) يقدم التوقعات الأكثر تفاؤلًا، حيث يؤدي إلى ارتفاع مستويات المعيشة العالمية مقارنةً بمسار العمل المعتاد بحلول نهاية القرن.
ومن حيث المستويات المتوقعة للناتج العالمي المحتمل للفرد، فإن السيناريو الذي يتضمن منحنى متوسط للأضرار المناخية وانخفاض سريع في تكاليف التخفيف يقدم التوقعات الأكثر تفاؤلًا، مع ارتفاع مستويات المعيشة العالمية مقارنة بنظيرتها في ظل استمرار العمل كالمعتاد بحلول نهاية القرن.
ثالثًا: توقعات ومسارات مستقبلية:
الإنتاجية أو ما يعرف بكفاءة العمل؛ وفقًا لتقرير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، تُعد كفاءة العمل المحرك الأساسي للنمو الاقتصادي المحتمل على المدى الطويل، حيث يعتمد النموذج على تحليل نموها إلى عدة مكونات أساسية. أولًا، هناك التقدم التقني العالمي الذي يؤثر على جميع الاقتصادات، ويُقدر التقرير مساهمته بنسبة 1% سنويًا. ثانيًا، يساهم التقارب، أي قدرة الاقتصادات النامية على اللحاق بمستويات إنتاجية الاقتصادات المتقدمة، بشكل إيجابي في النمو بمتوسط قدره 0.6 نقطة مئوية سنويًا. ثالثًا، يُظهر التقرير أن الأضرار المناخية تمثل قناة تأثير سلبية جديدة، حيث يؤثر الاحترار العالمي سلبًا على كفاءة العمل، بعامل سلبي يبلغ -0.1 نقطة مئوية في المتوسط السنوي. وأخيرًا، يعكس الزخم العوامل المتبقية التي تؤثر على نمو كفاءة العمل على المدى القصير والمتوسط.
يؤكد التقرير أن هذه السيناريوهات ليست مجرد تنبؤات، بل هي أدوات حيوية لفهم التحديات طويلة الأجل. تُظهر النتائج بوضوح أن تباطؤ النمو العالمي أمر لا مفر منه بسبب العوامل الديموغرافية، وأن الأضرار المناخية تشكل تهديدًا كبيرًا على الناتج الاقتصادي، مع توقع خسائر تصل إلى 9% في سيناريو العمل المعتاد بحلول عام 2100. كما يشير التقرير إلى أن الاختلافات في التوقعات مقارنة بالإصدارات السابقة لا تعكس بالضرورة التطورات السياسية، بل غالبًا ما تكون نتيجة لتحديث البيانات أو التغييرات المنهجية في النموذج.
رابعًا: التأثيرات المحتملة على مصر:
بينما لم يذكر التقرير مصر بشكل مباشر، يمكن استنتاج تأثيرات محتملة عليها من خلال تحليل سيناريوهات التقرير الرئيسية، خاصة في ضوء نقاط الضعف والقوة في الاقتصاد المصري.
1. التأثيرات في سيناريو “العمل المعتاد” (BAU)
إذا استمر العالم في مسار “العمل المعتاد” دون تسريع جهود التحول الأخضر، فستكون التأثيرات على مصر سلبية وخطيرة على الأرجح:
- خسائر اقتصادية من الأضرار المناخية:
- تأثير مباشر: مصر من الدول الأكثر عرضة لتأثيرات التغير المناخي، مثل ارتفاع منسوب سطح البحر الذي يهدد المناطق الساحلية والدلتا الزراعية، والتصحر، وندرة المياه. هذه الأضرار ستؤثر بشكل مباشر على الناتج الاقتصادي، خاصة في قطاعات حيوية مثل الزراعة والسياحة.
- تأثير غير مباشر: الخسائر المتوقعة في الناتج العالمي بنسبة 9% أو حتى 36% بحلول عام 2100 ستؤثر على الطلب على الصادرات المصرية، وتدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر، وتحويلات المصريين بالخارج، مما يضع ضغوطًا إضافية على الاقتصاد.
- التحولات في القوى الاقتصادية:
- تراجع الصين: اعتماد مصر على الصين كشريك تجاري رئيسي وكمصدر للاستثمارات قد يتأثر سلبًا مع تراجع مساهمتها في النمو العالمي. هذا قد يتطلب من مصر تنويع شركائها التجاريين والبحث عن أسواق جديدة.
- صعود أفريقيا: يمثل صعود أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى كقوة اقتصادية فرصة كبيرة لمصر، بصفتها بوابة للقارة الأفريقية ومركزًا لوجستيًا، يمكن لمصر الاستفادة من هذا النمو المتزايد لتعزيز تجارتها الإقليمية، وتوسيع استثماراتها في القارة، والاندماج بشكل أكبر في سلاسل القيمة الإقليمية.
2. التأثيرات في سيناريو “التحول في مجال الطاقة” (ET)
إذا تسارعت جهود التحول في مجال الطاقة عالميًا، فستواجه مصر تحديات وفرصًا جديدة:
- تحديات:
- الاعتماد على الوقود الأحفوري: لا يزال الاقتصاد المصري يعتمد بشكل كبير على الوقود الأحفوري، سواء من حيث الاستهلاك المحلي أو كسلعة تصديرية، لذا أن التحول العالمي نحو الطاقة المتجددة سيقلل الطلب على الغاز والنفط، مما قد يؤثر على عائدات مصر من الطاقة.
- تكاليف التحول: التحول نحو مصادر الطاقة المتجددة يتطلب استثمارات ضخمة في البنية التحتية، والتي قد تشكل عبئًا على الموازنة العامة.
- فرص:
- ميزة تنافسية في الطاقة المتجددة: تتمتع مصر بموارد هائلة من الطاقة الشمسية وطاقة الرياح؛ يمكن أن يؤدي التحول العالمي إلى زيادة الطلب على هذه الموارد، مما يضع مصر في موقع متميز كمنتج ومصدر للطاقة النظيفة، وأن الاستثمار في مشاريع مثل محطة بنبان للطاقة الشمسية يعكس وعيًا بهذه الفرصة.
- الاقتصاد الأخضر: يمكن لمصر أن تستفيد من التحول العالمي نحو الاقتصاد الأخضر من خلال جذب الاستثمارات في المشاريع الخضراء، وتطوير صناعات تكنولوجية مرتبطة بالطاقة المتجددة، مما يخلق فرص عمل جديدة ويدعم نموًا اقتصاديًا مستدامًا.
- تحسين الإنتاجية: يشير التقرير إلى أن التغير المناخي يؤثر سلبًا على كفاءة العمل، من خلال اتخاذ إجراءات استباقية للتكيف مع التغيرات المناخية، يمكن لمصر حماية إنتاجيتها في قطاعات مثل الزراعة والبناء، مما يقلل من الخسائر المحتملة.
مما سبق نخلص للآتي؛ تُظهر نتائج تقرير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن المسار المستقبلي لمصر يرتبط ارتباطًا وثيقًا بمسار الاقتصاد العالمي. إذا استمر العالم في سيناريو “العمل المعتاد”، فستواجه مصر تهديدات مباشرة على اقتصادها. أما إذا تسارع العالم في التحول الأخضر، فستواجه مصر تحديات في التكيف مع هذا التحول، ولكنها ستفتح في الوقت نفسه فرصًا هائلة لتحقيق نمو مستدام من خلال استغلال مواردها الطبيعية في الطاقة المتجددة وتعزيز دورها كمركز إقليمي في أفريقيا.
كما يؤكد التقرير على أهمية الإنتاجية كمحرك أساسي للنمو، بينما تمتلك مصر قوة عاملة شابة، فإن التحدي يكمن في كيفية تحسين مهاراتهم واستخدام التكنولوجيا لزيادة كفاءة العمل، لذا يظهر الاستثمار في التعليم والتدريب والبحث والتطوير كعامل حاسم لتحقيق النمو المستدام.
على عكس بعض الاقتصادات الكبرى التي تعاني من شيخوخة السكان، لا تزال مصر تمتلك قوة عاملة شابة، مما يمكن أن يكون ميزة كبيرة. ومع ذلك، يجب استغلال هذه الميزة من خلال توفير فرص عمل كافية وذات قيمة مضافة عالية لتجنب البطالة وتحقيق الاستفادة القصوى من “العائد الديموغرافي”.