مقدمة
تُعدّ قمة المناخ COP30، المقرر عقدها في مدينة بيلم البرازيلية في نوفمبر 2025، محطة حاسمة في مسار العمل المناخي الدولي، إذ تأتي بعد الانتهاء من أول عملية تقييم عالمي (Global Stocktake) لاتفاق باريس للمناخ، وما كشفته من فجوة عميقة بين الالتزامات الحالية ومسار الحد من الاحترار العالمي عند 1.5 درجة مئوية. كما أنها تأتي أيضًا بعد انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس للمناخ للمرة الثانية في ظل ولاية الرئيس “دونالد ترامب” وموقفه الواضح تجاه العمل المناخي وتحول الطاقة، وما اتخذه منذ توليه من قرارات وإجراءات للتراجع عن دعم مشروعات الطاقة المتجددة وخفض الانبعاثات.
هذه القمة تمثل لحظة انتقالية من مرحلة “التعهدات” إلى مرحلة “التنفيذ”؛ حيث تُطالَب الدول بتقديم نسخ محدثة من إسهاماتها الوطنية (NDCs) تعكس طموحًا أعلى واستراتيجيات أكثر واقعية وفاعلية للتخفيف والتكيّف، وفقًا لتوصيات الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC) وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة. لكنّ أهمية COP30 لا تقتصر على بعدها الفني، بل تمتد إلى بعدها الجيوسياسي والبيئي؛ فاستضافة البرازيل، صاحبة أكبر غابة استوائية في العالم (غابات الأمازون)، تمنح المؤتمر بعدًا رمزيًا ومعنويًا يربط بين حماية النظم البيئية والعدالة المناخية. ومن المتوقع أن تتركز المفاوضات كما هو معتاد سابقًا حول تمويل المناخ والتكيف والخسائر والأضرار، إلى جانب دفع النقاش العالمي نحو التحول العادل للطاقة وتحديد مسار تدريجي للتخلص من الوقود الأحفوري، وهو الملف الذي أثار انقسامًا حادًا في قمة دبي (COP28). وفي ضوء الديناميكيات الدولية الراهنة، تمثل بيلم اختبارًا لقدرة النظام المناخي العالمي على الانتقال من الوعود إلى الأفعال، ولكن في مرحلة صعبة للغاية مع تراجع موقف الولايات المتحدة من العمل المناخي العالمي.
وعليه يحاول المقال قراءة المشهد العالمي للعمل المناخي في ظل التغييرات العالمية الحالية، وكذلك أبرز الموضوعات التي يجب على قمة بيلم مناقشتها والخروج منها بحلول فاعلة وآليات تنفيذ وليست طموحات فقط.
أولًا: تحديث الإسهامات المحددة وطنيًا (NDCs)
تتطلب الدورة الحالية من قمة الأمم المتحدة للمناخ أن تُقدّم الدول نسخة محدثة من الإسهامات الوطنية (NDCs) في عام 2025، بحيث تستند هذه التحديثات إلى نتائج التقييم العالمي (Global Stocktake، وتحوّل توصياته إلى أهداف وخطط قابلة للتنفيذ. الإطار الرسمي لاتفاق باريس (المادة 4) يُلزم كل دولة بتحديث إسهاماتها المحددة وطنيًا كل خمس سنوات مع تعزيز طموحها بمرور الوقت. ووفق بيانات اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ (UNFCCC)، فإن الجولة القادمة من الإسهامات يجب أن تعكس التقدم العلمي والتقني وتُدمج فيها عناصر التخفيف، والتكيف، والتمويل المناخي، ضمن رؤية متكاملة للتنمية المستدامة. وتؤكد أمانة الاتفاقية أن نجاح القمة سيقاس بمدى التزام الدول بتقديم الإسهامات المحدّثة قبل نهاية عام 2025 وبمدى جودتها في خفض الانبعاثات فعليًا وليس شكليًا.
الواقع يُبرز التحدي الكبير الذي تواجهه هذه العملية؛ فبحسب تقرير فجوة الانبعاثات لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP Emissions Gap Report 2024) وتقارير الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC AR6)، فإن التعهدات الحالية للدول تُوجّه العالم نحو احترار يتراوح بين 2.5 و2.9 درجة مئوية بحلول نهاية القرن، بعيدًا عن مسار 1.5°درجة مئوية المنصوص عليه في اتفاق باريس. ويشير التقرير إلى أن خفض الانبعاثات العالمية بنسبة 42% بحلول عام 2030 ضروري للوفاء بالهدف الأكثر طموحًا. ومع ذلك، أظهر تحليل Climate Action Tracker أن أقل من ثلث الدول قدّمت خططًا جديدة أو محدثة متوافقة مع هذا المسار. لذلك، من المتوقع أن تركز مفاوضات COP30 على وضع آليات دعم فني وتمويلي تمكّن الدول النامية من تنفيذ NDCs واقعية وقابلة للقياس.
ثانيًا: تمويل المناخ في COP30: اختبار العدالة المناخية في غياب الولايات المتحدة
يُعدّ انسحاب الولايات المتحدة من اتفاق باريس للمناخ تطورًا مفصليًا من شأنه أن يُعيد رسم موازين القوى داخل المفاوضات في COP30، فالولايات المتحدة كانت لعقود أحد أهم أركان منظومة التمويل المناخي، من خلال إسهاماتها في صندوق المناخ الأخضر (GCF) ومبادرات “الانتقال العادل للطاقة”. غير أن غيابها يعيد إلى الواجهة أزمة الثقة بين الشمال والجنوب، ويعزز الانقسام حول مفهوم “المسئولية التاريخية” وعدالة الأعباء. كما يضع عبئًا إضافيًا على الاتحاد الأوروبي واليابان وكندا لتعويض النقص في التمويل، في وقت تعاني فيه هذه الاقتصادات من تباطؤ النمو وارتفاع المديونية؛ مما يضعف قدرتها على سد فجوة التمويل المناخي المتنامية.
في هذا السياق، يتوقع أن تتحول مفاوضات COP30 من مسار التوافق إلى مسار المطالبة والمساءلة، خصوصًا في محور التمويل؛ حيث تضغط الدول النامية لإقرار الهدف المالي الجماعي الجديد لما بعد 2025 (NCQG)، ليحل محل تعهد الـ100 مليار دولار السنوي الذي لم يُنفذ بالكامل منذ عام 2009. وتشير تقارير اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية لتغير المناخ إلى أن هذا الهدف الجديد يجب أن يأخذ في الاعتبار احتياجات التخفيف والتكيف والخسائر والأضرار، مع ضمان أن يكون التمويل واقعيًا وميسّرًا وقابلًا للقياس. ووفقًا للبيانات الرسمية، بلغ إجمالي التمويل المناخي من الدول المتقدمة نحو 115.9 مليار دولار عام 2022، إلا أن أكثر من 70% منه جاء في شكل قروض؛ مما أثار انتقادات من دول الجنوب التي تطالب بزيادة المنح لتخفيف أعباء الديون. وفي ظل غياب أمريكا، يُتوقع أن تتقدم كل من البرازيل والصين لقيادة تحالف جديد من دول الجنوب لإعادة تعريف العدالة المناخية، عبر ربط حماية الغابات بتمويل التنمية، وهو توجه قد يغيّر طبيعة الحوار المالي داخل مفاوضات المناخ.
تؤكد تحليلات برنامج الأمم المتحدة للبيئة أن الفجوة بين احتياجات الدول النامية للتكيف والتمويل المتاح تتراوح بين 194 -366 مليار دولار سنويًا، بينما تظهر بيانات Climate Policy Initiative ، أن نحو 90% من تدفقات تمويل المناخ العالمي لا تزال موجهة إلى التخفيف، لا إلى التكيف أو معالجة الخسائر والأضرار. هذا الخلل الهيكلي في التوزيع يدفع نحو بحث آليات تمويل مبتكرة، مثل فرض رسوم على انبعاثات الشحن والطيران أو على أرباح شركات الوقود الأحفوري. وهكذا، تمثل COP30 اختبارًا مفصليًا للنظام المناخي العالمي، لتحديد ما إذا كان بإمكانه الصمود في غياب القيادة الأمريكية، وتحويل التعهدات إلى التزامات مالية ملزمة تُعيد بناء الثقة بين الدول المتقدمة والنامية، وتضع أسس نظام تمويلي أكثر عدالة واستدامة يُمكّن الدول النامية من مواجهة التحديات المناخية المتسارعة.
ثالثًا: التحول الطاقي العالمي إلى أين؟
يتوقع أن يحتل التحول في قطاع الطاقة موقعًا مركزيًا في قمة المناخ COP30، إذ يُعدّ تسريع مشروعات الطاقة المتجددة وزيادة كفاءة الطاقة مفتاحًا لإغلاق فجوة الانبعاثات قبل عام 2030. وتلتزم رئاسة القمة في بيلم بدفع هدف زيادة الطاقة المتجددة إلى ثلاثة أضعاف ومضاعفة معدل كفاءة الطاقة السنوي بحلول 2030، غير أن تقديرات وكالة الطاقة الدولية (IEA) تشير إلى أن وتيرة النمو الحالية لا تزال دون المستوى المطلوب. فعلى الرغم من تسجيل عام 2024 نموًا قياسيًا بلغ 560 جيجاوات من الإضافات الجديدة، بزيادة 64% عن العام السابق بفضل توسع الطاقة الشمسية في الصين والولايات المتحدة والهند، إلا أن تحقيق الهدف العالمي يتطلب تسريع وتيرة السياسات والحوافز والاستثمارات الوطنية وتطوير البنية التحتية للطاقة.
في المقابل، يواجه الانتقال الطاقي العالمي تحديات هيكلية كبيرة، أبرزها استمرار الاعتماد على الوقود الأحفوري وارتفاع تكاليف التمويل في الدول النامية، إلى جانب ضعف شبكات النقل والتخزين. فبحسب تقرير التوقعات العالمية للطاقة 2024، لا يزال الطلب على الفحم والنفط مرتفعًا في عدة مناطق آسيوية وأفريقية؛ مما يجعل خفضه تدريجيًا أولوية تتطلب تمويلًا عادلًا وآليات تعويض للعاملين في القطاعات التقليدية. كما تُظهر بيانات UNFCCC Technical Dialogue أن تمويل التحول الطاقي في البلدان النامية لا يتجاوز20 % من الاحتياجات الفعلية المقدّرة حتى عام 2030، وهو ما يستدعي تعزيز الشراكات الدولية والاستثمارات الخضراء الميسّرة. لذلك، سيكون نجاح COP30 مرهونًا بقدرته على تحويل الأهداف إلى خطط وطنية ممولة زمنيًا، توازن بين العدالة المناخية والأمن الطاقي والتنمية المستدامة.
رابعًا: وماذا عن أسواق الكربون
من المتوقع أن تحتل أسواق الكربون تحت مظلة المادة السادسة من اتفاق باريس مكانة بارزة في جدول أعمال COP30، باعتبارها أداة محتملة لربط التخفيف بالتمويل وجذب الاستثمارات إلى مشاريع خفض الانبعاثات والتنمية المستدامة. وفقًا لتقرير International Emissions Trading Association (IETA) ، فإن القمة ستُركّز على التنفيذ العملي للآليات الخاصة بـالمادة 6.2 (التعاون الثنائي/تعدد الأطراف) والمادة 6.4 (آلية اعتماد ائتمانية) بهدف تحويل المعايير إلى تدفقات مالية فعلية.
لذا، فإن مقياس نجاح أسواق الكربون في COP30 لن يُعد فقط بصدور سياسات أو قواعد، بل بمدى تنفيذها العملي؛ وحجم التداولات وجودة الاعتمادات، وضمان أن الإيرادات تنتقل إلى تمويل التكيّف والخسائر في دول الجنوب وليس فقط للتخفيف في الدول الغنية.
الخاتمة
يبدو أن قمة المناخ القادمة في بيلم – البرازيل (COP30) ستقف أمام مفترق حاسم بين سيناريوهين متوقعين: إما سيناريو التنفيذ الحقيقي أو سيناريو التوافق الرمزي. ففي السيناريو الأول: تنجح الدول في تحويل الوعود إلى التزامات قابلة للتنفيذ، عبر الاتفاق على هدف تمويلي جديد واضح (New Collective Quantified Goal – NCQG) يضمن تمويلًا فعليًا للدول النامية، مع آليات شفافة لتتبع الإنفاق وتقييم الأثر، بجانب إطلاق موجة ثانية من خطط العمل الوطنية (NDCs) أكثر طموحًا وارتباطًا بالتحول الطاقي والعدالة المناخية، –رغم غياب دور الولايات المتحدة– لأنه وفقًا لتحليلات الوكالة الدولية للطاقة، فإن رفع الاستثمار السنوي في الطاقة النظيفة إلى أكثر من 4 تريليونات دولار بحلول 2030 هو الشرط الوحيد لضمان تحقيق مسار 1.5 درجة مئوية؛ مما يجعل COP30 فرصة تاريخية لإعادة ضبط العلاقة بين التمويل والمناخ. ويُتوقع في هذا السيناريو أن يُعلن عن برامج واقعية لخفض الفحم، وتعزيز الحماية المناخية لغابات الأمازون، وإدماج أسواق الكربون ضمن أطر واضحة وشفافة تضمن النزاهة البيئية.
أما السيناريو الثاني: فيتمثل في استمرار فجوة الطموح والتنفيذ؛ حيث تكتفي القمة ببيانات سياسية عامة ووعود غير ممولة، دون تقدم حقيقي في ملفات التمويل وسبل التكيف. وتشير تقارير برنامج الأمم المتحدة للبيئة إلى أن الالتزامات الحالية لا تغطي سوى ثلث الخفض المطلوب بحلول 2030؛ مما يعني أن أي تأجيل إضافي سيجعل تحقيق أهداف اتفاق باريس شبه مستحيل. وفي هذا السيناريو، قد تتحول COP30 إلى منصة رمزية للخطابات بدل أن تكون نقطة انطلاق لتغيير هيكلي في الاقتصاد المناخي، خاصة إذا لم تُترجم الدعوات إلى أرقام ومواعيد محددة.
وفي النهاية: لا تفصلنا سوى أيام لنشهد فاعليات قمة بيلم للمناخ، والتي تعتبر اختبارًا حقيقيًا لمدى جدية المجتمع الدولي في الانتقال من مرحلة “التعهدات” إلى مرحلة “التنفيذ”. فالخيارات اليوم واضحة: إما ترسيخ نظام تمويلي وإنمائي عادل يمكّن كل الدول من التحول الطاقي المستدام، أو الاستمرار في حلقة الوعود المؤجلة التي تترك المناخ في مسار خطر يتجاوز درجتين مئويتين من الاحترار. وبين هذين المسارين، تحدد الشفافية، التمويل، والتعاون الدولي ما إذا كان العالم سيتحرك نحو تحول واقعي أم سيكتفي بمشهد سياسي دون أثر بيئي حقيقي.
المراجع:
- برنامج الأمم المتحدة للبيئة. (2024). تقرير فجوة الانبعاثات 2024: “لا مزيد من الهواء الساخن … من فضلك!”، نايروبي: UNEP. https://www.unep.org/resources/emissions-gap-report-2024
- برنامج الأمم المتحدة للبيئة. (2023). تقرير فجوة التكيّف 2023: تحت-تمويل وغير مُستعدّ. نايروبي: https://www.un.org/en/climatechange/reports
- الأمم المتحدة. (2023). تقرير التقييم السادس — الملخّص التنفيذي (AR6). جنيف: IPCC. https://www.unep.org/resources/emissions-gap-report
- الوكالة الدولية للطاقة. (2024). نظرة عالمية على الطاقة 2024 (World Energy Outlook 2024). باريس: OECD/IEA. https://www.europarl.europa.eu/RegData/etudes/STUD/2025/772482/ECTI_STU%282025%29772482_EN.pdf
- https://carbon-pulse.com/431528/
- معهد موارد العالم. (2025). ماذا ينتظر من COP30؟. واشنطن: WRI. https://www.wri.org/technical-perspectives/cop30-questions-vulnerable-countries






























