في تحول لافت وربما غير متوقع بالنسبة للجانب التركي، فاز مرشح ورئيس الحزب الجمهوري التركي المعارض (CIT)، توفان إرهورمان، في الانتخابات الرئاسية التاسعة التي جرت في جمهورية شمال قبرص التركية غير المعترف بها، في 19 أكتوبر 2025، بفارق كبير عن المرشح المنافس والرئيس السابق المدعوم من تركيا أرسين تتار، منذ الجولة الأولى، بما يظهر بوضوح رغبة القبارصة الأتراك في التغيير. وعليه، سوف تستعرض هذه الورقة بيئة الانتخابات ونتائجها وسياقها وتداعياتها بالنظر إلى كون قبرص الشمالية تقع ضمن دائرة التأثير الجيوسياسي للدول المتنافسة في شرق المتوسط.
بيئة الانتخابات والنتائج
تأخذ جمهورية قبرص الشمالية التركية بالنظام شبه الرئاسي، لذلك يُنتخب الرئيس مباشرة بالاقتراع الشعبي، وهو وفقًا للدستور جزء من السلطة التنفيذية إلى جانب مجلس الوزراء، وبينما يتولى رئيس الوزراء ومجلس الوزراء السلطة الرئيسية في السياسة الداخلية، يتولى الرئيس السلطة الرئيسية في السياسة الخارجية، غير أن تحركاته على الساحة الدولية محدودة؛ نظرًا لعدم وجود اعتراف دولي -باستثناء تركيا- بالجمهورية الشمالية، فإلى جانب اتصالاته مع تركيا، يُمكن لرئيس جمهورية شمال قبرص التركية حضور اجتماعات منظمة الدول التركية ومنظمة التعاون الإسلامي؛ حيث حصلت الجمهورية مؤخرًا على صفة مراقب، ومع ذلك، فإن الدور الأساسي للرئيس في جمهورية شمال قبرص التركية هو تمثيل القبارصة الأتراك في المفاوضات الرامية إلى حل المشكلة القبرصية.
ويُنتخب رئيس جمهورية شمال قبرص لولاية مدتها خمس سنوات، وفقًا للدستور، دون وجود حد أقصى لعدد الولايات، ومع ذلك، باستثناء الرئيس المؤسس رءوف رائف دنكتاش، لم يُنتخب أي رئيس آخر بعد ترشحه لولاية ثانية. ولكي يفوز المرشح يجب أن يحصل على أكثر من 50% من الأصوات الصحيحة، إذا لم يحصل أي من المرشحين على هذه النسبة في الجولة الأولى، تُجرى جولة ثانية بعد سبعة أيام بين المرشحين اللذين يحصلان على أعلى عدد من الأصوات. وقد وصلت أربعة من أصل تسعة انتخابات رئاسية عُقدت حتى الآن (1995 – 2000 – 2015 – 2020) إلى جولة ثانية.
ودائمًا ما تشهد الانتخابات القبرصية الشمالية تدخلًا تركيا لصالح المرشح المفضل من خلال الدعم السياسي والاقتصادي وإجبار مرشحين منافسين على الانسحاب من الانتخابات، وقد كان هذا التدخل واضحًا في انتخابات عام 2020؛ حيث عملت مديرية الاتصالات التركية ومنظمة الاستخبارات الوطنية وقيادة قوات الأمن والسفارة التركية وبعض أعضاء البرلمان على دعم المرشح والرئيس السابق أرسين تتار، فيما تعرض الرئيس آنذاك مصطفى أكينجي، إلى جانب أنصاره وعديد من المرشحين الآخرين للتهديد.
وقد شارك في الانتخابات الأخيرة سبعة مرشحين، اثنان حزبيان وخمسة مستقلين وهم: الرئيس السابق أرسين تتار (مستقل)، وعارف كرداغ (مستقل)، وأحمد بوران (مستقل)، ومحمد هاسغولر (مستقل)، وإبراهيم يازجي (مستقل)، وحسين جورليك (مستقل)، وتوفان إرهورمان (رئيس الحزب الجمهوري التركي)، وعثمان زوربا (الحزب الاشتراكي القبرصي). غير أن حسين جورليك انسحب في اليوم السابق للانتخابات لصالح أرسين تتار، ومع ذلك، ظلّ اسمه مدرجًا في بطاقة الاقتراع وفقًا لقانون الانتخابات والاستفتاء.
ورغم أن نسبة المشاركة في الانتخابات ليست هي الأعلى منذ إجراء أول انتخابات رئاسية لجمهورية شمال قبرص التركية عام 1985؛ حيث بلغت نسبة المشاركة 64.87%، فإن إرهورمان حقق أعلى نسبة تصويت وعدد مصوتين على الإطلاق، ومنذ الجولة الأولى، مسجلًا 87 ألف و137 صوتًا بنسبة 62.76%، بفارق كبير عن تتار، الذي حصل على 49 ألفًا و650 صوتًا بنسبة 35.76%، بينما حصل عثمان زوربا، مرشح الحزب الاشتراكي القبرصي، على 0.32%، وحصل المستقلون عارف كرداغ على 0.34%، وأحمد بوران على 0.15%، ومحمد هاسغولر على 0.23%، وإبراهيم يازيجي على 0.24%، وحسين جورليك على 0.18%. ويوضح الشكل التالي نسبة الأصوات التي حصل عليها المرشحون:
شكل 1 – النسبة التي حصل عليها كل مرشح من إجمالي الأصوات

ليس هذا فحسب، بل فاز أيضًا في جميع الدوائر الانتخابية الست؛ حيث حصل على 68.88% في نيقوسيا، و59.47% في فاماغوستا، و63.04% في كيرينيا، و63.15% في جوزيليورت، و50.8% في الإسكيله، و62.01% في ليفكي. ويوضح الشكل التالي النسبة التي حصل عليها المرشحون في الدوائر الانتخابية:
شكل 2 – النسبة التي حصل عليها المرشحون الرئاسيون في الانتخابات

وتجدر الإشارة إلى أنها ليست المرة الأولى التي يصل فيها الحزب الجمهوري التركي إلى الحكم؛ فقد شارك في عديد من الحكومات الائتلافية وفاز سابقًا بالرئاسة؛ حيث كان الرئيس الثاني لجمهورية شمال قبرص التركية، محمد علي طلعت، سياسيًا له جذور في الحزب، رغم انتخابه كمرشح مستقل. وانتخب الرئيس الرابع، مصطفى أكينجي، بدعم من الحزب الجمهوري رغم كونه عضوًا في حزب التحرير المجتمعي (TKP). ويتمتع الحزب بخبرة في الحكومة والبرلمان والحكم المحلي، وخاصة في بلديتي نيقوسيا وكيرينيا، غير أن التركيز على انتخاب إرهورمان تمكن في مدلولات هذا الفوز الذي لا يتعلق بشأن داخلي قبرصي فسحب، بل ينطوي على أبعاد تتعلق بمصير النهج التركي تجاه الجزيرة.
وقد جمعت مسيرة إرهورمان بين الجانبين الأكاديمي والسياسي؛ حيث تخرج من كلية الحقوق بجامعة أنقرة عام 1992، وبين عامي 1995 و2001 عمل باحثًا مساعدًا في قسم القانون الإداري بكلية الحقوق بجامعة أنقرة، وخلال تلك السنوات، درّس مواد مقدمة القانون، والقانون الإداري، والقانون الدستوري في كلية الحقوق بجامعة أنقرة، وكذلك في جامعة حاجي تبة وجامعة الشرق الأوسط التقنية، وحصل على درجة الدكتوراه في القانون عام 2001 بأطروحة بعنوان “الرقابة غير القضائية على الإدارة وأمين المظالم”.
ومنذ عام 1999 حتى عام 2004 عمل في وزارة العدل التركية، وله دور في تأسيس ديوان مظالم بتركيا، كما عمل عضوًا في هيئة التدريس بكلية الحقوق بجامعة شرق البحر الأبيض المتوسط (EMU) بين عامي 2001 و2006، ثم عمل في كلية الحقوق بجامعة الشرق الأدنى بين عامي 2006 و2008، ثم عاود العمل في جامعة شرق البحر المتوسط بين عامي 2010 و2013. وكان جزءًا من فريق التفاوض مع الرئيس القبرصي الشمالي الثاني، محمد علي طلعت بين عامي 2008 و2010، ثم دخل البرلمان بعد الانتخابات البرلمانية عام 2013. وشغل منصب الأمين العام للحزب الجمهوري التركي بين عامي 2015 و2016، وفي عام 2016، انتُخب زعيمًا للحزب في المؤتمر الدوري السادس والعشرين. وفي يناير 2018، عين رئيسًا للوزراء، عقب الانتخابات البرلمانية المبكرة التي أُعيد انتخابه فيها نائبًا. وفي 19 يناير 2018، شكل حكومة ائتلافية تضم حزبه وحزب الشعب والحزب الديمقراطي وحزب الديمقراطية المجتمعية.
سياق الانتخابات
جرت الانتخابات القبرصية الشمالية التاسعة في ظل رأي عام بدا أكثر غضبًا من التدخلات التركية في الجزيرة، وأكثر ميلًا إلى التيار اليساري. وفيما يلي توضيح للسياق الداخلي الذي جرت في ظله الانتخابات:
• إقرار البرلمان صيغة حل الدولتين: حظيت الرؤى المتباينة بشأن صيغة التسوية السياسية والقانونية في قبرص الشمالية بمكانة محورية في قلب الحملات الانتخابية، فبينما زعم تتار أن الرؤية الدولية لجمهورية شمال قبرص التركية قد تحسنت بفضل سياسة الدولتين التي تم اتباعها بدعم من تركيا منذ عام 2020، دعا إرهورمان إلى حل فيدرالي قائم على المساواة السياسية بين الدولتين، مؤكدًا أن نهج حل الدولتين أدى إلى نفور القبارصة الأتراك من طاولة المفاوضات. وفي إطار التوظيف الانتخابي، أصدر مجلس جمهورية شمال قبرص التركية (البرلمان) قرارًا يوم 14 أكتوبر الجاري، أي قبل خمسة أيام فقط من الموعد المحدد للانتخابات، يعتمد صيغة حل الدولتين، بموافقة أغلبية 29 صوتًا من إجمالي 50 عضوًا، مثلتهم أحزاب التحالف الحاكم؛ حزب الوحدة الوطنية UBP، والحزب الديمقراطي DP، وحزب النهضة YDP، والنائب المستقل عن نيقوسيا حسن توسون أوغلو، بينما لم يُشارك أعضاء الحزب الجمهوري التركي المعارض في التصويت، وقد نُظر إلى القرار باعتباره مغازلة للتيار الانفصالي.
• دعم تركي واسع لأرسين تتار: حظي تتار بدعم تركي واسع خلال حملته الانتخابية؛ حيث ذهب عدد كبير من رؤساء الوزراء والوزراء السابقين مثل بن عليّ يلدريم وسليمان صويلو وخلوصي أكار، وأعضاء البرلمان الحاليين، ورؤساء البلديات من التحالف الحاكم في تركيا بين حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية، وشخصيات حزبية مثل زعيم حزب النصر القومي المعارض أوميت أوزداغ، إضافة إلى شخصيات رياضية وفنية مثل لاعب الكرة مسعود أوزيل، والمُغني يافوز بينغول، إلى الشمال لدعم تتار، وقد استخدموا فندقًا لأحد نواب حزب الحركة القومية كمقر لتلك الأنشطة. كما قام نائب الرئيس التركي جودت يلماز بثلاث رحلات منفصلة خلال الحملة الانتخابية إلى الجمهورية الشمالية بهدف تعزيز فرص تتار في إعادة انتخابه.
• الغضب من السياسات الحكومية: جرت الانتخابات في ظل تنامي الغضب الشعبي إزاء عديد من سياسات حكومة تتار، بما في ذلك الفشل في الجلوس إلى طاولة مفاوضات رسمية واحدة طوال خمس سنوات مع الجانب القبرصي اليوناني، وتراجع الوضع الاقتصادي الذي دفع عديدًا من الشباب إلى الرغبة في الهجرة والقلق بشأن المستقبل، ويرجع ذلك بشكل رئيسي إلى الارتباط الشديد بين الاقتصاد القبرصي الشمالي وتركيا، فبينما تُدفع الرواتب بالليرة التركية، تُسعّر عديد من السلع الأساسية بالجنيه الإسترليني، وقد زادت الأزمة الاقتصادية وارتفاع التضخم في تركيا من صعوبة الحياة في شمال قبرص، ففي حين يقارب التضخم الصفر في قبرص اليونانية، يتجاوز 35% في الشمالية. إضافة إلى ذلك، تعددت حوادث الفساد والمحسوبية؛ إذ باتت الجمهورية الشمالية مركزًا لغسل الأموال التي ترتبط بالمراهنات غير القانونية والاتجار بالبشر وأنشطة المخدرات والقتلة المأجورين.
وينصرف الأمر كذلك إلى الجوانب الاجتماعية؛ إذ حاولت الحكومة فرض نمط محافظ على المجتمع على غرار تركيا، فقامت بتعديل اللوائح الداخلية للسماح بارتداء الحجاب في المدارس المتوسطة والثانوية، وهو ما احتجت عليه النقابات والمنظمات غير الحكومية والطلاب وأحزاب المعارضة، مؤكدين أن هذه الممارسة تستهدف التعليم العلماني والهياكل الاجتماعية، كذلك، أثارت الإشارة المستمرة إلى “النموذج التركي” الاستياء الشعبي بالنسبة للقبارصة الأتراك الذين يفضلون نموذجهم الخاص. كما لم تتخذ حكومة قبرص الشمالية أي إجراء ضد قرار الحكومة القبرصية اليونانية باعتقال المقاولين ووكلاء العقارات في شمال قبرص، وكذلك المواطنين الذين يشترون ويبيعون العقارات القبرصية اليونانية، وأثار فشل الحكومة أيضًا في تفعيل لجنة الممتلكات غير المنقولة انتقادات واسعة.
• الرفض الشعبي للتدخلات التركية المتزايدة: نفذت تركيا عديدًا من السياسات التي هدفت من خلالها إلى ترسيخ نفوذها السياسي وهويتها الثقافية في قبرص الشمالية، ولعل أحد المشاريع الذي أثار غضبًا وانتقادات محلية واسعة كان “المجمع الرئاسي” الذي أُعلن عنه للمرة الأولى خلال زيارة لتتار إلى تركيا عام 2021، وتم افتتاحه خلال العام الحالي 2025 في حي آيوس دوميتيوس بنيقوسيا، والذي يشمل قصرًا رئاسيًا وبرلمانًا ومسجدًا وحديقة ومحكمة. ولاقى افتتاحه انتقادات واسعة من قِبل النقابات المهنية والأحزاب السياسية والمنظمات غير الحكومية والرئيس الأسبق مصطفى أكينجي، معتبرين أنه إهدار أموال كان ينبغي توجيهها إلى مشروعات خدمية مثل المستشفيات والمدارس وغيرها من البنى التحتية الأساسية، كما أنه ينطوي على وظيفة سياسية ورمزية تركية تضر بهويتهم الثقافية واستقلالهم السياسي.
• الدعم الحزبي الواسع لإرهورمان: حظي ترشح إرهورمان بدعم الحزب الجهوري التركي، وحزب الديمقراطية المجتمعية، وحزب العدالة والنضال الاجتماعي الذي أسسه مؤخرًا سردار دنكتاش، نجل مؤسس جمهورية شمال قبرص التركية رءوف دنكتاش، والرئيس القبرصي التركي الأسبق مصطفى أكينجي (2015 – 2020)، الذي خسر في انتخابات 2020 أمام المرشح المدعوم من تركيا أرسين تتار. كما صوت ناخبو حزب الشعب لصالح إرهورمان لمعاقبة رئيس الوزراء الحالي أونال أوستيل، الذي تولى منصبه بعد تدخل أنقرة؛ نظرًا لعدم رضائهم عن أدائه.
تداعيات خارجية
ينطوي انتخاب إرهورمان على تداعيات خارجية تتعلق بالأساس بقضيتين رئيسيتين؛ هما صيغة الحل السياسي للمشكلة القبرصية، والعلاقات مع تركيا، وهو ما سيتم توضيحه تفصيلًا على النحو التالي:
• إعادة تنشيط المحادثات الأممية بشأن صيغة الحل السياسي للمشكلة القبرصية: يمثل فوز إرهورمان انتصارًا للتوجه الوحدوي للجزيرة القبرصية؛ حيث يتبنى صيغة الحل الفيدرالي على أساس “دولة واحدة وإقليمان وشعبان”، تتمتع فيه قبرص الشمالية بالمساواة السياسية الكاملة مع قبرص اليونانية، كما هو محدد في قرار مجلس الأمن رقم 716 لسنة 1991، بما في ذلك رئاسة دورية للاتحاد الفيدرالي، وتمارس كل منهما جميع سلطاتهما داخل أراضيهما السيادية، باستثناء ست سلطات تُمارس بشكل مشترك هي: الأمن، والطاقة، والهيدروكربونات، والولاية القضائية البحرية، وطرق التجارة، وعضوية الاتحاد الأوروبي. واعتبر إرهورمان أن السعي إلى حل الدولتين لن يرفع العزلة السياسية والاقتصادية عن الجمهورية الشمالية.
وفي هذا الإطار، يشدد إرهورمان على ضرورة استئناف المحادثات الأممية، مع الالتزام المسبق بجميع نقاط التقارب التي توصل إليها مؤتمر كرانس مونتانا بسويسرا عام 2017، وهي آخر مفاوضات رسمية عقدت بين الجانبين؛ حيث اقتصرت المحادثات لاحقًا على لقاءات غير رسمية أو محاولات لإحياء العملية مثل اجتماع جنيف غير الرسمي في أبريل 2021، والاجتماع غير الرسمي الذي عُقد في المنطقة العازلة بين الزعيمين القبرصي التركي واليوناني برعاية الأمم المتحدة في 2 أبريل 2025. لكنه جادل بأن كل عملية يجب أن تكون محددة زمنيًا، ومركزة على النتائج، وخاضعة للمساءلة. وقد لخص شعار حملته الانتخابية “الحوار ولكن ليس بلا مبادئ”، نهجه في حل القضية القبرصية، وحدد أربعة مبادئ كأسس للحوار هي: عدم طرح مسألة المساواة السياسية للنقاش، والتحديد الزمني للمفاوضات وتوجيها نحو النتائج، وعدم طرح القضايا المتفق عليها سابقًا، ووجود ضمانات بعدم العودة إلى الوضع الراهن في حال فشل المحادثات.
وتتبنى تركيا موقفًا متشدّدًا إزاء مقترحات الحل الفيدرالي، إذ ترى أن أي تسوية تقوم على إعادة توحيد الجزيرة في إطار فيدرالي ستفضي فعليًا إلى سقوط مطالبها البحرية في شرق المتوسط، ولا سيما في المناطق التي تعدها أنقرة جزءًا من ولايتها البحرية أو امتدادًا طبيعيَّا لجرفها القاري؛ ففي حال اعتبرت جزيرة قبرص كيانًا واحدًا، فإن الموارد الطبيعية، وعلى رأسها احتياطات الهيدروكربونات في المنطقة الاقتصادية الخالصة للجزيرة، ستئول ملكيتها وإيراداتها إلى مؤسسات الاتحاد الأوروبي عبر جمهورية قبرص المعترف بها دوليًا، وبالتالي، تخشى أنقرة من أن يؤدي هذا السيناريو إلى تقييد نفوذها البحري وتقليص قدرتها على المناورة الجيوسياسية في شرق المتوسط، وهو ما يتناقض مع استراتيجيتها الهادفة إلى فرض توازن جديد في موازين القوى الإقليمية، وضمان موقع فاعل لتركيا في ترتيبات الطاقة والأمن البحري.
ويتضح القلق التركي في ردود الفعل الرسمية تجاه انتخاب إرهورمان، فبينما استخدم أردوغان نبرة معتدلة لتهنئته بقوله: “آمل أن تكون هذه الانتخابات، التي تُظهر مجددًا النضج الديمقراطي لجمهورية شمال قبرص التركية وتعكس إرادة إخواننا القبارصة الأتراك في صناديق الاقتراع، مفيدة لبلداننا ومنطقتنا”، تبنى شريكه في الائتلاف الحاكم دولت بهتشلي، رئيس حزب الحركة القومية والذي يُعبر صراحةً عن التوجهات الحقيقية للدولة التركية، لهجة عدائية معتبرًا أن الانتخابات غير صحيحة؛ نظرًا لانخفاض نسبة المشاركة فيها، وطالب برلمان الجمهورية الشمالية بعقد اجتماع عاجل للتصويت على الانضمام إلى تركيا، معتبرًا أن قبرص الشمالية هي الولاية التركية الـ 82.
وتذهب بعض التقديرات التركية إلى تفسير اللهجة المعتدلة لحزب العدالة والتنمية برغبته في تبني مسار المفاوضات، إضافة إلى تأمين المشاركة في برنامج الاتحاد الأوروبي “العمل الأمني من أجل أوروبا” (SAFE)، الذي أُطلق في مايو 2025، هو مبادرة بمليارات اليورو لتعزيز القدرة الأوروبية الجماعية على الإنتاج الدفاعي وشراء الأسلحة، وقد تقدمت تركيا بطلب للانضمام إلى البرنامج لدمج صناعتها الدفاعية المتنامية مع سلاسل التوريد الأوروبية، غير أن مشاركة الدول غير الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تتطلب موافقة سياسية من الدول الأعضاء، ورغم أن الموافقة تتطلب الأغلبية وليس الإجماع، فإن تركيا تخشى ممارسة أثينا ونيقوسيا ضغوطًا سياسية لمنع مشاركة أنقرة، إذ تعارض الدولتان الانضمام التركي في برنامج SAFE، معتبران أن أي مبادرة من شأنها تعزيز القاعدة الصناعية العسكرية التركية أمر خطير.
• قلق تركي من انعكاسات داخلية محتملة: لا يتوقف القلق التركي عند شكل صيغة الحل السياسي المطروحة للجزيرة، وإنما يمتد إلى أبعاد تتعلق بالسياسة الداخلية، فالحزب الجمهوري التركي، يتبنى الأيديولوجية ذاتها التي لحزب الشعب الجمهوري المعارض، الديمقراطية الاجتماعية، وهو ما يُثير مخاوف بشأن ميل المزاج الشعبي للتيار اليساري، في وقت يسعى فيه أردوغان لتثبيت حكمه، تأمين طموحاته السياسية بولاية رئاسية رابعة من خلال السياسات الداخلية المتعلقة باعتقال المرشحين المحتملين الأقوياء القادرين على المنافسة، وملاحقة حزب الشعب الجمهوري سياسيًا وقضائيًا، والتحالف مع الأكراد وممثلهم حزب المساواة وديمقراطية الشعوب في إطار عملية “تركيا خالية من الإرهاب”.
• محاولة تحقيق قدر من الاستقلالية عن تركيا: يرث إرهورمان اقتصادًا متراجعًا وإدارة عامة منهكة؛ فالتضخم المستورد من تركيا يُضعف القدرة الشرائية، بينما تدفع البطالة والهجرة الشباب بعيدًا عن الجزيرة، ومن ثم يسعى إرهورمان إلى تحقيق قدر من الاستقلال عن أنقرة، وخلال حملته الانتخابية، أشار إلى رغبته في فتح حوار مع الاتحاد الأوروبي، مؤكدًا أنه سيعمل على توسيع التجارة بموجب لائحة الخط الأخضر، وتمهيد الطريق لرحلات جوية مباشرة من مطار إركان، كما وعد بتنشيط التصنيع، ومحاربة الفساد، وزيادة الشفافية في الحكم، كما أثار مسألة الحوافز وإصلاحات التعليم لزيادة مشاركة المرأة في الحكومة ومنع هجرة الشباب من الجزيرة.
ومع ذلك، من الصعب تحقيق استقلال كامل أو مرضٍ عن تركيا في ظل التشابك العميق بين الطرفين على المستويين الاقتصادي والأمني، واعتماد جمهورية شمال قبرص التركية بدرجة كبيرة على الدعم التركي في مجالات التمويل والبنية التحتية والأمن. وفي هذا السياق، حرص إرهورمان عقب انتخابه على توجيه رسائل طمأنة إلى أنقرة لتجنب أي توترات أو ضغوط اقتصادية محتملة، مؤكدًا التزامه بتنسيق السياسات العامة والتحركات الخارجية مع الحكومة التركية.
ختامًا، تكشف الاتجاهات التصويتية في الانتخابات الرئاسية الأخيرة بجمهورية قبرص الشمالية التركية رغبة السكان، بما في ذلك القبارصة من أصل تركي والقبارصة الأتراك، في الوحدة والبقاء ضمن الاتحاد الأوروبي، وتحقيق قدر من الاستقلال عن تركيا. ومع ذلك، رغم التوقعات التي أثارتها نتائج العملية الانتخابية، فلا تزال قبرص الشمالية تعتمد بشكل رئيسي على تركيا في الاقتصاد والأمن، كما تتمتع أنقرة بالقول الحاسم في تطورات المشكلة القبرصية، وخاصة فيما يتصل بجوانبها الحيوية؛ الضمانات وانسحاب قواتها. وعليه، من غير المتصور أن تغير نتائج الانتخابات الوضع بشكل فوري، فقد يحاول إرهورمان تبني سياسة معتدلة ومنفتحة على الحوار تجاه تركيا، واستئناف المحادثات الأممية مع قبرص اليونانية، غير أن الجانب القبرصي اليوناني يبدو حتى الآن غير مستعد للتنازل عن الاشتراطات التي وضعها سابقًا خلال محادثات كرانس مونتانا وأدت إلى فشلها، كما أن تركيا متمسكة بصيغة حل الدولتين وسوف تعمل على إفشال الوصول لصيغة فيدرالية، مع استمرار مساعيها الخارجية للحصول على اعترافات دولية بالجمهورية الشمالية.
