يشكل الذكاء الاصطناعي اليوم محور التحول التكنولوجي العالمي الأكثر تأثيرًا، ذلك ما سلط الضوء عليه تقرير الأونكتاد لعام 2025 الذي يحمل عنوان ” التكنولوجيا والابتكار: الذكاء الاصطناعي الشامل من أجل التنمية”؛ إذ تم استعراض صورة شاملة للتحولات الجارية في سوق التقنيات التي تضم الذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء، وسلاسل الكتل، والطباعة الثلاثية الأبعاد، والحوسبة الكمية، ووفقًا للتقديرات، فإن القيمة السوقية لهذه التقنيات سترتفع من 2.5 تريليون دولار في عام 2023 إلى 16.4 تريليون دولار بحلول 2033؛ أي ما يعني 6.6 أضعاف تقريبًا، هذه الطفرة ليست مجرد نمو اقتصادي، بل تعكس تحولات في طرق الإنتاج والعمل والعلاقات بين الدول، لكن إحراز تقدم في تلك التكنولوجيا يتطلب الاهتمام بثلاثة محاور رئيسية وهي: البنية التحتية، وتوافر البيانات وجمعها، ومهارات التعامل مع تلك البيانات.
على الجانب الآخر، تقف “فجوة الذكاء الاصطناعي” بين الدول المتقدمة والنامية لتشكل خطرًا كبيرًا، فبينما تتصدر الولايات المتحدة الأمريكية والصين مشهد الأبحاث وبراءات الاختراع في مجالات الذكاء الاصطناعي والحوسبة الفائقة، تقف الدول النامية على الناحية الأخرى دون تحقيق إنجاز يذكر في هذا المجال، وهو ما يهدد بتكريس هيمنة رقمية جديدة، وهو ما يتطلب تسريع وتيرة تبني الدول النامية لحلول الذكاء الاصطناعي في تعزيز الإنتاجية ودعم العمالة وتحقيق التنمية الشاملة المستدامة.
صعود الذكاء الاصطناعي والتقنيات الحدّية Frontier Models[1]
النشأة
يعرف الذكاء الاصطناعي بأنه محاكاة الذكاء البشري من قِبل أنظمة أو آلات بهدف تطوير آلة تفكر كالبشر[2]، ومن ثم فهي تقنية تمكن الآلات من تقليد مهارات بشرية معقّدة مثل: الفهم، التعلّم، حل المشكلات، التصرف في بيئات متغيرة[3]، يمكن تتبّع الفكرة إلى العصور القديمة من خلال الأساطير والأدب والميثولوجيا، مثل أفكار عن تماثيل أو كائنات صناعية لها وعي أو قدرات تفكير، لكن الأساس الأكثر منهجية جاء مع تطور المنطق والفلسفة والرياضيات في الحضارات الإغريقية، الهندية، والحضارة الإسلامية على سبيل المثال الخوارزمي له دور في تطوير الجبر، وهو ما يُعتبر من الأدوات الرياضية للتفكير الرمزي.
في القرن العشرين، تطوّرت أفكار الحوسبة Formal Reasoning مثل مقالات آلان تورينج التي طرح فيها السؤال: “هل تستطيع الآلات أن تفكر؟” ومفهوم “اختبار تورينج” (Turing Test) كطريقة لقياس ذكاء الآلة[4]، ومع ظهور الحواسيب الرقمية بعد الحرب العالمية الثانية، والبحث في الشبكات العصبية (neural networks)، ورياضيات المعلومات (information theory)، والِالسيبرنيتيك (cybernetics) أسهمت في بناء الأساس التقني للنظام الذي نستعمله اليوم[5].
في عام 1956، الاجتماع الشهير في كلية “Dartmouth” (الولايات المتحدة) الذي نظّمه عدة باحثين مثل John McCarthy وMarvin Minsky وغيرهم يُعتبَر نقطة الانطلاق الأكاديمية المُنظَّمة لمجال الذكاء الاصطناعي كفرع بحثي مستقل؛ حيث تم اقتراح مصطلح “Artificial Intelligence” رسميًا في ذلك الاجتماع، ومعه وضعت بعض الأهداف الأولية للمجال مثل جعل الآلات تتعلم أو تحاكي القدرات الإنسانية[6]، في العقود التالية ظهرت عدة اتجاهات علمية مثل البرمجة الرمزية (symbolic AI)، الأنظمة الخبيرة (expert systems)، الشبكات العصبية، التعلم الآلي، التعلم العميق، وصولًا للنماذج الحديثة الضخمة جدًا التي تجمع كثيرًا من القدرات اليوم[7].
التطور
شهدت السنوات الأخيرة تسارعًا مذهلًا في انتشار التقنيات الحدّية؛ حيث أصبح الذكاء الاصطناعي “تكنولوجيا عامة” قادرة على إعادة تشكيل الاقتصاد والمجتمع، شأنها شأن الكهرباء أو الإنترنت في مراحل سابقة؛ إذ أن الذكاء الاصطناعي لا يعمل بمعزل، بل يضاعف أثره عندما يقترن بتقنيات أخرى مثل الروبوتات، إنترنت الأشياء، الطباعة ثلاثية الأبعاد، وسلاسل الكتل، هذه التفاعلات تنتج ما يُعرف بـ”الموجة الصناعية الخامسة”، التي تتميز بتعاون أوثق بين الإنسان والآلة، وتخصيص أكبر للمنتجات والخدمات، وتركيز متزايد على الاستدامة، وتظهر البيانات فرصًا اقتصادية هائلة في ذلك المجال، فالذكاء الاصطناعي مرشح للوصول إلى قيمة سوقية تبلغ 4.8 ترليون دولار بحلول 2033؛ أي ما يقارب ثلث إجمالي سوق التقنيات الحديثة، يليه إنترنت الأشياء بقيمة 3.1 تريليون، ثم سلاسل الكتل بـ 1.1 تريليون، ويمكن توضيح القيم السوقية المتوقعة لفروع تلك التكنولوجيا في العام 2023 ومقارنتها بالقيم السوقية المتوقعة لها في العام 2033 على النحو التالي:
| التكنولوجيا | القيمة المتوقعة في العام 2023 (مليار دولار) | القيمة المتوقعة في العام 2033 (مليار دولار) | معدل النمو السنوي المركب CAGR |
| الذكاء الاصطناعي | 189 | 4772 | 38% |
| إنترنت الأشياء | 925 | 3141 | 13% |
| تكنولوجيا سلاسل الكتل | 12.4 | 1126 | 58% |
| تكنولوجيا الجيل الخامس | 54.6 | 1271 | 37% |
| الطباعة ثلاثية الأبعاد | 23.2 | 170 | 22% |
| أخرى | 1295.8 | 5290 | 32% |
| الإجمالي | 2500 | 16400 | 21% |
جدول رقم 1: إعداد الباحث اعتمادًا على المصادر التي وردت بتقرير Technology and Innovation Report 2025.
ورغم أن التقديرات ترسم صورة براقة لسوق الذكاء الاصطناعي والتقنيات الحدّية، فإن ما يثير القلق هو طبيعة السيطرة التي تمارسها الشركات العملاقة على مسار هذه التكنولوجيا، فبحسب أرقام الأونكتاد تستحوذ 100 شركة فقط على أكثر من 40% من إجمالي الإنفاق العالمي على البحث والتطوير (R&D) في هذا المجال، هذا التركز العالي في الاستثمار يضع مستقبل التكنولوجيا بين يدي عدد محدود من الفاعلين، معظمهم شركات أمريكية وصينية؛ مما يمنحهم قدرة شبه احتكارية على تحديد اتجاهات التطوير والابتكار.
الفجوات التكنولوجية والهيمنة الجغرافية
لا يمكن الادعاء بأن الخطورة تكمن فقط في الجانب الاقتصادي، بل في الأثر العميق على منظومة الابتكار العالمية، فعندما تتحكم قلة من الشركات في التمويل والبنية التحتية والمعايير، يصبح من الصعب على الجامعات، مراكز البحث المستقلة، أو الشركات الناشئة في الدول النامية أن تدخل هذا المضمار بقدرة تنافسية حقيقية، وبذلك تُغلق المسارات أمام الابتكار المفتوح والموزع جغرافيًا، لصالح نموذج مغلق تفرضه الشركات الكبرى بما يتوافق مع مصالحها التجارية.
تظهر أبعاد هذة الهيمنة جليًا في توجيه مسار البحث العلمي نحو الأبحاث التي تحقق لها أرباحًا مباشرة، مثل نماذج اللغات العملاقة (LLMs) [8]،أو تطبيقات التسويق الرقمي، بينما يتم تهميش الأبحاث ذات الأثر الاجتماعي مثل تطبيقات الذكاء الاصطناعي في الصحة العامة أو مكافحة الفقر، فعلى سبيل المثال ركزت شركة OpenAI في البداية على أبحاث مفتوحة للمجتمع، لكن مع إطلاق GPT-3 وما تلاه، انتقلت تدريجيًا إلى نموذج تجاري مغلق، مع التركيز على منتجات تسويقية وتجارية مدفوعة (مثل ChatGPT Enterprise بدلًا من دعم الأبحاث الطبية أو التنموية المفتوحة، شركة Google DeepMind هي الأخرى رغم أنها حققت إنجازًا علميًا ضخمًا عبر مشروع AlphaFold الذي فتح الباب لاكتشاف ملايين البنى البروتينية لخدمة العلوم والصحة)، فإن معظم استثماراتها لاحقًا ذهبت نحو تطبيقات تجارية مرتبطة بتحسين الإعلانات، البحث، والألعاب الرقمية بدلًا من الاستمرار بالوتيرة نفسها في الصحة العامة، فيس بوك أيضًا استثمرت بشكل أساسي في تطوير أنظمة توصية المحتوى والإعلانات الموجهة عبر خوارزميات الذكاء الاصطناعي، بينما أبحاثها في مجالات خدمة المجتمعات أو تحسين الصحة العامة كانت محدودة جدًا.
وقد حاول حاول الاتحاد الأوروبي في قانون الذكاء الاصطناعي (AI Act) فرض أول إطار تنظيمي عالمي للحد من الاستخدامات التي تهمّش المصلحة العامة أو تعرض المواطنين لمخاطر، مع إدراج متطلبات خاصة للتطبيقات ذات الأثر الاجتماعي (مثل الرعاية الصحية، التعليم، العدالة)، وانتهجت المملكة المتحدة النهج نفسه في 2017، عندما تعاونت هيئة الصحة البريطانية (NHS) مع DeepMind في تطوير نظام لإدارة بيانات المرضى وتشخيص الفشل الكلوي. لكن المشروع أوقف لاحقًا بعد انتقادات واسعة بأن الشركة ركزت على جمع البيانات بشكل لا يخدم المصلحة العامة، وأعيدت صياغة الشراكة لتضمن حوكمة أقوى وحماية أكبر للبيانات، و أطلقت الحكومة الهندية إطارًا وطنيًا للذكاء الاصطناعي يفرض توجيه استثمارات نحو التطبيقات الاجتماعية مثل الزراعة والصحة، بعدما لاحظت أن القطاع الخاص يركز بشكل مفرط على التجارة والتسويق الرقمي، وبالطبع أطلقت الولايات المتحدة من خلال شركة Google مبادرة AI for Social Good تحت ضغط من المجتمع الأكاديمي والمدني في عام 2018 لتكون مبادرة صغيرة لدعم مشاريع مثل التنبؤ بالكوارث الطبيعية أو متابعة أمراض المناطق المدارية، لكن التمويل ظل هامشيًا مقارنة باستثماراتها الضخمة في الإعلان والبحث التجاري.
أحد أبعاد الهيمنة الأخرى هي السيطرة على بيانات المستخدمين حول العالم من خلال احتكارها لأكبر قدر من البيانات وهو ما يمنحها ميزة تنافسية يصعب تعويضها، والقدرة على التحكم في البنية التحتية؛ حيث إن تدريب النماذج الحدّية يتطلب حواسيب فائقة وقدرات تخزين ومعالجة ضخمة، وإذا ما أضفنا إلى ذلك الحقيقة التي تمت الإشارة إليها بتقرير الأونكتاد بأن تكلفة تطوير النماذج الحدية في الذكاء الاصطناعي تتضاعف بمعدل 2.4 مرة سنويًا منذ عام 2016، وهو ما يضع عبئًا ماليًا هائلًا على الدول النامية والشركات الصغيرة التي تجد نفسها عاجزة عن اللحاق بالركب، وبذلك تصبح تلك الشركات هي “البوابات” التي تمر عبرها أي محاولات للتطوير، وأخيرًا ضعف الأطر الدولية المنظمة لهذة التكنولوجيا مع وجود ضغوط من الشركات الكبري لوضع معاييرها الخاصة في الخصوصية والشفافية وأخلاقيات الاستخدام وهو ما يرسخ نموذجًا يخدم مصالحها التجارية بدلًا من المصلحة العامة.
وتتجسد الفجوة في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي بين الدول المتقدمة والدول النامية في السيطرة على الحواسيب الفائقة، براءات الاختراع، ومراكز البيانات، فالولايات المتحدة والصين معًا تستحوذان على أكثر من ثلث الأبحاث المُحكمة في مجال التقنيات الحدّية وثلثي البراءات، وتمتلك الولايات المتحدة، على وجه الخصوص نحو ثلث أفضل 500 حاسوب فائق في العالم وأكثر من نصف القدرة الحاسوبية الإجمالية، في حين تمتلك الصين نحو 80 نظامًا فقط بما لا تتجاوز قدراتها عُشر قدرة الولايات المتحدة.
جدول: توزيع الحواسيب الفائقة عالميًا (2024)
| الدولة | عدد الأنظمة | النسبة من الإجمالي | القدرة النسبية |
| الولايات المتحدة | 165 | 33% | >50% |
| الصين* | 80 | 16% | <10% |
| بقية العالم | 255 | 51% | ~40% |
| الإجمالي | 500 | 100% |
إلى جانب الحوسبة، يبرز عامل آخر هو تمركز مراكز البيانات؛ إذ تهيمن الولايات المتحدة على النسبة الأكبر منها، بما يمنحها أفضلية استراتيجية في الوصول إلى البيانات وتدريب النماذج، هذه الهيمنة قد تُترجم إلى “احتكار رقمي” شبيه بالاحتكارات الصناعية في القرنين التاسع عشر والعشرين؛ حيث تتحكم قلة من القوى في مفاتيح الإنتاج والتوزيع، ومن المفارقة أن الدول النامية التي كانت تستفيد سابقًا من ميزة انخفاض تكلفة العمالة، قد تفقد هذه الميزة مع دخول الأتمتة على نطاق واسع، وهو ما يعني تآكل الميزة التنافسية التقليدية؛ الأمر الذي يتطلب إعادة تعريف موقع الدول النامية في الاقتصاد العالمي عبر الاستثمار في الابتكار المحلي.
التأثير على الإنتاجية والعمل
لا يمثل الذكاء الاصطناعي فقط نقلة في الأدوات التكنولوجية، بل يعيد تشكيل علاقة الإنسان بالعمل والإنتاج، فمن منظور اقتصادي بحت، يعمل الذكاء الاصطناعي عبر أربع قنوات رئيسية لتعزيز الإنتاجية: الأتمتة، التنبؤ، تحسين الجودة، والتخصيص؛ إذ تسمح هذه القنوات للشركات بتقليل التكاليف، زيادة الكفاءة، وتقديم منتجات وخدمات موجهة أكثر للمستهلك، لكن في الوقت نفسه تقدم مخاطر أخرى مرتبطة بالعمالة والعدالة الاجتماعية.
إذ يمكن توظيف الذكاء الاصطناعي بطرق مبتكرة في مجالات عديدة منها الزراعة؛ مثل استخدام الطائرات المسيّرة المزودة بالذكاء الاصطناعي لرصد الآفات، التنبؤ بالإنتاجية، وتوجيه أنظمة الري الدقيق، وفي مجال التصنيع؛ مثل إدخال الصيانة التنبؤية في خطوط الإنتاج واعتماد “المصانع الذكية” التي تراقب عملياتها بشكل ذاتي، وفي مجال الصحة من خلال تحسين دقة التشخيص الطبي عبر الخوارزميات، توسيع التغطية الصحية للمناطق النائية باستخدام العيادات الافتراضية، والإسهام في إدارة الأوبئة.
لكن تلك التكنولوجيا تحمل عديدًا من التحديات خاصة التي ترتبط بوضع العمال والعاملين؛ إذ قد تتعرض عديد من المهن للتحول أو الاستبدال، وهو ما يخلق ضغوطًا على أسواق العمل، خاصة في الدول النامية؛ حيث لا تزال الهياكل الاقتصادية تعتمد بشكل كبير على العمالة منخفضة التكلفة، كما أنه تجدر الإشارة إلى أن التكلفة العالية لتدريب النماذج تجعل من الصعب على الشركات الصغيرة والنامية تبني الذكاء الاصطناعي بسهولة، وهو ما يكرّس الفجوة بين الشركات الكبرى وبقية الفاعلين، كما سبق التوضيح، ومن ثم فإن ذلك يتطلب اعتماد نهج عمالي شامل يضمن أن يكون العمال جزءًا من دورة حياة الذكاء الاصطناعي، من التصميم إلى التنفيذ، بمعنى آخر، لا بد من وضع سياسات تركز على إعادة التدريب، توفير برامج مهارات جديدة، وضمان حقوق العمل في بيئة تشهد تحولات جذرية، بذلك يصبح الذكاء الاصطناعي أداة لتمكين العمال، لا لإقصائهم.
السياسات والحوكمة العالمية
يُبرز تقرير الأونكتاد لعام 2025 أن التحدي الأكبر في مجال الذكاء الاصطناعي لا يكمن فقط في التطوير التقني أو توسيع نطاق الاستخدام، بل في صياغة سياسات وحوكمة شاملة تضمن أن هذه التكنولوجيا تخدم الصالح العام بدلًا من أن تكون أداة لتعميق التفاوتات. الواقع الحالي يكشف عن مستوى عال من التجزؤ في المبادرات الدولية؛ حيث تهيمن الدول المتقدمة، لا سيما مجموعة السبع، على عملية وضع القواعد والمعايير، وفي المقابل تفتقر الدول النامية النفوذ الكافي للتأثير في اتجاهات تطور الذكاء الاصطناعي بما يخدم مصالحهم.
ومن ثم توجد ضرورة لدمج الذكاء الاصطناعي ضمن السياسات الصناعية والابتكارية الوطنية للحكومات بالشكل الذي يسهم في تحقيق أهداف التنمية المستدامة المتمثلة في زيادة الإنتاج وتحسين الخدمات العامة وتحسين فرص الوصول إلى التكنولوجيا من خلال تعزيز نظم الحوكمة العالمية ووضع إطار عالمي دولي موحد يضمن المساءلة والشفافية من خلال إلزام الشركات المطورة لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي بالكشف عن دورة حياة أنظمة الذكاء الاصطناعي من التدريب إلى التطبيق، وتطوير نظام إفصاح مشابة لتقارير الاستدامة البيئية والاجتماعية والحوكمة يتضمن نظام إبلاغ بتقييم أثر تطبيقات الذكاء الاصطناعي، والتحول من نظام الإبلاغ الطوعي إلى الإبلاغ الإلزامي من خلال إصدار تقارير إلزامية مدعومة بآليات رقابية ومؤسسية بما يعزز ثقة المستخدمين والمجتمعات، وحيث إن طبيعة تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي عابرة للحدود سواء من خلال البيانات أو سلاسل التوريد أو الأسواق فلا بد أن يقوم إطار التعاون على أطراف متعددة تتشارك فيها الحكومات مع القطاع الخاص والمجتمع المدني والمؤسسات الاكاديمية، بهدف ضمان استفادة الجميع لا الدول الغنية فقط، ومن ثم فإن ذلك الأمر يتطلب التركيز على ثلاثة محاور رئيسية التي لا يمكن وصفها بأنها محاور رئيسية لكل دولة، بل هي أساسًا لأي تعاون دولي أو إقليمي ناجح وهم:
- تطوير البنية التحتية من خلال بناء شبكات حوسبة قوية، مراكز بيانات، واتصالات رقمية متطورة، بما يضمن الوصول إلى قدرات حوسبة متقدمة.
- تنظيم جمع البيانات من خلال صياغة سياسات وطنية للبيانات توازن بين الخصوصية والإتاحة، مع تشجيع إنشاء مجموعات بيانات عالية الجودة يمكن استخدامها في التدريب على الذكاء الاصطناعي.
- تنمية المهارات من خلال الاستثمار في التعليم والتدريب المستمر لتزويد القوى العاملة بالقدرات اللازمة للتعامل مع التكنولوجيا الجديدة.
استراتيجية مصر
الاستراتيجية الوطنية الأولى للذكاء الاصطناعي مايو – 2021
أطلقت مصر الاستراتيجية الوطنية الأولى للذكاء الاصطناعي في مايو 2021، والتي وضعت أربعة محاور رئيسية لوضع مصر على خريطة الذكاء الاصطناعي عالميًا وهي:
- الدمج الحكومي لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي: من خلال استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي في العمليات الحكومية لرفع الكفاءة وتحسين تقديم الخدمات.
- تعزيز استخدامها في القطاعات التنموية الحيوية: من خلال التوسع في استخدام تلك التكنولوجيا في قطاعات حيوية مثل الصحة، التعليم، الزراعة، البنى التحتية من خلال توظيف تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي لحل مشكلات محلية ذات أولوية.
- بناء القدرات على المستويين البشري والمؤسسي: من خلال التوسع في تدريب الكوادر، رفع الكفاءات، توسيع عدد المختصين، إدخال برامج تعليمية وتدريبية موجهة.
- وتعزيز مكانة مصر إقليميًا وعالميًا: من خلال المشاركة في المبادرات الدولية، التعاون، التمثيل في المنتديات، والإسهام في تحديد الأطر العالمية الذكاء الاصطناعي.
وقد استطاعت مصر من خلال تلك الاستراتيجية تحقيق نجاحات أولية أهمها تقدّم مصر حوالي 46 مركزًا عالميًا في مؤشر جاهزية الدول للذكاء الاصطناعي لتحتل المرتبة 62 وفقًا لبيانات المؤشر لعام 2024[9]، وإطلاق عديد من البرامج التدريبية التي أسهمت في توسيع قاعدة الكوادر المتخصصة وإنشاء عديد من الشراكات مع جامعات دولية وشركات تكنولوجية للتدريب وتنفيذ عدد من المشروعات التطبيقية، وتحسين البنى التحتية والموارد التقنية التي تدعم الحوسبة المطلوبة لتطبيقات الذكاء الاصطناعي، وحوكمة تبادل البيانات داخل الدولة، مع مراعاة الحقوق والخصوصية لتسهيل بناء منظومات الذكاء الاصطناعي، وقد أسهمت تلك الاستراتيجية في وجود زيادات واضحة في الاستخدام والتطبيقات القطاعية.
الاستراتيجية الوطنية الثانية 2025 – 2030
تم الإعلان رسميًا عن الاستراتيجية الوطنية المصرية للذكاء الاصطناعي “النسخة الثانية (2025-2030)” في 16 يناير 2025، وقد تضمنت تلك الاستراتيجية 6 محاور رئيسية وهم الحوكمة، التكنولوجيا، البيانات، البنية التحتية الرقمية والذكاء الاصطناعي، المنظومة البيئية Ecosystem، المواهب والتنمية البشرية، وقد تضمنت تلك الاستراتيجية عدد 21 مبادرة استراتيجية لضمان التنفيذ الفعلي ووضعت أهداف كمية واضحة ومحددة وهي رفع إسهام قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات (ICT) إلى 7.7% من الناتج المحلي الإجمالي، و إنشاء أكثر من 250 شركة ناشئة تعمل بالذكاء الاصطناعي، وتدريب أكثر من 30,000 متخصص في الذكاء الاصطناعي والوصول بإسهام الذكاء الاصطناعي في الناتج المحلي الإجمالي إلى نحو 42.7 مليار دولار بحلول 2030.
يمكن عرض أهم الفوارق الرئيسية بين استراتيجية مصر الأولى والثانية في الجدول التالي:
| الجانب | الاستراتيجية الأولى (2021-2024) | الاستراتيجية الثانية (2025-2030) |
| الهيكل والمنهج | بنيت على أربع ركائز رئيسية وركائز داعمة وهم “الذكاء الاصطناعي للحكومة، الذكاء الاصطناعي للتنمية، بناء القدرات، العلاقات الدولية” + تمكين عبر الحوكمة، البيانات، البنى التحتية، والمنظومة البيئية. | توسّعت إلى ستة محاور رئيسية + عدد أكبر من المبادرات (21) + وضع مؤشرات أداء واضحة الأجل مع أهداف كمية ملموسة. |
| التركيز على الأهداف الكمية | الأهداف كانت عامة (تحسين الكفاءة، الاستخدام التجريبي، بناء القدرات) ولم تتضمن جميعها أرقامًا واضحة مثل عدد الشركات أو الإسهام في GDP بدقة مثل 2.0. | أهداف واضحة مثل 30,000 خبير، + 250 شركة ناشئة، رفع إسهام ICT إلى 7.7٪ من الناتج المحلي، قيمة مالية مقدّرة من الذكاء الاصطناعي في الناتج الوطني. |
| الحوكمة والتنظيم | في الأولى، تم الإعلان عن مبادئ وأطر أخلاقية، تأسيس المجلس الوطني، التركيز على التعاون الدولي. | في الثانية، التركيز أشمل على تشريعات، المعايير، تنظيم استخدام AI، إنشاء مرصد وطني للتقييم، تأكيد على الشفافية والمسئولية، التعامل مع المخاطر. |
| البنية التحتية والتقنية | مبادرات أولية، تجريبية، تجميع الخبرات، بناء بعض البنية التحتية الأساسية. | تعزيز شامل للبنى التحتية: مركز بيانات، خدمات سحابية، قدرات حوسبة قوية، دعم LLMs المحلية والعربية، شبكات الاتصال. |
| التطبيقات القطاعية والتوسع العملي | كانت البداية في القطاعات الحيوية مثل الحكومة، الصحة، الزراعة، لكن الانطلاق كان تدريجيًا، مع عدد محدود من المشاريع التجريبية. | توسّع كبير في التطبيقات عبر قطاعات، وتحول من المشاريع التجريبية إلى مشاريع رئيسية (flagship)، مع التركيز على النفع الاجتماعي والاقتصادي الواسع. |
| الموارد البشرية | التركيز على بناء القدرات، التدريب الأكاديمي، بناء فهم عام. لكن الأهداف كانت أقل تحديدًا من حيث الأعداد الزمنية. | أهداف كمية، برامج تدريب أكبر، شهادات واعتمادات، استهداف المهارات المتعددة، تعزيز البحث والتطوير، دعم الباحثين بمنح محلية ودولية. |
جدول رقم 2: إعداد الباحث بالاعتماد على الوثائق الرسمية الصادرة عن استراتيجية مصر للذكاء الاصطناعي
في المحصلة، يقدّم الذكاء الاصطناعي فرصًا غير مسبوقة لتعزيز الإنتاجية، رفع كفاءة الخدمات، وتحفيز الابتكار، لكنه في الوقت ذاته يفرض تحديات معقدة ترتبط بالحوكمة، حماية الخصوصية، وأثره على أسواق العمل، وعلى المستوى الدولي، تتسارع الجهود لوضع أطر تنظيمية ومعايير أخلاقية تضمن أن تظل هذه التكنولوجيا في خدمة الإنسان، بدءًا من مبادرات مجموعة السبع وصولًا إلى دعوات الأمم المتحدة والأونكتاد لبناء تعاون عالمي عادل، وبالنسبة لمصر، فإن استثمار هذه الموجة ضمن رؤية واضحة للبنية التحتية والبيانات وتنمية المهارات لن يسهم فقط في تقليص الفجوة التكنولوجية، بل سيعزز تنافسية الاقتصاد الوطني، ويفتح آفاقًا جديدة للنمو المستدام والاندماج الفاعل في الاقتصاد الرقمي العالمي.
[1] مقصود بها أحدث وأقوى نماذج الذكاء الاصطناعي التي تقف عند “الحدّ الأقصى” من قدرات التقنية المتاحة اليوم. كلمة “حدّية” (Frontier) تعني أنها عند الخط الأمامي للتقدم التكنولوجي؛ أي الأكثر تعقيدًا من حيث عدد المعاملات (parameters)، وحجم البيانات التي تدرّب عليها، وقدراتها في التعميم عبر مهام متعددة.
[2] Artificial intelligence: A powerful paradigm for scientific research – PMC
[3] Artificial Intelligence: Definition and Background | SpringerLink
[4] The birth of Artificial Intelligence (AI) research | Science and Technology
[5] The History of Artificial Intelligence | IBM
[6] britannica.com/science/history-of-artificial-intelligence?utm_source
[7] What is the history of artificial intelligence (AI)? | Tableau
[8] هي نوع من النماذج الحدّية للذكاء الاصطناعي، تم تدريبها على كميات هائلة من النصوص (كتب، مقالات، مواقع إلكترونية، أكواد برمجية، …) باستخدام تقنيات “التعلم العميق” (Deep Learning)، هدفها الأساسي هو فهم اللغة البشرية وتوليدها بطريقة طبيعية وسلسة، بحيث يمكنها التحدث، الكتابة، الترجمة، تلخيص النصوص، أو حتى البرمجة.
[9] 2024 Government AI Readiness Index
نائب رئيس وحدة الاقتصاد ودراسات الطاقة




