تواجه جماعة أنصار الله (الحوثيون) في المرحلة الراهنة جملة من التحديات المتشابكة على المستويين الداخلي والخارجي. فمن ناحية، دخلت الجماعة في دائرة من الضربات المتبادلة مع إسرائيل على خلفية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وهي مواجهة أخذت أبعادًا غير مسبوقة بعد عملية اغتيال عدد من القيادات السياسية للجماعة، وفي مقدمتهم رئيس الوزراء أحمد علي عوض الرحوي في 28 أغسطس 2025. ومن ناحية أخرى، تتصاعد الضغوط الداخلية بفعل الأزمات الاقتصادية والمعيشية المتراكمة، وما تفرضه من تداعيات على إدارة شئون المناطق التي تسيطر عليها. وفيما يلي أبرز التحديات التي تواجه الجماعة على المستويين الداخلي والخارجي:
أولًا: اغتيال القيادات والارتباك التنظيمي بعد الضربات الإسرائيلية
شكلت الضربات الإسرائيلية الأخيرة التي استهدفت قيادات جماعة أنصار الله (الحوثيين) في صنعاء وصعدة، وأسفرت عن مقتل رئيس حكومة الجماعة أحمد علي عوض الرحوي وعدد من الوزراء، تحولًا نوعيًا في مسار المواجهة بين الطرفين. فقد أظهرت هذه العمليات قدرة إسرائيل على تنفيذ ضربات دقيقة طالت القيادات السياسية العليا للجماعة، على الرغم من الإجراءات الأمنية المشددة، بما يكشف عن احتمالية وجود اختراقات استخباراتية وأمنية داخل بنية الجماعة.
كما تعكس هذه الضربات محاولة إسرائيلية لتكرار “نموذج حزب الله” في الساحة اليمنية، عبر استهداف القيادات المركزية لخلق فراغ تنظيمي يضعف آليات صنع القرار ويُربك الهياكل المؤسسية والسياسية للجماعة. ورغم ما خلفته هذه العمليات من خسائر غير مسبوقة، فإنها اقتصرت حتى الآن على القيادات السياسية دون الميدانية، وهو ما يعني أن القدرات العسكرية للجماعة لم تتأثر بشكل مباشر. غير أن احتمالية استمرار محاولات إسرائيل في اختراق الجماعة وتوسيع نطاق الاستهداف ليشمل القيادات العسكرية إلى جانب السياسية قد يفتح مسارًا جديدًا من الضغوط الأمنية على الجماعة.
ثانيًا: تحديات الحاضنة الشعبية
تواجه جماعة الحوثيين منذ بداية عام 2025 سلسلة من التحديات المرتبطة بالحاضنة الاجتماعية في مناطق سيطرتها، بما في ذلك محافظة صعدة التي تُعد معقلها التقليدي. فعلى الرغم من امتلاكها قدرات عسكرية متقدمة تشمل الصواريخ والطائرات المسيرة، فإن استمرارية حضورها السياسي والأمني لا تعتمد فقط على الأدوات العسكرية بل ترتبط بالأساس بقدرتها على الحفاظ على القبول الاجتماعي والقبلي والديني؛ حيث يستند نفوذ الجماعة في شمال اليمن إلى شبكة من الولاءات القبلية والمرجعية الدينية الزيدية، والتي منحتها شرعية ودعمًا مجتمعيًا واسعًا خلال السنوات الماضية.[1] غير أن هذا الدعم والشرعية المجتمعية أصبحت تواجه تحديات متزايدة، تجلت بوضوح في المواقف الصادرة عن المرجع الزيدي محمد عبد الله عوض المؤيدي، -وريث المرجع البارز مجد الدين المؤيدي-، الذي اتهم الحوثيين بالانحراف عن النهج الزيدي التقليدي والانحياز إلى الفكر الاثني عشري الإيراني.[2] هذه الاتهامات تمثل خطرًا مباشرًا على شرعية الجماعة، خاصة أنها تعيد إلى الواجهة جذور المنافسة التاريخية التي شهدها التيار الزيدي في سبعينيات القرن الماضي بين “بدر الدين الحوثي” و”مجد الدين المؤيدي”، لكنها اليوم تكتسب أبعادًا أكثر تعقيدًا في ظل التداخل بين العوامل المحلية والإقليمية.
وقد انعكست هذه التوترات على المواقف القبلية والاجتماعية؛ حيث رفضت بعض العائلات والقبائل إرسال أبنائها للتجنيد في صفوف الحوثيين. وبذلك يُصبح ملف الحاضنة الشعبية أحد المحاور الجوهرية التي ستحدد مستقبل الجماعة وقدرتها على الحفاظ على استقرار مناطق سيطرتها، إلى جانب أدواتها العسكرية والأمنية.
وعلى الرغم من هذه التحديات، فلا تزال الجماعة تمتلك أدوات متعددة للتعامل مع بيئتها الاجتماعية، سواء عبر شبكات التحالفات القبلية أو من خلال قدرتها على استثمار الخطاب الديني والسياسي لتجديد شرعيتها. غير أن استمرار الضغوط الاقتصادية والإنسانية في مناطق سيطرتها قد يضاعف من حساسية هذ الملف خلال المرحلة المقبلة، وهو ما يجعله متغيرًا يمكن أن يؤثر بشكل مباشر في توازنات القوة داخل شمال اليمن.
ثالثًا: الضغوطات الاقتصادية
يواجه الحوثيون في العام الجاري واحدة من أشد مراحل التضييق المالي منذ سيطرتها على صنعاء عام 2014، مع تصاعد الضغوط الداخلية والخارجية التي تستهدف تقليص مواردها المالية. فداخليًا، أصدر القضاء اليمني قرارات بتجميد أموال وحظر التعامل مع ما يقارب 398 فردًا وكيانًا وسفينة مرتبطة بالجماعة. وخارجيًا، تقود الولايات المتحدة وبريطانيا جهودًا لتعزيز مؤسسات الحكومة الشرعية ماليًا وعسكريًا، في إطار استراتيجية تهدف إلى تقليص الموارد الحوثية مقابل تمكين مؤسسات الدولة.
ترتكز هذه الاستراتيجية على سياسة العزل المالي، عبر تقييد وصول الجماعة إلى النظام المالي العالمي، بما في ذلك حرمانها من استخدام نظام “سويفت”، وتشديد الرقابة على الموانئ التي تقع تحت سيطرتها للحد من عوائد المنتجات النفطية أو شحنات الأسلحة. وقد انعكس ذلك على قدرتها في تمويل شبكاتها العسكرية والقبلية ودفع الرواتب، في المقابل تعمل الحكومة المعترف بها دوليًا على تقديم نفسها كبديل اقتصادي أكثر استقرارًا.
كما جعلت هجمات الحوثيين البحرية في البحر الأحمر وباب المندب كرد على استمرار الحرب الإسرائيلية على غزة، الملف الاقتصادي جزءًا أساسيًا من الاستراتيجية الدولية لمواجهة الحوثيين لضمان أمن الطاقة والتجارة العالمية؛ مما أدى إلى مضاعفة الضغوط والعقوبات المفروضة عليهم. ويتعقد هذا المشهد في ضوء العلاقة مع إيران؛ حيث كشف اعتراض السلطات اليمنية لشحنة أسلحة إيرانية ضخمة بلغ وزنها 750 طنًا، وضمت صواريخ كروز مضادة للسفن وأنظمة دفاع جوي متطورة في يوليو 2025 أن مستوى الدعم تجاوز الإمداد التكتيكي ليشمل بناء قدرات صاروخية وبحرية. وقد ترافق ذلك مع تصريحات إيرانية حول نية إعادة توطين بعض الصناعات العسكرية خارج الحدود، وهو ما قد يجعل اليمن إحدى الوجهات المحتملة. وعلى الرغم من أن هذا الدعم يعزز القدرات العسكرية للجماعة، فإنه يوازيه تصاعد الضغوط الاقتصادية والسياسية المفروضة عليها، بما يضعها أمام معادلة معقدة بين تعزيز قوتها الميدانية من جهة، وتنامي التحديات المالية والإدارية من جهة أخرى.
رابعًا: الترتيبات السياسية والأمنية في الساحة اليمنية
مع تصاعد الضربات الإسرائيلية ضد جماعة الحوثيين، دخلت القوى السياسية المناهضة للجماعة مرحلة أكثر جدية من التحضير لمرحلة ما بعد الحوثي، فشرع مجلس القيادة الرئاسي في وضع خطط عملية لإعادة بناء مؤسسات الدولة في المناطق المحررة، بما يتيح لها تعزيز حضورها السياسي والأمني والتأهب لاحتمالات التوسع نحو صنعاء ومناطق الشمال في حال تراجع سلطة الحوثيين.
ومع مطلع عام 2025، أصبحت هذه التحضيرات أكثر وضوحًا من خلال تجنيد آلاف المقاتلين وتعزيز التنسيق مع التحالف العربي والدعم الدولي. كما ركز مجلس القيادة على إعادة بناء شبكات التحالفات مع القبائل اليمنية التي تمثل العمود الفقري للسلطة المحلية، عبر مقاربة تسعى لتوظيف الروابط الاجتماعية والقبلية من أجل ضمان استقرار أي ترتيبات سياسية مقبلة. وتشمل الخطط المطروحة إعادة انتشار الجيش في المناطق الحيوية، وتفعيل الأجهزة الأمنية والشرطية في العاصمة والمناطق المحررة، بما يضمن انتقالًا منظمًا للسلطة ويقلص من احتمالات الانقسام الداخلي.
وتوفر حالة التوتر المتزايدة بين الحوثيين وبعض القبائل فرصة للحكومة لإعادة بناء قنوات التواصل مع هذه المكونات، خصوصًا في ظل التحديات الداخلية التي تواجه الجماعة والمرتبطة بالأوضاع الاقتصادية وتراجع الخدمات الأساسية؛ مما يزيد من صعوبة الحفاظ على التماسك الداخلي وإدارة المناطق الخاضعة للسيطرة.
وعلى الرغم من محدودية الإمكانات، تمكنت الحكومة من إدارة عدد من المناطق المحررة خلال السنوات الماضية واكتساب خبرة إدارية متراكمة، وهو ما يجعلها –وفق أسامة الشرمي، وكيل وزارة الإعلام– الطرف الأكثر استعدادًا لشغل أي فراغ سياسي وأمني محتمل.[3] غير أن نجاح هذه الترتيبات يظل مرهونًا بمدى استمرارية الدعم الإقليمي والدولي، فضلًا عن قدرة الحكومة على الحفاظ على تماسك جبهتها الداخلية. وفي المقابل، تبقى قدرة جماعة الحوثيين على المرونة والتكيف مع التهديدات والمتغيرات العامل الأهم؛ إذ أظهرت في عديد من التجارب السابقة مرونة في التعامل مع الضغوط والمتغيرات.
في ضوء هذه التحديات، يمكن الخروج بمجموعة العوامل التي قد تؤثر على المسار المستقبلي لجماعة الحوثي:
- على المستوى الداخلي: أظهرت العقوبات الاقتصادية وسياسات التضييق المالي التي تقودها الولايات المتحدة ضد جماعة الحوثيين إلى تدهور في الأوضاع الاقتصادية والتي كان لها انعكاسات واضحة على مستويات الرضا الاجتماعي داخل مناطق سيطرتها؛ حيث ظهرت في بعض أشكال الاحتجاج القبلي والطلابي المحدودة خلال العامين الأخيرين.
- على المستوى التنظيمي: شكلت العملية الإسرائيلية لاغتيال بعض القيادات السياسية البارزة تحديًا للجماعة يتعلق بآليات الحماية والأمن، وإمكانية وجود اختراقات استخباراتية خارجية، وعلى الرغم من أن هذه العملية لم تنعكس بصورة مباشرة على القدرات الميدانية، فإنها قد تتطلب إعادة ترتيب داخلي لضمان عدم وجود أي اختراقات أمنية والحفاظ على التماسك الداخلي.
- على المستوى الإقليمي والدولي: يتزايد الاتجاه الدولي والإقليمي بقيادة الولايات المتحدة وبريطانيا، نحو تقليص هامش الحركة المتاح للجماعة، ويترافق ذلك مع جهود لتعزيز قدرات مجلس القيادة الرئاسي على المستويين العسكري والاقتصادي، ليمثل البديل للجماعة، وهو يضيف بعدًا جديدًا إلى معادلة التوازن القائم في اليمن، ويضع الجماعة أمام تحديات أكثر تعقيدًا في إدارة علاقاتها الإقليمية والدولية.
انطلاقًا من هذه المعطيات، يبدو أن مستقبل جماعة الحوثيين يرتبط بقدرتها على التخفيف من حدة الضغوط الاجتماعية والاقتصادية داخل مناطق نفوذها، بما يحد من تنامي السخط الشعبي أو توسع الاحتجاجات المحدودة. كما يتوقف على قدرتها في تعزيز تماسكها التنظيمي والحفاظ على وحدة صفها الداخلي في مواجهة الاستهدافات الخارجية والتحديات الداخلية. وإلى جانب ذلك، يظل مدى نجاحها مرهونًا بقدرتها على التكيف مع بيئة إقليمية ودولية تتسم بزيادة القيود وتشديد الضغوط السياسية والعسكرية والاقتصادية، وبذلك، يبقى مسار الجماعة مفتوحًا أمام سيناريوهات متعددة، تتراوح بين استمرارها في الحفاظ على نفوذها مع مستويات متفاوتة من التكيف، أو إعادة صياغة حضورها في ضوء المتغيرات الميدانية والإقليمية.
ختامًا، يمكن القول إن جماعة الحوثيين تقف أمام مزيج معقد من التحديات الداخلية والخارجية التي تؤثر على قدرتها في إدارة مناطق النفوذ والحفاظ على مكانتها، غير أن قدرتها على التكيف مع الضغوط خلال السنوات الماضية يبقى عاملًا مؤثرًا في تعزيز فرص بقائها. وفي كل الأحوال، فإن مستقبل الملف اليمني سيظل رهنًا بالتطورات الميدانية والإقليمية، وخاصة انعكاسات الحرب الإسرائيلية على غزة وما قد تحمله من تحولات في موازين القوى الإقليمية والدولية.
قائمة المراجع:
[1] أحمد ناجي، اليمن: الهويّات المتعددة لصعود الحوثيين، مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط، 2019، https://carnegieendowment.org/research/2019/03/yemens-houthis-used-multiple-identities-to-advance?lang=ar
[2] دعاء مكرم، انشقاق كبير الزيدية في صعدة .. صراع خفي يهدد حكم عبد الملك الحوثي، العرب 24، 22 أغسطس 2025، https://www.alarb24.com/10926
[3] عبد الرحمن أنيس، اليمن بعد الحوثيين… من يملأ الفراغ؟، النهار، 5 سبتمبر 2025، https://www.annahar.com/Arab-World/241714/%D8%A7%D9%84%D9%8A%D9%85%D9%86-%D8%A8%D8%B9%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%88%D8%AB%D9%8A%D9%8A%D9%86-%D9%85%D9%86-%D9%8A%D9%85%D9%84%D8%A3-%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%B1%D8%A7%D8%BA
باحثة بوحدة الأمن والدفاع